زكاة المساهمات العقارية المتعثرة
يوسف بن أحمد القاسم
المقدمة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:
فإن من أهم ما ينبغي أن تستنهض له همم الباحثين في مجال الفقه، هو استقراء المسائل النازلة، واستنباط الأحكام الشرعية المناسبة لها من أدلة الكتاب والسنة، أو من القواعد الشرعية، والمقاصد الكلية، مع محاولة استنتاج هذا الحكم من كلام أهل العلم بواسطة التخريج والقياس، وبهذا يمكن أن نسدَّ ثغرة في هذا المجال المهم من مجالات العلم الشرعي.
هذا، وإن من المسائل النازلة في هذا العصر الاستثمار في المساهمات العقارية، وقد نشط الإقبال في الآونة الأخيرة على هذا النوع من المساهمات، ولاسيما تلك التي تبشر بحجم هائل من الأرباح، وكثيرا ما يعترض هذه المساهمات بعض المخاطر والعقبات التي تحول دون نجاح هذا النوع من الاستثمار، إما لوقوع كذب واحتيال من القائمين على هذه المساهمات، أو للوقوع في بعض المخالفات النظامية، أو غير ذلك، مما أدى إلى وقوع التعثر في مساهمات عقارية عديدة، وغالبا ما يستمر التعثر لسنوات تتجاوز المدة النظامية لتصفية المساهمة، ولهذا كثر سؤال الناس عن حكم زكاة هذه الأسهم التي حيل بينهم وبين الانتفاع بها أو تحصيل قيمتها، ومن هنا كانت الحاجة ماسة إلى تقديم بحث فقهي حول هذه النازلة.
خطة البحث
وقد وفقت الهيئة الإسلامية للاقتصاد والتمويل في اختيار هذا الموضوع ليكون محورا من محاور ندوتها العلمية الأولى؛ لمسيس الحاجة إليه، وقد أسند إليّ الكتابة في هذا الموضوع، ووضعت له الخطة الآتية:
الفصل الأول: حقيقة المساهمات العقارية المتعثرة
وفيه أربعة مباحث:
المبحث الأول: المقصود بالمساهمات العقارية المتعثرة.
المبحث الثاني: ضابط التعثر.
المبحث الثالث: أسباب تعثر المساهمات العقارية.
المبحث الرابع: مدى اعتبار القيمة السوقية للمساهمات المتعثرة.
الفصل الثاني: حكم زكاة المساهمات العقارية المتعثرة
الخاتمة: وفيها أبرز النتائج، والتوصيات.
الفصل الأول: حقيقة المساهمات العقارية المتعثرة
المبحث الأول: المقصود بالمساهمات العقارية المتعثرة
قبل الشروع في بيان المقصود بهذه المساهمات، لابد من بيان معنى مفردات عنوان البحث، فأقول:
المساهمات في اللغة: جمع سهم، وهو الحظ والنصيب، والشيء من مجموعة أشياء، يقال أسهم الرجلان: إذا اقترعا، وذلك من السُهْمة.
والنصيب: أن يفوز كل واحد منهما بما يصيبه، قال الله - تعالى -: (فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنْ الْمُدْحَضِينَ)[1] ثم حمل على ذلك، فسمي السهم الواحد من السهام، كأنه نصيب من أنصباء، وحظ من حظوظ، وهذا هو أحد المعاني التي ذكرها ابن فارس[2] في تعريف السهم، وهو المتعلق بموضوعنا.
وجاء في المعجم الوسيط[3]: "ساهمه: قاسمه، أي أخذ سهماً، أي نصيباً معه، ومنه شركة المساهمة" أ.هـ.
وهي في الاصطلاح: ما يمثِّل الحصص التي يقدمها الشركاء عند المساهمة في مشروع الشركة، سواء أكانت حصصاً نقدية أم عينية، ويتكون رأس المال من هذه الأسهم.
