الإسلام نظّم الحياة الاقتصادية بقانون الخالق




بقـــــلم: د. يوسف بن أحمد القاسم

ليست مفاجأة لنا نحن المسلمين أن يترنح اقتصاد يقوم على مبدأ الحرية المطلقة، ويتغذى على الربا، ويستند إلى السندات والديون، ويبيع ويشتري بالهامش والبيع على المكشوف، ويقامر حتى الثمالة! ولكنها مفاجأة للعالم المتحضر الذي لا يؤمن إلا بالقيم الرأسمالية، ولا يمتثل إلا لأفكارها، ولا يحترم إلا أبجدياتها وأدبياتها! كما أنها مفاجأة وإحراج لكل من نحا نحوهم، أو دار في فلكهم، أو سبح بحمدهم! ولهذا أخذ هؤلاء المسبحون بحمدهم يعتذرون عن الهزة التي تعرض لها النظام الرأسمالي الذي تتزعمه أميركا بأنها ليست بسبب النظام الرأسمالي الذي يؤمن بالحرية المطلقة، وإنما بسبب بعض الممارسات الخاطئة بالسوق! في الوقت الذي تنشر فيه جريدة «الفاينانشال تايمز» لأحد كتابها عنوانا عريضا في إحدى صفحاتها: «باريس تزدري الرأسمالية بهدوء!» ثم جاء في مقدمة المقال: «السياسيون الفرنسيون كانوا طوال سنوات كثيرة يهيلون الازدراء للرأسمالية..!».

أما المسلمون فقد تعلموا منذ أكثر من 14 قرنا أنه لا توجد في السوق حرية مطلقة، وأن الربا كبيرة من الكبائر، وأنه لا يجر إلا إلى الدمار وخراب الديار والويلات، ومحق المال والبركات: {يمحق الله الربا ويربي الصدقات} (البقرة: 276) بل تعلم ذلك قبلهم اليهود والنصارى في كتبهم المنزلة من السماء، كما أشار إليه الخالق سبحانه في قوله: {وأخذهم الربا وقد نهوا عنه وأكلهم أموال الناس بالباطل} (النساء: 161) كما صرخ علماؤنا المعاصرون بتحريم الكثير من صور بيع الديون المستجدة، وبيع الهامش، والبيع على المكشوف..، وصدرت بذلك القرارات المجمعية والفتاوى الفقهية منذ سنوات.

