التاريخ يصنعه الأقوياء



المتأمِّل للتاريخ الإنسانيِّ يجد أن أعظم الأحداث وأكبر التحولات التي جرت فيه كانت من صُنع أناسٍ أقوياءَ، من مِينا إلى رَمْسِيسَ إلى الإسكندر إلى خالد بن الوليد إلى صلاح الدين الأيوبيّ وغيرهم من القادة العظماء.

هؤلاءِ الأقوياءُ همُ الذين دفعوا حركة التاريخ، واستطاعوا أن يُؤَثِّروا في حياة البشرية.


والقوة التي تَسَلَّح بها هؤلاء ليست مادِّيَّةً فقط؛ بل إن للقوة أسبابًا وصُورًا كثيرةً، وأول أسباب القوة:

العلم، ولولا العلم ما صُنعت الأسلحة ولا وُضعت الخِططُ العسكريةُ، ولا بُنيت القدرة الاقتصادية التي تمكِّن من المواجهة.

ثم الثَّرْوَةُ: فإن المال هو المحرِّك للمشروعات الكبرى، والمصدر الأساسيُّ للثروة هو العلم؛ حيث تتكاتف الجهود لاستخراج ما أَوْدَعَهُ الله في الدنيا من الخيرات، والاستفادة منها، والمال إذا وُضع في مَوْضِعه ووُظِّف تَوْظيفًا صحيحًا، كان سببًا من أسباب قُوَّة المجتمع ورِفْعَةِ الأُمَّة، وإذا وُظِّف تَوْظيفًا سَيِّئًا، كان سببًا من أسباب التَّدهْوُر والسقوط.


والاتّحاد من أعظم أسباب القوَّة، فالجهود الفرديَّةُ لا تَصنع حضارة ولا تَبني أُمَّة، وإنما يَصنعها الجُهْد الجماعيّ المنظَّم في وَحْدَةٍ واحدة، وقد لَفَتَ القرآنُ الكريم أنظارنا إلى قيمة الاتحاد، ومن ذلك قوله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 103]. وتكرَّر التحذير من التشتُّت والتفرُّق والتنازع، من ذلك قوله تعالى: {وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال: 46]. أي تَضْعُفوا وتذهب قُوَّتكم بسبب تنازعكم، وقد ضَرَبَ النبيُّ – صلى الله عليه وسلم - مَثَلاً بالِغَ الرَّوْعَةِ والإيحاء للمجتمَع المسلم المترابط المتَّحِد، فقال – صلى الله عليه وسلم -: «المؤمن للمؤمن كالبُنْيان يَشُدُّ بعضُهُ بعضًا»، فالمجتمع بِنَاءٌ، وكل فَرْد بمثابة لَبِنَةٍ في هذا البناء، وتماسُكُ اللَّبِنَاتِ هو الذي يُقيم البناء ويعطيه قوته وصلابته.


ومن أسباب القوة: حُسْن التقدير والتخطيط واختيار الخطة المناسبة والمكان المناسب، ليكون للفعل تأثيرُهُ وقوته؛ فلكلِّ فعل زمانه ومكانه المناسِبان له، وقد يكون الفعل في ذاته صوابًا لكنه جاء في وقت غيرِ مناسبٍ أو في مكان غيرِ مناسبٍ فتنقلِب الآية وتكون النتيجة عكسيَّة.


ومن أهم أسباب القوة أيضًا: الثَّبات وعدم الانهيار أمامَ الشدائد والأَزَمات، وقد عَلَّمَنا النبيُّ – صلى الله عليه وسلم - ذلك بالفعل والقَوْل: بالفعل في وقفته الشجاعة في عزوة أُحُدٍ وقد فَرَّ الفُرْسان مِن حولِهِ؛ فكان أقربَ الناس إلى العَدُوِّ حتى أصيب وكُسِرَتْ سِنُّه وهُشِّمَتْ خَوْذَتُهُ – صلى الله عليه وسلم - وبالقول في حديثه الشريف: «ليس الشديد بالصُّرْعَةِ، وإنما الذي يَملِك نَفْسَه عند الغَضَب».


فالمسيطِر على المشاعر والانفعالات لَوْن منَ القوة المعنوية، يتفوَّق في تأثيره على القوَّة المادِّيَّة المحسوسة.


إننا في زمن القوة، حيث لا مكان للضعفاء، بل يمكننا القول: إن الضعيف في كل زمان ومكان لا موقع له، إلا على موائد التبعية، لا يملك أمر نفسه.


ومهما كانت قُوَّة الفِكْر الذي تؤمن به وتنتمي إليه، فلابد من قوةٍ أخرى تُمَكِّن لهذا الفِكْر، وقد جمع الله عز وجل كلَّ أسباب القوة في قولِهِ تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال: 60]. أي: كلّ ما تملكون من أسباب القوة والغَلَبَة.



وقد حَثَّ النبي – صلى الله عليه وسلم - على امتلاك القوة، فقال: «المؤمن القويُّ خير وأَحَبُّ إلى الله من المؤمن الضعيف».

______________________________ __________
الكاتب: د. محمد داود