وقيل هي: صكوك تمثِّل أنصباء عينية أو نقدية في رأس مال الشركة، قابلة للتداول، تعطي مالكها حقوقاً خاصة[4].
والعقارية: جمعها عقارات، والمفرد عقار، وهو في اللغة: كل ماله أصل وقرار ثابت كالأرض والدار والضياع والنخل. وقال بعضهم: ربما أطلق على متاع البيت، يقال: في البيت عقار حسن، أي متاع وأداة[5].
والعقار في الاصطلاح: هو الثابت الذي لا يمكن نقله وتحويله من مكان إلى آخر، كالأرض والدار[6].
وبهذا يكون تعريف المساهمة العقارية باعتبارها لقبا: هي مشروع عقاري لأرض خام، يتم تقسيمها وتخطيطها وفق نظام معين، أو يتم بناؤها على شكل وحدات سكنية أو محلات تجارية أو نحو ذلك، ثم يتم إصدارها بصيغة أسهم تغطي قيمة المشروع، ثم تطرح في المزاد وتباع لصالح المساهمين بعد الفراغ من التخطيط والإنشاء، وبعد بيع قطع الأراضي أو الوحدات السكنية وتصفية المساهمة، يتم إعطاء المساهمين حقوقهم منها حسب ما يملكون من أسهم، وما تحصل لديهم من أرباح.
وأما المتعثرة، فهي في اللغة: من عَثَر، يَعْثُر، عِثاراً، إذا كبا، أو سقط، ومنه العَثْرة: أي الزَلَّة، يقال: عثر به فرسه فسقط، وتعثر لسانه: تلعثم. والعواثير: جمع عاثور، وهو المكان الوعث الخشن؛ لأنه يعثر فيه. وقيل: هو الحفرة التي تحفر للأسد، واستعير هنا للورطة والخطة المهلكة. وأما العواثر، فهي جمع عاثر وهي حبالة الصائد، أو جمع عاثرة، وهي الحادثة التي تعثر بصاحبها[7].
والمتعثرة في الاصطلاح: ذهب بعض الباحثين في مجال الاقتصاد إلى أن الشركة المتعثرة هي التي حققت خسائر لمدة ثلاثة أعوام متتالية، معتبرين الشركة التي حققت خسائر لمدة عامين متتاليين شركة شبه متعثرة. وهذا يذكرنا بحد بعض المالكية للعروض التجارية الكاسدة، وأنها تضبط بسنتين[8]، ولاشك أن الكساد نوع من أنواع التعثر في عرف التجار وإن لم يكن هذا النوع مراداً في هذا البحث.
وذهب بعض الباحثين الاقتصاديين إلى تقسيم تعثر الشركات إلى قسمين:
1- تعثر اقتصادي: وهو عدم قدرة إيرادات الشركة على تغطية نفقاتها، أو انخفاض صافي القيمة الحالية للاستثمار.
2- تعثر مالي: ويمكن أن يأخذ المظهرين التاليين:
أ*- عجز عن مواجهة الالتزامات قصيرة الأجل بالرغم من تعويض موجودات الشركة لالتزاماتها (أزمة سيولة مالية).
ب*- عجز الشركة عن مواجهة الالتزامات المتحققة (الإفلاس) أي عدم وجود رأس المال العامل واللازم لتغطية الدورة التشغيلية للشركة[9].
وبكل حال فالتعثر على هذا الاصطلاح غير مراد للباحث هنا؛ لأن وقوع الشركة المساهمة في وحل الخسائر المتتالية ليس له أثر في إسقاط الزكاة مادام أن لأسهم الشركة قيمة سوقية، خلافاً لقول بعض المالكية في العروض التجارية الكاسدة، وأنها تلحق حكماً بتجارة المحتكر، وهو قول لا يسنده الدليل، فالزكاة إنما تجب في العروض لأنها أموال مرصدة للنماء كالنقود، سواء أنمت بالفعل أم لا، وسواء ربحت أم خسرت[10]، ولهذا لم أخصص مبحثاً خاصاً بالمساهمات العقارية الكاسدة؛ لأن لها قيمة سوقية مهما كان سقفها.
