{وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب أن ينقلبون}


د. أمير الحداد




‏في آيات كثيرة لا يذكر الله -عز وجل- نوع العذاب ولا شدته ولا مدته، وهذا من بلاغة اللغة العربية التي نزل بها كتاب الله.

{نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ} (الشعراء).

{وهذا لسان عربي مبين} (النحل:103).

‏وذلك أن إبهام المآل ‏مع الوعيد ‏يزيد المنذرين خوفا لجهلهم بالمصير، ولاسيما أن التهديد من العزيز الجبار القوي -سبحانه.

‏-أراك تكثر من ذكر أهمية اللغة العربية، وترجع إلى قواعدها وأساليبها ‏البلاغية وأسرار الفصاحة فيها.

‏نعم لا يمكن أن نفهم آيات الله، ما لم نتقن اللغة التي نزل بها واللسان الذي قرأه الرسول - صلى الله عليه وسلم - على أصحابه بعد أن تلقاه من (الروح الأمين)، لغتنا أجمل وأكمل لغة يمكن أن يتخاطب بها، ولكننا ابتعدنا عنها، أصبحنا أقرب إلى العجم منا إلى العرب.

‏كنت وصاحبي في مجلسنا المعتاد بين العشاءين في مكتبة المسجد نراجع حفظنا وقراءتنا في كتب التفسير.

‏نحن الآن مع آخر آية من سورة الشعراء {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ}، تعال نتدبر هذه الآية المخيفة في تهديدها ووعيدها.

{وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ (224) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ (225) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ (226) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانتَصَرُوا مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ (227)} (الشعراء).

ختم -سبحانه- هذه السورة بآية جامعة للوعيد كله؛ فقال: {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ}، فإن في قوله: سيعلم تهويلا عظيما، وتهديدا شديدا، وكذا في إطلاق الذين ظلموا، وإبهام أي منقلب ينقلبون، وخصص هذه الآية بعضهم بالشعراء، ولا وجه لذلك؛ فإن الاعتبار بعموم اللفظ، وقوله: {أي منقلب} صفة لمصدر محذوف، أي: ينقلبون منقلبا أي منقلب، وقدم لتضمنه معنى الاستفهام، ولا يعمل فيه سيعلم؛ لأن الاستفهام لا يعمل فيه ما قبله، بل هو معلق عن العمل فيه، وقرأ ابن عباس والحسن (أي منفلت ينفلتون) بالفاء مكان القاف، والتاء مكان الباء من الانفلات بالنون والفاء الفوقية، وقرأ الباقون بالقاف والباء، من الانقلاب بالنون، والقاف والموحدة، والمعنى على قراءة ابن عباس والحسن: أن الظالمين يطمعون في الانفلات من عذاب الله والانفكاك منه ولا يقدرون على ذلك.

روى عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «الشعر بمنزلة الكلام حسنه كحس الكلام، وقبيحه كقبيح الكلام» (صحيح لغيره: الألباني) وأخرج مسلم من حديث عمرو بن الشريد عن أبيه قال: ردفت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: هل معك من شعر أمية بن أبي الصلت؟ قلت: نعم، قال: هيه فأنشدته بيتا، فقال: هيه، حتى أنشدته مائة بيت».

الآية جعلت حال من يتبع الشعراء حالهم تشويها للفريقين وتنفيرا منهما. ومن هؤلاء: النضر بن الحارث، وهبيرة بن أبي وهب ومسافع بن عبد مناف، وأبو عزة الجمحي، وابن الزبعرى، وأمية بن أبي الصلت، وأبو سفيان ابن الحارث، وأم جميل العوراء بنت حرب زوج أبي لهب التي لقبها القرآن: {حمالة الحطب} (المسد:4)، وكانت شاعرة وهي التي قالت:

مذمما عصينا

وأمره أبينا

ودينه قلينا

فكان رد النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ألا تعجبون كيف يصرف الله عني شتم قريش ولعنهم؟ يشتمون مذمما ويلعنون مذمما وأنا محمد». رواه البخاري.

