الاستعانة في الوضوء
دبيان محمد الدبيان


الاستعانة على الوضوء لها حالات عدة:
الحالة الأولى: إذا لم يمكنه التطهر إلا بالاستعانة، فإنه يجب عليه قَبولها، إذا لم يكن في ذلك مِنَّة وإذلال له، حتى لو اقتضى الأمر بذل أجرة لمن يعينه، وجب عليه ذلك؛ لأن ما لا يتم الواجب إلا به فواجب[1].
وقال ابن عقيل الحنبلي: يحتمل أن لا يلزمه، كما لو عجز عن القيام في الصلاة لم يلزمه استئجار من يقيمه ويعتمد عليه[2].
الحالة الثانية: أن تكون الاستعانة بتقريب الماء، وهذا لا بأس به.
قال النووي: ولا يقال خلاف الأولى؛ لأنه ثبت ذلك في الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم -.
الحالة الثالثة: أن تكون الاستعانة بمن يصب عليه الماء، فالمشهور من مذهب الحنفية أن ذلك مكروه[3]، وهو وجه في مذهب الشافعية[4].
واعتبر بعض الحنفية أن من آداب الوضوء ألا يستعين المتوضئ على وضوئه بأحد [5].
وقيل: تباح معونته بصب الماء عليه، وهو مذهب المالكية[6] والحنابلة[7].
وقيل: لا يكره؛ لكنه خلاف الأولى، وهذا أصح الوجهين عند الشافعية، وبه قطع البغوي وغيره، قال النووي في المجموع: وهو مقتضى كلام المصنف والأكثرين[8].
الحالة الرابعة: أن تكون الاستعانة بمن يغسل له أعضاءه من غير حاجة.
فهذا مكروه في مذهب الحنفية من باب أولى، وهو مكروه في مذهب الشافعية قولاً واحدًا.
وقيل: لا يجوز، وهو مذهب المالكية[9].
وقيل: يجوز من غير كراهة، اختاره ابن بطال.
الأحاديث الواردة في المنع من الاستعانة:
أما الأحاديث الصريحة في الباب، فليس فيها شيء يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومن ذلك:
• (930-159) ما رواه ابن ماجه، قال: حدثنا أبو بدر عباد بن الوليد، حدثنا مطهر بن الهيثم، حدثنا علقمة بن أبي جمرة الضبعي، عن أبيه أبي جمرة الضبعي، عن ابن عباس، قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يكل طهوره إلى أحد، ولا صدقته التي يتصدق بها، يكون هو الذي يتولاها بنفسه[10]. [حديث ضعيف][11].
• (931-160) ومنها ما رواه أبو يعلى في مسنده، قال: حدثنا أبو هشام، حدثنا النظر -يعني: ابن منصور- حدثنا أبو الجنوب، قال: رأيت عليًّا يستقي ماء لوضوئه، فبادرته أستقي له، فقال: مهْ يا أبا الجنوب، فإني رأيت عُمَرَ يستقي ماء لوضوئه، فبادرته أستقي له، فقال: مه يا أبا الحسن، فإني رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يستقي ماء لوضوئه، فبادرته أستقي له، فقال: ((مه يا عمر؛ فإني أكره أن يشركني في طهوري أحد))[حديث ضعيف] [12].
• (932-161) ومنها ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا وكيع، عن موسى بن عبيدة، عن العباس بن عبدالرحمن المدني قال: خصلتان لم يكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يكلهما إلى أحد من أهله؛ كان يناول المسكين بيده، ويضع الطهور من الليل ويخمره[13]. [إسناده ضعيف][14].
• (933-162) وروى ابن أبي شيبة أيضًا، قال: حدثنا أبو أسامة عن علي بن مسعدة، قال: أنا عبدالله الرومي، قال: كان عثمان يقوم من الليل، فيلي طهوره بنفسه، فيقال له: لو أمرت بعض الخدم؟ فقال: إني أحب أن أليه بنفسي. [إسناده ضعيف][15].