وأما المساهمات المتعثرة في اصطلاح الباحث: فهي مجموع الأسهم العقارية التي لا يستطيع ملاكها الانتفاع بها، ولا تحصيل قيمتها؛ بسبب عارض مفاجئ لا يعرف متى يزول.
وبهذا ندرك العلاقة الواضحة بين التعريف اللغوي والاصطلاحي، فالمساهمات حين تعثرت، فإنها قد زَلَّت أو تأخرت عما أنشئت لأجله، كما أنها عثرت بصاحبها فلا يمكنه الانتفاع بها، وبهذا وقع في ورطة مالية، أو كأنه وقع في حفرة لا يستطيع الخلاص منها.
وبعد هذا التوضيح المختصر لمفردات عنوان البحث لغة واصطلاحاً، يظهر لنا المقصود بالمساهمات العقارية المتعثرة، وأنها تلك الأموال التي يساهم بها الشخص في عقار ما، كأرض خام يراد تخطيطها وبيعها على سبيل التجزئة، أو يراد استثمارها ببنائها وبيعها كمساكن ونحو ذلك، ثم يفاجأ المشتركون في هذه المساهمة بتعثرها، وعدم قدرتهم على تحصيل حقوقهم المالية من هذه المساهمة.
المبحث الثاني: ضــابط التعثر
بما أن الحكم الشرعي منوط بوقوع التعثر، فمتى إذاً نحكم بوقوعه؟ والواقع أن لدينا أنواعاً ثلاثة للمساهمات:
1- المساهمات العقارية الواقعة ما قبل عام (1403هـ) وهذه لم تحدد مدة تصفيتها من الجهات الحكومية المنظمة ذات العلاقة.
2- المساهمات العقارية الواقعة مابين عام (1403- 1424هـ) وهذه قد حدد الأمر السامي مدة إنهائها، وذلك بأن تصفى خلال مدة أقصاها (ثلاث سنوات).
3- المساهمات العقارية الواقعة سنة (1424هـ) وما بعدها، وهذه قد حدد النظام الجديد مدة التصفية، لكنه فرق بين مساهمات الأراضي وبين مساهمات الوحدات السكنية، فحدد الأولى بمدة أقصاها ثلاث سنوات، وحدد الثانية بمدة أقصاها سنتين من تاريخ إتمام البناء واستلامه من المقاول، إلا أنه بسؤال أحد المختصين في الغرفة التجارية، أفاد بأن عدم تصفية المساهمة لا يعد تعثراً في نظرهم إلا بعد النظر في أسباب التعثر، وذلك لأن بعض أسباب عدم التصفية ناتجة عن أمور خارجة عن إرادة مدير المساهمة، ومن ذلك تداخل صك عقار المساهمة مع الأراضي المجاورة، أو ظهور مالك آخر لأرض المساهمة، ومن ذلك أيضاً كساد العقار، فهذه الأسباب ونحوها مما لا يدخل في إرادة المدير، ولهذا لا تعد هذه المساهمات في نظر المسئولين من المساهمات المتعثرة.
