تروم النصرانية


علي بن نايف الشحود


أما الديانة المسيحية: فبعد انتقالها إلى الغرب غدت ديانة الإمبراطورية الرومانية، ولكنها تحولت عن جوهرها الحقيقي، لتطوع للطابع المادي للحضارة اليونانية/الرومانية، ولقد صدق القاضي عبدالجبار بن أحمد ( 415هـ/ 124 ) عندما سبر غور هذه الحقيقة فعبر عنها بعبارته الجامعة التي يقول: "إن النصرانية عندما دخلت روما لم تتنصر روما ، ولكن المسيحية هي التي ترومت".
وما كان لها أن تعيش في الغرب لولا ما ساندها من القوانين الرومانية، والأنظمة التي فرضتها ليعيش الناس تحت لوائها، وكذلك "لولا القلق الذي أوجده تفكك الإمبراطورية الرومانية، ما أتيح لها أن تنتشر على النحو الذي انتشرت به في أوروبا".

وعموما فقد تميزت الديانة المسيحية - في أوربا - بخاصتين:

(الأولى): الازدواج العقدي الذي يفصل بين الدين والواقع التاريخي.
(الثاني): هيمنة الكنيسة على الضمائر والسلوك والعقول.


وعموماً، يتمثل الأثر الذي تركته الكنيسة في الفكر الغربي في ناحيتين:


(أحداهما): إيجابية، وهي حفظ اللغة اللاتينية من التدهور والاندثار، مما حفظ التراث الاغريقي في الفلسفة والفكر والذي كان أساسا لبناء اللاهوت المسيحي، واحتفاظها بالقانون الروماني الذي تقي أساسا لحكومة الكنيسة بعد ذلك.


(ثانيتهما): سلبية: تمثلت في تجميد الحياة والفكر ومصادرتهما لحساب الكنيسة وبأبواتها، مما أدى إلى الخروج على الكنيسة بعد ذلك في ردة بالغة الانحراف نحو المادية الاغريقية بنزعتها العقلية والإنسانية وتمجيد الفردية وغلبة الطبيعة وقهرها.



لقد التقت هذه العناصر الثلاثة في الحياة الأوروبية، منذ عصر النهضة، وظل كل واحد منها يعمل عمله مستقلا عن الآخر، وبينما اقتصر تأثير الدين المسيحي على دائرة ضيقة غلب تأثير التراث الاغريقي فلسفة وفكرا على الحياة الأوروبية، بحيث أصبح العامل الحاسم في رسم معالم الفكر الأوروبي الحديث، وشكل صورته التي هو عليها الآن، فالنظرة إلى الحياة والإنسان ومكانته في الكون، وطرق التفكير وأساليب التعبير، ومجالات الفكر كل ذلك مما استمده الفكر الأوروبي الحديث من التراث الاغريقي ولا يخفي أثر الإسلام والفكر الإسلامي الذي أحدث لدى الأوروبيين من صدمة، وبالتالي نقلوا عنه الكثير، ولكنهم ركزوا على الجوانب المادية وأهملوا الجوانب الأخرى، فهم لم يأخذوا كل ما في الإسلام، وإنما أخذوا منها ما يفيد ماديتهم الغربية الموروثة عن اليونان.


وعادت إلى الظهور بقوة اتجاهات الفكر الاغريقي المادي، حيث ساد الإيمان بالعقل والتجريب المادي الرافض للدين، ولأي شيء وراء المادة، وساد الإيمان بالإنسان، وأن أساس التعامل الإنساني هو المصلحة والمنفعة، وأن التعاون و الأخوة الإنسانية إنما تقوم على أساس عقلاني، وأصبحت العقلانية الأوروبية هي صاحبة الحق الكامل في الإشراف على اتجاهات الحياة، حيث هي القادرة على فهم الكون وتوجيه الحياة، وتلبية الحاجات الإنسانية و إخضاع كل شيء حتى الطبيعة والآلة والدين، وحاول الفكر الأوروبي والأمريكي - باعتباره امتداداً للفكر الأوروبي - خلق عالم جديد مؤسس على العقل والحقيقة المادية، ومن هنا كانت هذه الحقيقة هي الهدف الرئيسي لهذا الفكر في العصر الحديث والمعاصر.


إن الحضارة الأوروبية تقوم على التراث الاغريقي، بل تعمقه وتذهب به كل مذهب، من حيث الشغف بالعلم الطبيعي، والاكتشافات الجغرافية، والتفكير فيما هو في مقدور الإنسان واعتبار الميتافيزيقا والقيم والإرادة دراسات غير مفيدة،حتى المذهب الإنساني، والذي أخذ يتأكد من جديد، ويبشر به مبشرون في الفكر الغربي ما هو إلا اهتمام بالإنسان وما في مقدوره، ثم اعتبار الإنسان بما هو غربي لا بما هو من خصوصيته. حتى الدين، قد أصبح شيئا إنسانياً، فهو خاضع للفحص الإنساني الحر، وكل إمرىء له الحق في تفسير العقيدة المسيحية، حتى تحولت إلى مجرد عاطفة خالية من كل مضمون، حتى الكنائس ما هي إلا إمتداد لصخب الحياة وعالم الشارع يذهب إليها الإنسان كما قد يكون ذاهباً إلى فسحة أو نزهة يسمع الموسيقى، ويشتري الرسومات، لقد أصبح الدين إنسانياً هو الآخر.