فكانت هذه الآية نفيا للشعر أن يكون من خلق النبي - صلى الله عليه وسلم - وذما للشعراء الذين تصدوا لهجائه. فقوله: يتبعهم الغاوون ذم لأتباعهم وهو يقتضي ذم المتبوعين بالأخرى؛ لأنه إذا كانوا يتبعهم الغاوون فقد انتفى أتباعهم عن الصالحين؛ لأن شأن المجالس أن يتحد أصحابها في النزعة كما قيل: (عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه) وجعله بعضهم للحصر، أي لا يتبعهم إلا الغاوون؛ لأنه أصرح في نفي اتباع الشعراء عن المسلمين. كما في قوله -تعالى-: {الله يستهزئ بهم} (البقرة:15). والرؤية في (ألم تر) قلبية لأن الهيام والوادي مستعاران لمعاني اضطراب القول في أغراض الشعر وذلك مما يعلم لا مما يرى. وضمائر (أنهم - ويهيمون- ويقولون- ويفعلون) عائدة إلى الشعراء. فجملة: {ألم تر أنهم في كل واد يهيمون} مؤكدة لما اقتضته جملة: {يتبعهم الغاوون} من ذم الشعراء بطريق فحوى الخطاب.

ومثلت حال الشعراء بحال الهائمين في أودية كثيرة مختلفة؛ لأن الشعراء يقولون في فنون من الشعر من هجاء واعتداء على أعراض الناس، ومن نسيب وتشبيب بالنساء، ومدح من يمدحونه رغبة في عطائه وإن كان لا يستحق المدح، وذم من يمنعهم وإن كان من أهل الفضل، وربما ذموا من كانوا يمدحونه ومدحوا من سبق لهم ذمة. والهيام: هو الحيرة والتردد في المرعى. والواد: المنخفض بين عدوتين.

وإنما ترعى الإبل الأدوية إذا أقحلت الربى، والربى أجود كلأ، فمثل حال الشعراء بحال الإبل الراعية في الأودية متحيرة؛ لأن الشعراء في حرص على القول لاختلاب النفوس. روي أنه اندس بعض المزاحين في زمرة الشعراء عند بعض الخلفاء فعرف الحاجب الشعراء، وأنكر هذا الذي اندس فيهم، فقال له: هؤلاء الشعراء وأنت من الشعراء؟ قال: بل أنامن الغاوين، فاستطرفها.

وشفع مذمتهم هذه بمذمة الكذب فقال: {وأنهم يقولون ما لا يفعلون}.

{وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون}. ناسب ذكر الظلم أن ينتقل منه إلى وعيد الظالمين وهم المشركون الذين ظلموا المسلمين بالأذى والشتم بأقوالهم وأشعارهم. وجعلت هذه الآية في موقع التذييل فاقتضت العموم في مسمى الظلم الشامل للكفر وهو ظلم المرء نفسه وللمعاصي القاصرة على النفس كذلك، وللاعتداء على حقوق الناس، وهذه الآية تحذير عن غمص الحقوق وحث عن استقصاء الجهد في النصح للأمة وهي ناطقة بأهيب موعظة وأهوال وعيد لمن تدبرها لما اشتملت عليه من حرف (السين) المؤذن بالاقتراب، ومن اسم الموصول (الذين) المؤذن بأن سوء المنقلب يترقب الظالمين لأجل ظلمهم، ومن الإبهام في قوله: {أي منقلب ينقلبون} إذ ترك تبيينه بعقاب معين لتذهل نفوس الموعدين في كل مذهب ممكن من هول المنقلب وهو على الإجمال منقلب سوء.


والمنقلب: مصدر ميمي من الانقلاب وهو المصير والمآل؛ لأن الانقلاب هو الرجوع.

وكان السلف الصالح يتواعظون بها ويتناذرون شدتها.