وبعد بيان ما تقدم، هل يمكن ضبط التعثر بعدم تصفية المساهمة خلال المدة النظامية؟
الواقع أنه يفرق أولاً بين المساهمات العقارية القديمة الواقعة قبل عام (1403هـ) وبين المساهمات الواقعة بعد هذا العام، فالمساهمات القديمة لم تحدد مدة التصفية بمدة معينة، وهنا هل يقال بوضع مدة محددة يضبط من خلالها الحكم بالتعثر؟ الحقيقة أنه لا يمكن ضبطها بفترة زمنية محددة؛ وذلك لعدم وجود نص من الشارع ولا من الجهات المختصة يحدد هذه الفترة، وفي الزمن القديم ذكر الفقهاء كلاماً حول بعض القضايا المتعلقة بالتعثر، فقد ذكر بعض فقهاء الحنفية[11] أن مطل المدين يثبت بالتأجيل والمدافعة ثلاث مرات، والمماطلة شكل من أشكال التعثر في تحصيل الحق، وهو يشبه ما نحن بصدد الحديث عنه بوجه ما، على ما سيأتي، كما ذكر بعض فقهاء المالكية أن الكساد أو البوار يحد بعامين، وهو شكل آخر أيضاً من أشكال التعثر، كما أشرت إليه آنفا، وحيث إن هذا التحديد لا دليل عليه، لذا، فالأظهر- والله أعلم- أنه يرجع في ضبط تعثر هذا النوع من المساهمات بالعرف، كما هي القاعدة الشرعية في كل ما لم يأت النص بتفسيره كالحرز، والقبض، ونحو ذلك. وبالتالي فإن المساهم إذا لم يتمكن من تحصيل أمواله التي شارك بها في تلك المساهمات، وتكررت مطالباته بحقوقه المالية، ولم تجد تلك المحاولات بما يعد عرفا تعثرا، فإن مساهماته تلك تعتبر في حكم الذي تعثر تحصيله، وعند الشك في وقوع التعثر، فإن الأصل عدم وقوعه؛ لما تقرر شرعاً بأن اليقين لا يزول بالشك.
أما المساهمات العقارية الواقعة بعد عام (1403هـ) فهذه لا يمكن أن يحكم بالتعثر فيها قبل مرور مدة التصفية؛ لأن للمدير أن يصفي المساهمة أول المدة أو آخرها بقوة النظام وإن كان كثير من المساهمين يجهل ذلك، فإذا انتهت هذه المدة، فإنه يلزم بإعادة كامل قيمة الأسهم المكتتب بها إلى المساهمين في مدة لا تزيد عن ثلاثين يوما من تاريخ إلغاء المساهمة، فإن مضت هذه المدة ولم يسدد، فإنه يحكم بالتعثر ولو كان عدم التصفية خلال تلك المدة بسبب خارج عن إرادة المدير؛ لأن المال لم يعد نامياً، ولا في حكمه.
المبحث الثالث: أسباب تعثر المساهمات العقارية
تتعثر المساهمات العقارية لأسباب عدة، أهمهما ما يلي:
1- تلاعب مؤسس المساهمة بأموال المساهمين، حيث يوهمهم أول الأمر بأنه يريد فتح مساهمة في مخطط ما، ثم يقوم بتوظيف أموالهم في استثمار آخر غير معروف، وربما وظف جزءاً من أموالهم في هذا المخطط المعلن عنه، ثم يوظف الباقي في مجالات استثمارية أخرى مجهولة داخل البلد أو خارجه، كما يشهد الواقع بذلك في أمثلة كثيرة، وربما استثمر أموال المساهمين في مجالات بيع وهمية أو مشبوهة، مما يؤدي في كثير من الأحيان إلى تعثر مفاجئ، لا يعرف سببه.
والأدهى من هذا أن يعمد بعض القائمين على المساهمات العقارية إلى تأخير إنجاز بعض الإجراءات النظامية الخاصة بالمساهمة؛ بهدف استثمار أموال المساهمين في سوق الأسهم أو غيره، وتحقيق مكاسب مادية من جيوب المساهمين بأسرع وقت ممكن!