وقد ورد أحاديث ليست صريحة في الباب تدل على أن الكمال تركُ سؤال الناس شيئًا:
• (934-163) منها ما رواه مسلم، من طريق سعيد بن عبدالعزيز، عن ربيعة بن يزيد عن أبي إدريس الخولاني، عن أبي مسلم الخولاني: قال حدثني الحبيب الأمين - أما هو فحبيب إلي، وأما هو عندي فأمين - عوف بن مالك الأشجعي قال: كنا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تسعة أو ثمانية أو سبعة، فقال: ((ألا تبايعون رسول الله؟))، وكنا حديث عهد ببيعة، فقلنا: قد بايعناك يا رسول الله، ثم قال: ((ألا تبايعون رسول الله؟))، فقلنا: قد بايعناك يا رسول الله، ثم قال: ((ألا تبايعون رسول الله؟))، قال: فبسطنا أيدينا وقلنا: قد بايعناك يا رسول الله، فعلامَ نبايعك؟ قال: ((على أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئًا، والصلوات الخمس، وتطيعوا - وأسرَّ كلمةً خفية - ولا تسألوا الناس شيئًا))، فلقد رأيت بعض أولئك النفر يسقط سوط أحدهم، فما يسأل أحدًا يناوله إياه.
وجه الاستدلال:
قوله: ((لا تسألوا الناس شيئًا)) نكرة في سياق النفي، فيشمل كل شيء، وهذا هو الذي فهمه الصحابة، حتى كان لا يسأل أن يناول سوطه الذي سقط.
وهذا الحديث دليل على النهي عن سؤال الناس، ومنه الاستعانة، ولا يدل على كراهة الاستعانة بدون طلب من الشخص، فهناك فرق أن تأتي الإعانة على الوضوء بالتبرع المحض، أو تأتي عن مسألة، مع أنه قد يقال أيضًا: إذا كان يعلم الإنسان أن المطلوب منه ذلك يفرح به، ويتشوف إليه، ويعتز به، كما لو كان هذا طالبًا مع معلمه، وبين غيره؛ ولذلك فالرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يستنكف أن يطلب بعض الأمور من بعض أصحابه؛ لمعرفته أن ذلك محبوب لهم، ليس فيه إذلال للسائل، ولا إحراج للمسؤول، والله أعلم.
الأحاديث الواردة في الاستعانة:
الحديث الأول: (935-164) ما رواه البخاري، قال: حدثنا يحيى، قال: حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن مسلم، عن مسروق، عن مغيرة بن شعبة قال: كنت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في سفر فقال: ((يا مغيرة، خذ الإداوة))، فأخذتها، فانطلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى توارى عني، فقضى حاجته، وعليه جبة شأمية، فذهب ليخرج يده من كمها فضاقت، فأخرج يده من أسفلها، فصببت عليه فتوضأ وضوءه للصلاة، ومسح على خفيه ثم صلى. ورواه مسلم[16].
الحديث الثاني: (936-165) ما رواه البخاري، قال: حدثني محمد بن سلام، قال: أخبرنا يزيد بن هارون، عن يحيى، عن موسى بن عقبة، عن كريب مولى ابن عباس، عن أسامة بن زيد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما أفاض من عرفة، عدل إلى الشعب فقضى حاجته، قال أسامة بن زيد: فجعلت أصب عليه ويتوضأ، فقلت: يا رسول الله، أتصلي؟ فقال: ((المصلى أمامك)). ورواه مسلم، واللفظ للبخاري[17].
الحديث الثالث: قال الحافظ في الفتح: روى الحاكم في المستدرك، من حديث الربيع بنت معوذ أنها قالت: أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - بوضوء فقال: ((اسكبي))، فسكبت عليه.
قال الحافظ: وهذا أصرح في عدم الكراهة من الحديثين المذكورين؛ لكونه في الحضر، ولكونه بصيغة الطلب.
