اقتضاء العلم العمل
الشيخ عبدالرزاق بن عبدالمحسن البدر
لا تخفى مكانة العلم ومنزلته العليَّة في ديننا الحنيف، ومنزلته العظيمة؛ فهو أساسٌ به يُبدأ، ولا يُمكن أن تُقام الشَّريعة وأن تُحقَّق العبوديَّة الَّتي خُلق العبد لأجلها وأُوجد لتحقيقها إلَّا بالعلم؛ فهو المقدَّم كما قال الله -سبحانه وتعالى-: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِي نَ وَالْمُؤْمِنَات ِ}(محمد:19)؛ فبدأ -جلَّ شأنه- بالعلم، وكان من دعاء نبيِّنا صلى الله عليه وسلم الَّذي يُواظب عليه كلَّ يوم إذا أصبح بعد صلاة الصُّبح، كما جاء في مسند الإمام أحمد، وسنن ابن ماجه، وغيرهما من حديث أمِّ سلمة -رضي الله عنها- قالت: كان صلى الله عليه وسلم يقول كلَّ يوم بعد صلاة الصُّبح بعد أن يسلِّم: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ عِلْمًا نَافِعًا، وَرِزْقًا طَيِّبًا، وَعَمَلًا مُتَقَبَّلًا»، وفي رواية «وَعَمَلًا صَالِحـًا»؛ فقدَّم -عليه الصَّلاة والسَّلام- في دعائه اليومي العلمَ النَّافع على الرِّزق الطَّيب والعملِ المتقبَّل؛ وذلك أنَّ العبد لا يستطيع أن يَمِيز بين رزقٍ طيِّب وخبيث ولا بين عملٍ صالح وطالح إلَّا بالعلم النَّافع .
فالعلم النَّافعُ ضياءٌ لصاحبه ونورٌ له يهتدي به ، قال الله -جلَّ وعلا-:{وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا}(الشو رى:52)؛ فالعلم نورٌ وضياءٌ لصاحبه، ومَثَل العالم في الأمَّة مَثَل أُناس في ظُلمة وبينهم شخصٌ بيده مصباحٌ، يضيء لهم بمصباحه الطَّريق؛ فيسلَمُون منَ العِثار، ويتَّقون الشَّوك والأخطار، ويسيرون في جادَّةٍ سويَّة وصراط مستقيم .
فضل العلم
ولهذا تكاثرت النُّصوص والدَّلائل في كتاب الله -جلَّ وعلا- وسنَّة نبيِّه صلى الله عليه وسلم في بيان فضل العلم، وشرف قَدْرِه، وعظيم مكانته، والثَّناء على أهله، وبيان منزلتهم العليَّة، ويكفي أهلَ العلم شرفًا ونُبلًا أنَّ الله -عز وجل- قرَن شهادتهم بشهادته في أعظم مشهود به، وهو توحيده {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَة ُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}(آل عمران:18)، ويقول الله -جلَّ وعلا- في شرف وفضل أهل العلم: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ}(الز مر:9)، ويقول -جلَّ وعلا-: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ}(فا طر:28)، ويقول الله -جلَّ وعلا-: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ}(المجا دلة:11)، قيل في معنى الآية: أي يرفع الله العَالِم المؤمن على المؤمن غير العالم غير الفقيه درجاتٍ، ورفعةُ الدَّرجات تدلُّ على عِظم الفَضْل وعلوِّ المكانة.
حديث عظيم
وجاء في الحديث - حديث أبي الدَّرداء في المسند وغيره في بيان فضل العلم ومكانة أهله - قول نبيِّنا -عليه الصَّلاة والسَّلام- في حديثه العظيم الجامع: «مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الجَنَّةِ، وَإِنَّ الملَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ العِلْمِ رِضًا بِمَا يَصْنَعُ، وَإِنَّ العَالِمَ لَيَسْتَغْفِرُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ حَتَّى الحِيتَان فِي المَاءِ، وَإِنَّ فَضْلَ العَالِمِ عَلَى العَابِدِ كَفَضْلِ القَمَرِ لَيْلَةَ البَدْرِ عَلَى سَائِرِ الكَوَاكِبِ، وَإِنَّ العُلَمَاءَ وَرَثَةُ الأَنْبِيَاءِ؛ فَإِنَّ الأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا وَإِنَّمَا وَرَّثُوا العِلْمَ؛ فَمَنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ».