2- تجميد تلك المساهمات العقارية من قبل الجهات الرسمية، وذلك للأسباب الآتية:
أ- مخالفات نظامية، ففتح المســــاهمة- مثلا- في أرض ما بالممـــلكة، يتطـــلب تحقـــيق مجمـوعة من الشـــروط النظـامية لفتـح هذه المساهمة، ومخالفة هذه الشروط يوقع المســاهمة برمتــها في فـخ التعثر، ومن هذه الشروط:
1. أنه لا يجــــوز طرح أي مساهمة عقارية من أي نوع أو الإعلان عنها إلا بعــد موافقــة وزارة التجارة والصناعة.
2. أن تكون الأرض محل المســاهمة ممــــلوكة بصــــك شرعي ســاري المفعـــول، ومستــوف للإجراءات النظامية.
3. أن يعتمد مخطـــط الأرض محل المســــــاهمة من الأمـــانة، أو البلدية المختصة.
4. أن يعين لمراقبة المساهمة محاسب قانوني مرخص له.
5. أن يفتح للمساهمة حساب مستقل في أحد البنوك المحلية.
6. أن لا تزيد مدة الاكتتاب عن تسعين يوما، وتلغى المساهمة إذا لم تغــط كامل قيمة الأســهم خــلال تلك المدة، ويتعين على المكتب إعادة كامل قيمة الأســهم المكتتب بها إلى المساهمين في مدة لا تزيد عن ثلاثـــين يوما من تاريخ إلغاء المساهمة.
7. أن تغلق المساهمة فور الاكتتاب بجميع الأسهم المطروحة للاكتتـــاب، وأن لا يتم استلام مبالغ أكثر منها[12].
8. أن لا تزيد مدة المساهمة عن ثلاث سنوات وأن تصفى المســـاهمة عن طريق بيع الأرض محلها في المزاد العلني، أما الوحدات العقــــــارية فيجب أن تصفى خلال سنتين من تاريخ إتمام البنــــاء واستلامـــه من المقاول.
هذه بعض الشروط أو الضوابط التي يجب توفرها لطرح أي مساهمة عقارية بالمملكة، والواقع يشهد أن كثيراً من المستثمرين أو أصحاب المكاتب العقارية يتحايل على هذه الضوابط النظامية، وللأسف أنه يجد أحياناً من يتآمر معه من بعض الجهات الرسمية، فتراه- مثلا- يعلن عن الأرض محل المساهمة في الصحف المحلية، وأنها مملوكة بصك شرعي رقم(...) وتاريخ(... )، وهي كذلك مملوكة بصك شرعي، لكنها ليست مملوكة له، بل لغيره! [13].
وأيضاً فإن نسبة كبيرة من المساهمات العقارية، قدرها بعض العقاريين بنسبة (90%) لا تدفع قيمة الأرض فيها بالكامل، وإنما يدفع مؤسس المساهمة عربونا إلى مالك الأرض، لغرض إجراء المبايعة، ويشترط فيها المالك دفع باقي القيمة خلال مدة معينة، ومتى مضت هذه المدة يعتبر العقد لاغياً، ثم يقوم المؤسس بالإعلان عن هذه المساهمة، وهو لا يملك العقار، وبالتالي تكون المساهمة عرضة للتعثر متى ما عجز عن تسديد كامل المبلغ للبائع في المدة المحددة.
وقد تقع المخالفة للجهل بأنظمة طرح المساهمات العقارية، أو لصدور نظام لاحق يوقع المساهمة في فخ المخالفة؛ لوجود بعض الثغرات في الأنظمة ذات العلاقة، وذلك كطرح مساهمة في أرض معينة، ثم يتبين بعد جمع أموال المساهمين أنها خارج النطاق العمراني، مما لا يمكن القائمين على هذه المساهمة من تخطيطها وتقسيمها، وبهذا تتعثر المساهمة؛ لأنه لا يسمح ببيعها إلا كأرض خام، وبهذا يكسد هذا العقار، ويماطل القائمون عليه في بيعه؛ لما سيحققه من خسائر لو عرض للبيع.
ب- تظلم بعض المساهمين لدى الجهات المختصة ضد القائمين على تلك المساهمات، بسبب المماطلة في صرف مستحقاتهم المالية؛ لأسباب غير معروفة لديهم.