قلت: وقفت عليه في مستدرك الحاكم بغير هذا اللفظ الذي أشار إليه الحافظ[18]، فلعل نسخة الحافظ تختلف عن المطبوع، وهو في سنن أبي داود بلفظ: ((اسكبي لي وضوءًا))، فذكرت وضوء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قالت فيه: فغسل كفيه ثلاثًا، وذكر الحديث، وسبق لي تخريج الحديث، والكلام عن طرقه.
وهذه الأحاديث تدل على إباحة الاستعانة بصب الماء على المتوضئ، وكذا إحضار الماء من باب أولى.
وأما المباشرة بغسل أعضاء الغير، فلا دلالة فيهما عليها، وحجة من استدل بإباحة غسل أعضاء الغير ما ذكره الحافظ في الفتح، قال: "لما لزم المتوضئَ الاغترافُ من الماء لأعضائه، وجاز له أن يكْفيه ذلك غيرُه بالصب، والاغتراف بعض عمل الوضوء، كذلك يجوز في بقية أعماله.
وتعقبه ابن المنير بأن الاغتراف من الوسائل لا من المقاصد؛ لأنه لو اغترف ثم نوى أن يتوضأ جاز، ولو كان الاغتراف عملاً مستقلاًّ لكان قدمه على النية". [19] ا. هـ
(فرع)
قد ذكرنا أنه إذا وضأه غيره صح، وسواء كان الموضئ ممن يصح وضوءه أم لا، كمجنون وحائض وكافر وغيرهم؛ لأن الاعتماد على نية المتوضئ لا على فعل الموضئ، كمسألة الميزاب، ولا نعلم في هذه المسألة خلافًا لأحد من العلماء، إلا ما حكاه صاحب الشامل عن داود الظاهري أنه قال: لا يصح وضوءه إذا وضأه غيره، ورد عليه بأن الإجماع منعقد على أن من وقع في ماء أو وقف تحت ميزاب، ونوى، صح وضوءه وغسله.
_____________
[1] قال النووي في المجموع (1/425): إذا لم يقدر على الوضوء، لزمه تحصيل من يوضئه إما متبرعًا وإما بأجرة المثل إذا وجدها، وهذا لا خلاف فيه. ا. هـ. وانظر المغني (1/85).
[2] المغني (1/85).
[3] مراقي الفلاح (ص: 33).
[4] المجموع (1/383).
[5] بدائع الصنائع (1/23)، تبيين الحقائق (1/6، 7)، فتح القدير (1/36)، الفتاوى الهندية (1/8).
[6] مواهب الجليل (1/219).
[7] المغني (1/95)، كشاف القناع (1/106)، مطالب أولي النهى (1/122).
[8] المجموع (1/383)، روضة الطالبين (1/62)، مغني المحتاج (1/61).
[9] قال في مواهب الجليل (1/219): أما الاستنابة في الدلك، فإن كانت من ضرورة، جازت من غير خلاف وينوي المغسول لا الغاسل، وإن كانت لغير ضرورة، فلا يجوز من غير خلاف، واختلف إذا وقع ونزل هل يجزيه أو لا؟ قولان؛ قال الجزولي في شرح الرسالة عند قوله غاسلاً له: لا خلاف في النيابة على صب الماء أنها جائزة، ويؤخذ جوازها من حديث المغيرة؛ إذ كان يصب الماء على النبي - صلى الله عليه وسلم -. وأما على الفعل، فإن كان لضرورة فيجوز من غير خلاف وينوي المفعول لا الفاعل، وإن كان لغير ضرورة، فلا يجوز من غير خلاف، واختلف إذا وقع ونزل هل يجزيه أم لا؟ قولان. ا. هـ وانظر الفواكه الدواني (1/137)، حاشية العدوي (1/186).
[10] سنن ابن ماجه (362).