ميراث رسول الله صلى الله عليه وسلم
يروى عن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّه مرَّ بالسوق والناس يبيعون ويشترون؛ فقال: «يا أهل السُّوق، ما أعجزكم؟ قالوا: وما ذاك يا أبا هريرة؟! قال: ذاك ميراث رسول الله يقسم وأنتم ها هنا لا تذهبون فتأخذون نصيبكم منه، قالوا: وأين هو؟ قال: في المسجد؛ فخرجوا سراعًا إلى المسجد، ووقف أبو هريرة لهم حتَّى رجعوا، فقال لهم: ما لكم؟ قالوا: يا أبا هريرة، فقد أتينا المسجد فدخلنا، فلم نَرَ فيه شيئًا يُقسم! فقال لهم أبو هريرة: أما رأيتم في المسجد أحدًا؟! قالوا: بلى رأينا قومًا يصلُّون، وقومًا يقرؤون القرآن، وقومًا يتذاكرون الحلال والحرام! فقال لهم أبو هريرة: ويحكم فذاك ميراث محمَّدٍ»، هذا هو ميراث النَّبيِّ -عليه الصَّلاة والسَّلام- وميراث النَّبيِّين؛ «فَإِنَّ الأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا وَإِنَّمَا وَرَّثُوا العِلْمَ»؛ فكلَّما عَظُمَ حظُّ العبد ونصيبُه من العلم عَظُمَ حظُّه من ميراث النُّبوَّة .
مَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْرًا
وجاء في حديث معاوية في الصَّحيحين أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّههُ فِي الدِّينِ»، قال «خيرًا» جاء بها منكَّرة تفخيمًا وتشريفًا وتعليَةً للثِّمار والآثار الَّتي تُجنى ويجنيها من يتفقَّه في دين الله، قال: «مَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّههُ فِي الدِّينِ»؛ ولهذا دخول المسلم في سبيل طلب العلم وطريق تحصيله هذا، من علامات وأمارات إرادة الله -سبحانه وتعالى- الخيرَ به، ولكن كما قال ابن القيِّم -رحمه الله تعالى-: «وهذا إذا أريد بالفقه العلم المستلزم للعمل»، بمعنى أن يتفقَّه ويعمل، ويكون مقصوده بتفقُّهه رفع الجهل عن نفسه وتحقيق العبوديَّة لله -سبحانه وتعالى- على بصيرة وعلى نورٍ من الله -تبارك وتعالى-؛ فإذا كان بهذه الصِّفة كان مُوجِبًا لحصول الخير، أما إذا كان مجرد فقهٍ بلا عمل؛ فإنه يكون شرطاً لحصول الخير لا موجباً له.
العلمُ مقصودٌ للعمل
والعلمُ مقصودٌ للعمل ويُطلب للعمل ولتحقيق العبوديَّة لله -سبحانه وتعالى-؛ ولهذا كان مقدَّمًا على العمل يُبدأ به ليكون العمل والعبادة والطَّاعة والتَّقرُّب إلى الله -سبحانه وتعالى- على بصيرة، على علمٍ نافع، على أساسٍ صحيح مستمدٍّ من كتاب الله وسنَّة نبيِّه -صلوات الله وسلامه عليه.
اقتضاء العلم العمل
واقتضاء العلم العمل، بمعنى أنَّ العلم مقصودُه العمل، وتحقيق العبوديَّة لله والقيام بها على بصيرة؛ فإذا كان لدى العبد عِلْمٌ بلا عمل لَمْ يحقِّق العبوديَّة، وإذا كان عنده عملٌ بلا علمٍ أيضًا لم يحقِّق العبوديَّة، فلا تتحقَّق العبوديَّة لله -سبحانه وتعالى- إلَّا بالأمرين: بالعلم النَّافع، والعمل الصَّالح، كما قال الله -عز وجل-: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ}(التوبة :33)، «الهدى»: هو العلم النَّافع، و«دين الحقِّ»: هو العمل الصَّالح المقرِّب إلى الله -عز وجل-؛ فهذا الَّذي بُعث به نبيُّنا -عليه الصَّلاة والسَّلام- وبُعث به النبيون جميعهم.