ج- ظهور خصومة في ذلك العقار، إما في ملكيته كله، أو بعضه، مما يستدعي إيقاف العمل في تلك المســـاهمة، حتى تفصــــل الجهـــة القضــــائية لصالح المساهمين، أو ضدهم، وكثـــيراً ما يقع النـــزاع في الملــكية بسبب تداخل صكوك الأراضي المطروحة للمســاهمة مع صكوك الأراضـي المجـــاورة، وأحيانا يحصل النزاع بسبب وفاة مؤسس هذه المساهمة، فيقع المساهمون فريسة لمماطلة بعض الورثــة أو لاخـــتلافهم، وربما تطال الخصومة أرض المحكمة، مما يساهم في إطالة أمد التعثر.
3- عدم كفاءة بعض القائمين على هذه المساهمات، ودخولهم غمار تجارة المساهمات العقارية دون سابق خبرة أو تجربة، ودون دراسة للجدوى الاقتصادية من هذه المساهمة أو تلك، فتطرح الأسهم بقيمة معينة، ثم يفاجأ ذلك المؤسس بارتفاع المصاريف الخاصة بتخطيط المساهمة، وما تحتاجه من خدمات، وشوارع، وأرصفة، وإنارة، وبنى تحتية، مما يكون سببا في عرض أراضي المساهمة بقيم مرتفعة، يرشحها للبقاء مدة طويلة دون بيع أو تصفية؛ لارتفاع القيمة إلى أسعار غير حقيقية، ولرفض القائم على المساهمة ببيعها بسعر السوق ولو بخسارة، ومماطلته أصحاب الحق عاماً بعد عام، مما يطيل في مدة التعثر إلى أجل غير معروف[14].
المبحث الرابع: مدى اعتبار القيمة السوقية للمساهمات المتعثرة
كثير من هذه المساهمات المتعثرة، يبادر أصحابها بالتخلص منها، وذلك ببيعها ولو بثمنٍ بخس، إما لحاجته الماسة لهذا المال، وإما خوفاً من فشل المساهمة برمتها، وربما أعلن عن هذه الأسهم المعروضة للبيع في أعمدة الصحف، أو عبر منتديات الإنترنت، فيبادر بعض الناس بشرائها بأقل من قيمتها المدونة في تلك العقود، طمعاً في تحصيلها من الجهة المعنيَّة، والظفر بقيمة السهم التي تفوق سعر الشراء.
وفي الحقيقة أن هذه القيمة السوقية للأسهم المتعثرة لا اعتبار لها في الشرع؛ لأنها مبنية على الغرر، وهو بيع ما هو مجهول العاقبة[15]، فالمشتري لهذه الأسهم لا يدري هل يحصِّل قيمة السهم، أو يحصل بعض القيمة، أو لا يحصل شيئاً، وكذا البائع لا يدري ما يحصِّله المشتري[16]، وقد (نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الغرر) كما في الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه[17] عن أبي هريرة - رضي الله عنه -. وهذه الصورة من البيع المجهول العاقبة، هي كبيع العبد الآبق والبعير الشارد، حيث يبيعه صاحبه بثمن بخس، ولا يدري هل يظفر به المشتري، أو لا، فإن ظفر به غُبِن البائع، وإلا غُبِن المشتري، كما صرح بذلك شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - في قواعده النورانية[18]، حيث قال: "والغرر هو المجهول العاقبة، فإن بيعه من الميسر الذي هو القمار، وذلك أن العبد إذا أبق، أو الفرس أو البعير إذا شرد، فإن صاحبه إذا باعه، فإنما يبيعه مخاطرة، فيشتريه المشتري بدون ثمنه بكثير، فإن حَصَل له قال البائع: قمرتني، وأخذت مالي بثمن قليل. وإن لم يحصُل، قال المشتري: قمرتني، وأخذتَ الثمن مني بلا عوض، فيفضي إلى مفسدة الميسر التي هي إيقاع العداوة والبغضاء، مع ما فيه من أكل المال بالباطل، الذي هو نوع من الظلم"أ. هـ.