وحيث إن أسواقهم لا تدين إلا بالرأسمالية، ولا تؤمن إلا بالنظم التي تقنن تحصيل المال، فقد تنكّب هذا الخلق الضعيف طريق الحق، وخالفوا تعاليم الخالق: {ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير} (الملك: 14) وتفننوا في تشريع قوانين أرضية تناهض قوانين السماء، فأصدروا قانونا يبيح الربا، ويقنن الحصول عليه، وأسسوا مبادئ «رأسمالية» تحترم رأس المال، ولا تحترم الآدمي ذاته؛ ولهذا جوزوا - مثلا - لأصحاب الشركات الزراعية أن يتلفوا محاصيلهم، وأن يلقوها في المزابل، ويدفنوها تحت التراب، ليحافظوا على حركة العرض والطلب ولو تضور الفقراء جوعا! بل وضعوا تشريعات تنحني للغني على حساب المسكين وذي العيلة، وتسبح بحمد رجل الأعمال ولو وضع الفقير بسببها تحت الأشغال الشاقة! ولأن هذه المبادئ والمثل الرأسمالية من وضع البشر، وليست من وضع خالق البشر، فقد تراجع دعاتها وحماتها اليوم عما كان له صفة القداسة بالأمس، حيث رفعوا منذ سنوات عدة شعار حرية السوق، وهاهم اليوم يمرغون هذه الحرية بالطين لإنقاذ أسواقهم المالية وشركاتهم الرأسمالية التي تترنح تحت وقع الإفلاس! وهاهو الكونجرس الأميركي يصوت على اقتراح الرئيس الأميركي بضخ 700 مليار دولار لإنقاذ بعض شركاتهم من الإفلاس! وبهذا يصبح التدخل الحكومي للإنقاذ مسمارا آخر في نعش الرأسمالية، ناهيك عما قننوه بالأمس من أنظمة تسمح بالبيع على المكشوف، ثم أوقفوه اليوم حتى إشعار آخر، وذلك حين اكتشفوا أثره السلبي والخطير على أسواقهم وشركاتهم، وهلم جرا. ولو رجعنا إلى الوراء أربعة عشر قرنا، لوجدنا أن الإسلام قد قيد الحرية التي لا تلقي بالا للفقير والمسكين، أو تلك التي تحترم الفرد على حساب الكل، فحرم الربا، ومنع من الإقراض بالفائدة - لما يؤديان إليه من أثر سلبي وخطير على الفقراء، وعلى الاقتصاد العام ككل - وسمح بالدين ولكن في حدود الحاجة، وبضوابط شرعية تمنع من وقوع أزمات، أو حدوث انهيارات، تضر بأصحاب الأموال، أو تلحق الضرر بالاقتصاد العام، وها نحن نرى اليوم أزمة الائتمان المفتوح في أميركا وما خلفته من ضحايا في طول العالم وعرضه، ثم توزيع هذه الأزمة بالمجان على البنوك والشركات والأفراد عبر السندات سيئة الصيت! ولهذا نجد الشارع الحكيم قد وضع للدين ضوابط كثيرة، تكبح جماحه، وتسمح بالاستفادة منه بالقدر الذي لا يضر بالفرد والمجتمع؛ ولهذا نجد نصوصا شرعية كثيرة تلمح إلى خطر الدين، كما في استعاذته [ من المغرم (وهو الدين)، ومن ضلع الدين (أي ثقله) كما في حديث البخاري: «كان النبي [ يقول: اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن والعجز والكسل والجبن والبخل وضلع الدين وغلبة الرجال» وفي صحيح البخاري أيضا، عنه [ أنه كان يدعو في الصلاة، ويقول: «اللهم إني أعوذ بك من المأثم، والمغرم، فقال قائل: ما أكثر ما تستعيذ يا رسول الله من المغرم، فقال: إن الرجل إذا غرم حدث فكذب، ووعد فأخلف»، وفي سنن النسائي أنه كان يدعو بهؤلاء الكلمات: «اللهم إني أعوذ بك من غلبة الدين، وغلبة العدو، وشماتة الأعداء»، واليوم نرى كيف غلبت الديون شركات وبنوكا كبرى، وأرغمتها على الإفلاس! ولفظ الغلبة يلمح إلى إعجاز نبوي في دقة العبارة، وما تحمله من بُعد، ممن أوتي جوامع الكلم [.

وكما ألمح هذا إلى خطر الدين، فقد ألمح إليه أيضا عدم صلاة النبي [ على من توفي وعليه دين، كما جاء في صحيح البخاري: «أتي رسول الله [ بجنازة، فقال: هل عليه دين؟ قالوا: نعم، قال: هل ترك شيئا؟ قالوا: لا، قال: صلوا على صاحبكم! قال أبوقتادة رضي الله تعالى عنه: هو علي يا رسول الله، فصلى عليه رسول الله [»، بل ألمح إلى خطره، أنه من الأشياء التي لا تغفر للعبد مهما بلغ صلاحه؛ ولهذا جاء في صحيح مسلم: «يغفر للشهيد كل ذنب إلا الدين»، ولحرص الشارع على إطفاء أثر الدين، وحسم نتائجه المرة على الفرد والمجتمع، فقد تكفل بتسديد دين المعسرين بيت مال المسلمين، وهو ما يسمى اليوم بـ «وزارة المالية»؛ حفظا لأموال المسلمين من الضياع، ولتجنيب أفراد المجتمع ومؤسساته وشركاته خطر الإفلاس، كما جاء في الحديث المتفق عليه: «أن رسول الله [ كان يؤتى بالرجل المتوفى عليه الدين، فيسأل: هل ترك لدينه من قضاء؟ فإن حدث أنه ترك وفاء صلى عليه، وإلا قال: صلوا على صاحبكم، فلما فتح الله عليه الفتوح قال: أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فمن توفي وعليه دين، فعلي قضاؤه». وفي رواية البخاري: «فمن مات ولم يترك وفاء...».

