الاغترار بالعمل


د. أمير الحداد



«إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس، وهو من أهل النار، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار فيما يبدو للناس، وهو من أهل الجنة».


- هذا الحديث ورد في (صحيح مسلم) باب: تغليظ حرمة قتل الإنسان نفسه.. وفيه أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان في قتال مع المشركين، فلما مال كل فريق عن الآخر.. كان رجل في صفوف المسلمين لا يترك شاردة إلا تبعها.. حتى قال المسلمون: ما أجزأ أحد منا ما أجزأ فلان.. فقال صلى الله عليه وسلم : «هو من أهل النار».

قاطعني صاحبي:

- نعم تذكرت الحديث.. عندما راقبه أحد الصحابة، فجرح هذا الرجل جرحا شديدا فاستعجل منيته.. فنصب سيفه وجعل ذؤابته بين ثدييه، ثم تحامل عليه فقتل نفسه.

- أحسنت.. وفي الحديث دروس عظيمة ربما لا يفهمها كثير من الناس، وأولها: ألا يغتر المرء بعمله، ولا بعمل غيره، فلا يحكم لأحد بالجنة، ولا لنفسه، بسبب العمل الصالح.. فلا يزكي نفسه ولا يزكي غيره، وكذلك لا يقنط من رحمة الله إن كان مسرفا على نفسه، ولا يقنّط غيره، فهذا الرجل الذي تميز في ميدان المعركة وآذى الكفار، أتى عملا ظن معه الصحابة أنه أبلى بلاء حسنا تميز به عنهم، فأعجبوا بعمله، ولكن خاتمته أنه لم يصبر على بلاء الله، فقتل نفسه فكان من أهل النار.

قاطعني:

- وهل من يقتل نفسه يخلّد في النار؟

- إن كان مستحلا لهذا الذنب نعم يخلد خلودا دائما في النار.. أما إن مات على التوحيد.. بمعنى أنه لم ينقض شهادة: (أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، فإنه يموت عاصيا، والعصاة تحت مشيئة الله، يعذبهم أو يتوب عليهم.

- أظن أن هناك رواية أن قاتل نفسه خالد مخلد في النار أبدا.. أليس كذلك؟!

- نعم.. وهو في (صحيح مسلم).. من تردى من جبل.. ومن احتسى سما.. ومن توجأ بطنه بحديدة.. هؤلاء الذين ذكرهم الرسول صلى الله عليه وسلم كأمثلة في الحديث.. ولكن هذا الخلود المؤكد ليس كخلود الكفار.. بل هو مكث طويل لمن مات على التوحيد.. فهو يستحق هذه العقوبة إن لم يغفر الله له.. وهو سبحانه يغفر الذنوب جميعا إلا الشرك.. لمن يشاء سبحانه وتعالى.


ولنرجع إلى حديثنا الذي بدأنا به.. بعض من يسيء فهم الحديث يظن أنه يسعه أن يعيش في المعاصي.. ويكون من أهل الجنة.. دون عمل.. يستشهد بهذا الحديث.. وهذا خطأ دون شك فالمرء يعمل الصالحات ويكثر من الطاعات ويعلم أنها شرط لدخول الجنة: {تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون} (الأعراف: 43).. ولكنها ليست بالمكافأة.. بل برحمة الله يدخل المسلم الجنة.. وإن كان لا بد من العمل.. وكذلك النار دار من عصى الله.. بعدل الله.. فإن تفضل الله عليه وغفر له لأنه لم يشرك بالله.. خرج من النار بإحسان الله وفضله عليه.