وما ذكره شيخ الإسلام - رحمه الله - هو واقع بعينه في بيع مثل هذه الأسهم المتعثرة، وإذا كان الشارع الحكيم قد منع بيع الطير في الهواء، والسمك في الماء؛ لعدم القدرة على التسليم، مع كون الواحد منها قد لا يساوي خمسة ريالات، فما الظن ببيع أسهم متعثرة بآلاف الريالات، مع عدم قدرة صاحبها على تسليم سهم واحد منها، فضلاً عن تسليمها برمتها، وعلى هذا، فلا يصح القول بإخراج الزكاة وفق هذه القيمة التي لم يعتبرها الشارع، والله - تعالى -أعلم.
الفصل الثاني: حكم زكاة المساهمات العقارية المتعثرة
في الحقيقة لم أقف على بحث علمي حول هذا الموضوع، على الأقل في حدود اطلاعي المتواضع، ولهذا فإني أحاول الاجتهاد في التخريج لهذه المسألة- حسب الطاقة- سائلاً الله - تعالى -التوفيق والسداد، فأقول:
في بحث لي سابق حول زكاة الأسهم المتعثرة، رأيت أن المساهمات المتعثرة يمكن تخريجها على مماطلة المدين وإعساره، أو على المال الضمار، وذلك حسب واقع التعثر، إلا أن الكلام هناك كان حول المساهمات المتعثرة غير المرخصة، والتي كان يروج لها ويشرف عليها شركات توظيف الأموال، وهي شركات غير خاضعة لنظام معين، ومن ذلك نظام مدة التصفية، أما هذا الموضوع الذي بين أيدينا فهو في المساهمات العقارية خاصة، وأيضا فإن أغلبها يخضع لنظام مدة التصفية، ولهذا احتاج هذا الموضوع إلى تفصيل آخر، وذلك بأن ينظر إلى مدة التصفية اللازمة للمساهمة، وإلى السبب المؤدي إلى التعثر، وإلى واقع المال المتعثر، هل تحول من نقد إلى عروض[19]، أو لا؟ وتفصيل ذلك على النحو الآتي:
لا يخلو تعثر المساهمة، إما أن يكون بعد شراء العقار (محل المساهمة) وتحويل النقد إلى عروض، أو أن يكون قبل ذلك، فإن كان بعد الشراء وتحول النقد إلى عرض، فلا يخلو إما أن يكون تعثر المساهمة بسبب مدير المساهمة، وإما أن يكون بسبب طرف خارجي كالدوائر الحكومية المختصة، فإن كان بسبب المدير، وكان التعثر ناتجاً عن كساد العقار، فهذا تجب فيه الزكاة كل عام- خلافاً للمالكية- لأن لأسهم هذا العقار قيمة سوقية، ويجوز للمساهم أن يبيع نصيبه ولو بالعقد من الباطن. أما إن كان التعثر ناتجاً عن مماطلة المدير في تصفية المساهمة، فهذا يخرّج حكمه على مماطلة[20] المدين للدائن[21]، وأثره في وجوب الزكاة عليه، وقد اختلف الفقهاء في هذه المسألة على ثلاثة أقوال:
- القول الأول: أنه تجب فيه الزكاة، فيزكيه إذا قبضه لما مضى، وهذا هو مذهب الحنفية[22]، والشافعية على القول الجديد وهو المذهب[23]، والحنابلة على رواية وهي الصحيح من المذهب[24]، وهو قول الثوري، وأبي عبيد[25].