[11] قال البوصيري في الزوائد: هذا إسناد ضعيف؛ علقمة بن أبي جمرة مجهول، ومطهر بن الهيثم ضعيف. ا. هـ
وقال الحافظ في التلخيص (1/168): فيه مطهر بن الهيثم، وهو ضعيف. ا. هـ.
[12] الحديث ضعيف؛ لضعف النظر بن منصور، وأبي الجنوب، وقد ضعفهما الحافظ في التقريب، وقال في التلخيص (1/168): قال عثمان الدارمي: قلت لابن معين: النظر بن منصور، عن أبي الجنوب، وعنه ابن أبي معشر تعرفه؟
قال: هؤلاء حمالة الحطب.
وأخرجه البزار كما في مختصر زوائد البزار (162) من طريق النظر بن منصور به.
وضعفه الهيثمي في مجمع الزوائد (1/227).
[13] المصنف (1/178) رقم: 2045.
[14] العباس بن عبدالرحمن المدني، لم أجد من ترجم له، إلا أن الحسيني في الإكمال ذكر العباس بن عبدالرحمن المدني، وقال: مجهول. وخطأه الحافظ في تعجيل المنفعة بأنه وهم في اسمه، وإليك نص كلام الحافظ في التعجيل (1516) قال: العباس بن عبدالرحمن المدني عن حكيم بن حزام، وعنه محمد بن عبدالله الشعيثي، مجهول. قلت (أي: الحافظ): كذا قرأت بخط الحسيني، وهو غلط قبيح، والذي في مسند حكيم بن حزام من مسند أحمد، رواه أحمد عن وكيع، عن محمد بن عبدالله الشعيثي، عن القاسم بن عبدالرحمن المزني، عن حكيم في خلوق المساجد مرفوعًا.
وعن حجاج عن الشعيثي عن زفر بن وثيمة، عن حكيم. وهكذا هو في ترجمة زفر بن وثيمة عن حكيم من الأطراف للمزي، وذكر رواية أبي داود وقال: رواه وكيع عن الشعيثي فلم يرفعه. قلت (والكلام للحافظ): وفي الجملة فليس للعباس بن عبدالرحمن في حديث حكيم مدخل في مسند أحمد، والله أعلم، وأما قوله: المدني فهو تحريف، وإنما هو المزني بضم الميم بعدها زاي منقوطة، وترجم المزي للعباس بن عبدالرحمن مولى بني هاشم، عن العباس بن عبدالمطلب. ا. هـ كلام الحافظ.
وفي إسناده موسى بن عبيدة، جاء في ترجمته:
قال البخاري: منكر الحديث، قاله أحمد بن حنبل، وقال علي بن المديني عن القطان قال: كنا نتقيه تلك الأيام. التاريخ الكبير (7/291).
وقال أحمد بن حنبل: لا يشتغل به؛ وذلك أنه يروي عن عبدالله بن دينار شيئًا لا يرويه الناس. الجرح والتعديل (8/151).
وقال أحمد بن حنبل أيضًا: لا تحل الرواية عندي عن موسى بن عبيدة. قلنا يا أبا عبدالله: لا يحل؟ قال: عندي. قلت: فإن سفيان وشعبة قد رويا عنه، قال: لو بان لشعبة ما بان لغيره ما روى عنه. المرجع السابق.
وقال أبو حاتم الرازي: منكر الحديث. المرجع السابق.
وقال أبو زرعة: ليس بقوي الحديث. المرجع السابق.
[15] عبدالله الرومي، ذكره الحافظان المزي وابن حجر في تهذيب الكمال وتهذيبه، ولم يذكرا راويًا عنه إلا علي بن مسعدة، ولم يوثقه أحد، فهو مجهول.
وفي التقريب: مقبول. يعني حيث يتابع وإلا ففيه لين.
[16] البخاري (182)، ومسلم (274).
[17] البخاري (181)، ومسلم (1280).
[18] ولفظه عند الحاكم (1/152) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مسح أذنيه، باطنهما وظاهرهما.
[19] فتح الباري (182).