الشَّواهد والدَّلائل
ومن أَجْلِ الوقوف على الشَّواهد والدَّلائل على اقتضاءِ العلمِ العملَ، وأنَّ مقصودَ العلمِ العمل، أَذْكُرُ في هذا الباب نقاطًا عديدة تَجْلِيَةً لهذا الأمر وجمْـعًا لما تيسَّر من شواهده ودلائله؛ فأقول :
مقصودُ الخلق
- أولاً: أنَّ اقتضاء العلم العمل واضحٌ؛ من حيث إنَّ كِلَا الأمرين مقصودُ الخلق؛ فالله -عز وجل- خلقَ الخلقَ ليعرفوه، وخلقَهم -جلَّ وعلا- ليعبدوه، دلَّ على الأوَّل : قول الله -سبحانه وتعالى- في آخر آية من سورة الطَّلاق: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا(12)}، قال: {خَلَقَ... لِتَعْلَمُوا}؛ فالعلم مقصودُ الخلقِ، ودلَّ على الثَّاني: قول الله -سبحانه وتعالى- في أواخر الذَّاريات {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ(56) }؛ فالعلم والعبادة كلٌّ منهما مقصودُ الخلق، والعبادةُ لا تكون إلَّا بالعلم النَّافع المقرِّب إلى الله -سبحانه وتعالى-؛ فمن عَلِمَ وعَملَ، فهو الَّذي حقَّق مقصودَ الخَلْقِ؛ ولهذا قال أهل العلم: التَّوحيد الَّذي خُلقنا لأجله وأُوجدنا لتحقيقه له جانبان: جانبٌ علميٌّ، وجانب عمليٌّ، توحيدٌ في المعرفة والإثبات، وتوحيدٌ في الإرادة والطَّلب؛ فلابدَّ مِنَ هذا ولابد من ذاك، لابد من الأمرين لتتحقَّق العبوديَّة، وليكون العبدُ مِنْ عباد الله حقًّا، المطيعين له -سبحانه وتعالى- صِدقًا.
مقصودَ العلم
ومَنْ كان ذا عِلْمٍ بلا عمل فهو مغضوبٌ عليه، يبوء بغضب الله؛ لأنَّه لم يحقِّق مقصودَ العلم، ومن كان صاحبَ عملٍ وجدٍّ واجتهادٍ في العبادة بلا علم؛ فهو ضالٌّ عن سبيل الله وصراطه المستقيم؛ ولهذا شُرع لنا أن نقرأ في سورة الفاتحة تلك الدَّعوة العظيمة الَّتي هي أهمُّ الدَّعوات وأعظمها {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ(7)}؛ فالمنْعَمُ عَليهم: هم أهلُ العلم والعمل، والمغضوبُ عليهم: هم أهل العلم بلا عمل، والضَّالُّون: هم أهل العمل بلا علم؛ ولهذا قال سفيان بن عُيينة -رحمه الله تعالى-: «من فسَد من علمائنا ففيه شَبَهٌ من اليهود، ومن فسَد من عبَّادنا ففيه شَبَهٌ من النَّصارى»؛ لأنَّ اليهود عندهم عِلْمٌ لا يعملون به، كما قال الله: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ}(الجم عة:5)، {لَمْ يَحْمِلُوهَا}: لم يعملوا بها، حفظوها وفهموا ما دلَّت عليه، ولكنَّهم لم يعمَلوا بها، ومَنْ فسد من عبَّادنا ففيه شبه من النَّصارى؛ لأنَّ النَّصارى أهل بدع وإحداث وعبادات ما أنزل الله -سبحانه وتعالى- بها من سلطان، ولم يشرعها -جلَّ وعلا- لعباده، ولم يأذن -سبحانه وتعالى- لعباده بها؛ فهذه النقطة الأولى من النقاط التي يتبين بها اقتضاء العلم العمل .
ماذا عملوا به ؟
- الأمر الثاني: أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم أخبر بأنَّ النَّاس يوم القيامة يُسألون عن العلم الَّذي حصَّلوه، ماذا عملوا به؟ كما جاء في حديث أبي بَرْزَةَ الأسْلَمي رضي الله عنه أنَّ النَّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «لَا تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ القِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ أَرْبَعٍ - وذكر منها -عليه الصَّلاة والسَّلام-: عَنْ عِلْمِهِ مَاذَا عَمِلَ بِهِ»؛ ولهذا جاء عن أبي الدَّرداء رضي الله عنه أنَّه قال: «إنَّما أخشى يوم القيامة أن يُنَادِينِي ربِّي على رؤوس الخلائق؛ فيقول: يا عُوَيْمِر، ماذا عملت فيما علِمت؟»؛ وهذا خَطْبٌ جسيم، وهَوْلٌ عظيم، ومقامٌ خطير؛ فكلُّ عِلْمٍ حصَّله العبدُ يُسْأَل عنه يوم القيامة: ماذا عملت فيما علمت؟؛ لأنَّ مقصودَ العلمِ العملُ؛ ولهذا يُسأل كلُّ إنسان عن علمه الَّذي تعلَّمه.