- القول الثاني: أنه يزكيه إذا قبضه لسنة واحدة، وهذا هو مذهب المالكية[26]، وهو قول عمر بن عبد العزيز، والحسن، والليث، والأوزاعي[27].
- القول الثالث: أنه لا تجب فيه الزكاة بحال، وهذا هو القول القديم للشافعية[28]، ورواية عند الحنابلة[29]، وهو قول قتادة، وإسحاق، وأبي ثور[30].
الأدلة:
أ استدل أصحاب القول الأول بما يأتي:
1- ما رواه ابن أبي شيبة[31]، وأبوعبيد[32]، عن علي - رضي الله عنه -: "أنه سئل عن الرجل يكون له الدين المظنون، أيزكيه؟ فقال: إن كان صادقاً فليزكه لما مضى إذا قبضه".
2- ما رواه أبو عبيد[33]، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه قال في الدين: "إذا لم ترج أخذه فلا تزكه حتى تأخذه، فإذا أخذته فزك عنه ما عليه".
3- أن الدائن هو المالك الحقيقي للمال، فيجب عليه زكاته كما لو كان المال عند مليء باذل[34]، وكما لو كان وديعة[35].
مناقشة أدلة هذا القول:
يجاب عما استدلوا به بما يأتي:
1- أما أثر علي - رضي الله عنه - فيجاب عنه من وجهين:
- الأول: أن هذا القول عن علي - رضي الله عنه - مخالف لعموم النصوص الشرعية، الدالة على أن الزكاة لا تجب إلا على رب المال- وهو هنا من هو في ملكه- ومنها قوله - تعالى -: خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا[36] ولذا قال ابن حزم في المحلى[37]: "إذا خرج الدين عن ملك الذي استقرضه، فهو معدوم عنده يعني الدائن ومن الباطل المتيقن أن يزكي عن لا شيء، وعما لا يملك، وعن شيء لو سرقه قطعت يده؛ لأنه في ملك غيره"أ. هـ.
- الثاني: أنه جاء عن بعض الصحابة قول مخالف لهذا الرأي، حيث روي عن عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت: "ليس في الدين زكاة"[38] يعني: مطلقاً، سواء كان على مليء أو على معسر أو مماطل، كما حكاه عنها - وعن ابن عمر أيضاً - ابن قدامة في المغني[39]، وعليه فلا يجب الأخذ بقول علي - رضي الله عنه -.
2- وأما أثر ابن عباس - رضي الله عنهما - فيجاب عنه بما أجيب به أثر علي - رضي الله عنه -، وأيضاً فإنه ضعيف، كما في الإرواء[40].
3- ويجاب عن القياس على المليء الباذل، وعلى الوديعة، بأنه قياس مع الفارق، فالمال الذي عند المليء الباذل، والمال المودع، هو بمنزلة ما في يده[41]، فيمكنه أخذه والتصرف فيه، وهذا بخلاف الدين الذي عند المعسر والمماطل، فربما يحاول تخليصه منه سنين، ولا يقدر على ذلك، وبهذا يتضح الفرق بين المسألتين.
ب استدل أصحاب القول الثاني: بأن المال كان في يد الدائن أول الحول، ثم حصل بعد ذلك في يده، فوجب أن لا تسقط الزكاة عن حول واحد[42].
مناقشة دليل هذا القول:
يجاب عنه بأن هذا المال قد انقطع حوله بانتقاله من يد الدائن إلى يد المدين، فهو كما لو خرج من يده بهبة- أو نحوها- ثم عاد إليه، فإنه ينقطع حوله- قولاً واحداً- لخروجه عن ملكه، فكذا هنا، وكما لو نقص النصاب أيضا ً؛ فالمانع من وجوب الزكاة إذا وُجِد في بعض الحول فإنه يمنع. وأيضاً فإن هذا المال في جميع الأعوام على حالٍ واحد، فوجب أن يتساوى في وجوب الزكاة أو سقوطها كسائر الأموال[43].
يتبع