ولتثقيف المسلم بضرورة إعادة الدين إلى صاحبه، فقد أمر الشارع بتحسين النية عند اقتراض المال للحاجة؛ كما جاء في صحيح البخاري: «من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه، ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله»، وهذا فيه تحذير من تبييت المقترض للنية السيئة، وإضمار عدم السداد؛ وذلك محافظة على الأموال، وصيانة لها من الأيدي العابثة، وحرصا على عدم تعريض المجتمع إلى هزات عنيفة بسبب الديون المتراكمة! ولهذا حرمت الشريعة الإسلامية على الموسر المماطلة في السداد، فقال عليه الصلاة والسلام: «مطل الغني ظلم»، ولم يقف الإسلام عند دعوة أفراده إلى السداد، بل حثهم - أولا - على تخصيص بند لقضاء الدين؛ كما جاء في صحيح البخاري ومسلم، عنه [: «لو كان لي مثل أحد ذهبا ما يسرني ألا يمر على ثلاث وعندي منه شيء إلا شيء أرصده لدين»، ثم حثهم - ثانيا - على حسن القضاء، كما في صحيح مسلم: «إن خيار الناس أحسنهم قضاء»؛ وذلك ليغرس في نفوس أبنائه أهمية قضاء الدين، وضرورة مكافأة المحسن بأحسن منه؛ جزاء وفاقا. وكما أجاز الإسلام الدين بضوابط شرعية - ومنها ألا يكون الثمن والمثمن مؤجلا - فقد أجاز القرض الحسن؛ ليشيع في أبنائه روح المحبة والتكافل؛ ولذا حرّم القرض بالفائدة، لأنه ابتزاز للمحتاج الذي ألجأته الضرورة أو الحاجة لاقتراض المال، وبما أن النظام الرأسمالي يسمح بنظام القرض بالفائدة؛ لذا فقد أضر به ضررا بالغا في أسواقه المالية؛ حيث تسببت هذه القروض الربوية - إلى جانب الديون منخفضة الكفاءة - في أعنف زلزال عرفته باحة الشركات والبنوك الأميركية!

لقد نظم الإسلام الحياة الاقتصادية بقانون من الخالق جل وعلا؛ وذلك لينعم الخلق بحياة اقتصادية آمنة، تحترم الغني والفقير، وتراعي المصلحة العامة والخاصة، وتحفظ للناس حقوقهم؛ ولهذا:

أجاز البيع، وحرم الربا، والغرر، والتغرير، والقمار.


وأذن في التجارة، ومنع من الاحتكار، ومن بيع البائع ما لا يملك، أو ما ليس في حوزته، ومن ربح ما لا يضمن..؛ ليقتسم الجميع الربح والخسارة.

ولو أخذت النظم الحديثة بهذا القانون الإلهي العادل..، لما احتاجت إلى تجربة شيوعية، ولا رأسمالية، يثبت فشلها مع مرور الأيام، وتتعرض الأسواق بسببها للانهيار، والشركات للإفلاس والتقبيل، ولكن كما قيل: «ليس بعد الكفر ذنب».

ولكن الذنب علينا نحن المسلمين.. إن سرنا في ركابهم, والذنب أكبر إن قام بعض فقهاء المصارف والبنوك بإجراء عمليات ترقيع على المنتجات البنكية؛ لتبدو بصورة إسلامية، وهي بروح أجنبية! فتصيبنا عدوى الانهيار، والإفلاس، لا سمح الله!