تكامل العلاقة بين الزوجين

الشيخ: محمد محمود محمد




من الحكم المأثورة عن العلاقة بين الزوجين ومدى احتياج كل منهما للآخر قولهم: إن حاجة الرجل للمرأة كحاجته إلى جزئه الذي انفصل عنه، وحاجة المرأة إلى الرجل كحاجة الغريب إلى وطنه ليعود إليه، وفي إعجاز قرآني بديع لمشهَدَي خلق الرجل والمرأة، يقول الله -تعالى-: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا} (الأعراف: 189)، فالنفس الواحدة هي نفس آدم -عليه السلام- وزوجه حوَّاء، والغاية التي لأجلها جعل له حواء زوجاً هي تحقيق السكينة الروحية، والسكن النفسي والجسدي.

تكامل لا تنافس

وهو -سبحانه- بذلك يبعث في نفس كل من الزوجين الشعور بأن كلاًّ منهما ضروري للآخر، ومُكمّل له، فيقول للرجل: إن المرأة فرع منك وأنت أصلها، ولا غِنى لأَصْلٍ عن فرعه، ويقول للمرأة: إن الرجل أصلك وأنتِ جزء منه، ولا غِنى للجزء عن أصله؛ فالعلاقة بين الرجل والمرأة ليست علاقة ندية ولا منافسة، ولكنها علاقة تكامل في مودة ورحمة.

المودة علاقة تبادلية

فلا يصلح أن يبذل طرف لآخر حشاشة قلبه، حباً وقرباً، ثم لا يبادله الطرف الآخر المشاعر والأحاسيس نفسها، فالمودة ليست قاصرة على طرف دون آخر؛ لأن الله -تعالى- قال: {بَيْنَكُمْ}، {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} (الروم: 21)، فكلمة (بينكم) تعني أن المودة والرحمة مسألة تبادلية، أي يتبادلها الزوجان، فلا تتحققان إلا من الطرفين معا.

الشُّحُّ مهلكة

لا شيء أضر على السعادة الزوجية وأهلك لها من الشح في المشاعر، فأما المرأة فهي غالباً، تستطيع الصبر على ضيق الرزق، بشرط أن يكون الرجل سخي العاطفة كريم المشاعر، فهي لا تطيق شح زوجها في التعبير عن حبه ومودته لها، بعض النساء تحب أن ترى ذلك التعبير عملياً في كرمه المالي وسخائه المادي، لكن أكثر النساء تكفيهن الكلمة الطيبة، واللمسة الحانية، والنظرة الراضية، بل بعض النساء الكاملات تعرف ذلك الحب منه ولو لم يصرح به، من نظراته، ومن قربه وبعده واهتمامه، وكذلك الزوج في المقابل قد يصبر على تكاسل زوجته عن القيام ببعض أعباء الزوجية، لكنه لا يرضى ولا يصبر على شح مشاعرها تجاهه، حين تتعمد الإعراض عنه، أو تتأفف من اقترابه، أو تتعمد الصد عنه والعبوس في وجهه.

ماهية الشح

إن الشح هو نوع من البخل، لكنه أعمق منه وأوسع نطاقاً، فبينما يطلق البخل في اللغة على منع الإنفاق بالمال مع وجوده ضنًّا به وحرصاً على اكتنازه، نجد الشح يطلق في المقابل على منع كل بِرٍّ أو معروف من مال أو غيره، فالإنسان الشحيح لا يضن بماله فقط، ولكنه يضن حتى بابتسامته وبسلامه، ويظهر أثر شحه في أعماله وأقواله وإحساسه، وهذا السلوك السلبي قد يتسرب إلى أحد الزوجين في علاقته بالآخر أو يتلبس به كليهما نتيجة أسباب عديدة.

أسباب شح العواطف

- الأول: حين يحرص كل منهما على أن يكون هو الآخذ وليس المعطي، الكاسب وليس الباذل، حين يقف كل منهما للآخر موقف المترقب لما يصدر عن شريكه، دون أن يأخذ زمام المبادرة إليه، والتودد والتحبب إليه.

- الثاني: أن يكون في طبع أحدهما غلظة، أو برود، أو أثرة، وتعظيم للذات كبراً أو غروراً بجمال أو مال أو حسب أو علم أو عقل أو شيء من ذلك، وقد تكون هذه الآفة موجودة أصلاً في شخصيته لكن لم يكتشفها الطرف الثاني في الوقت المناسب، وقد يعرفها فيه من البدء ولكنه يتساهل في تقدير خطرها، ظنا منه القدرة على إصلاحها، أو التعايش معها بعفوية، تحت وطأة تعلق قلبي وشغف بمحاسن أخرى في الطرف الآخر، ولا إشكال حينئذ، لتوافر الرضا، إنما تظهر المشكلات عقب تحول ذلك التعلق والشغف إلى رتابة واعتياد؛ حيث تتحول المحبة إلى مجرد تعايش مع الأمر الواقع، عند ذلك ينتبه الطرف الذي بذل خلاصة قلبه من غفوته، ينتبه على ما كانت ولا زالت تنطوي عليه شخصية الطرف الآخر من أدواء وأنانية وجمود، فيحصل منه عند ذلك الخمود والصدود، ولا سيما حين يحاول تحريك الراكد وتنبيه الغافل، فلا يبدي صاحب الداء مع رفيق حياته إلا مزيداً من البلادة وتعكيراً للأجواء بفيح الماء الآسن.

- الثالث: قد يحل الشح العاطفي بسببٍ وقتيٍّ عابر، حين يكون هناك صد طارئ من أحد الطرفين بسبب خارج عن إرادته، لمتاعب نفسية، أو مرض جسدي، أو كثرة أعباء أسرية كالتي تحصل للنساء عادة عند الحمل الثاني أو الثالث، ثم لا ينظر الطرف الثاني إلا إلى العَرَضِ (أي الصدود) دون التفات منه إلى أسبابه، فيبادل هو كذلك شريكه بالمثل، صداًّ بصدٍّ، فإذا به قد فارقت الحكمة عقله.

الصمت كالماء قليله نافع

الصمت، في بعضه السلامة، عند ظهور داء عارض، لكنه بالأساس مقبرة المشاعر، فهو داءٌ خطير، يزيد الفجوة ويوسع الهُوَّة، وليس منه شيء مستحب بين الزوجين إلا في حالات الغضب والشجار فحسب، ففي الصمت إذ ذاك السلامة، لكن في غير ذلك يزيد الصمت الإحساس بالرتابة، وتتحول معه الحياة الزوجية إلى حياة باهتة بائسة يسودها صمت المقابر، ولقد أسهمت وسائل التواصل الإلكتروني في تعميق ذلك الداء بين الناس على الأصعدة والمستويات الأسرية وغير الأسرية كافة، فكرس ذلك الشعور بالاغتراب والوحشة والرغبة في الانعزال، وعدم القدرة على التعبير اللفظي، وهذا حين يكون الصمت خطراً على المستوى الإنساني عامة، فهو في نطاق الحياة الأسرية جد خطير ومهلك، ولا سيما بين الزوجين؛ حيث تتحول معه الرغبة الإنسانية في التماس مجالسة زوجية ومكالمة شفهية بين رفيقين، إلى مجرد علاقة رتيبة فرضتها الأقدار لمتجاورين في قطار لا رابط بينهما سوى الظرف الطارئ.

الرسائل الجاهزة حل مؤقت

قد يعجز أكثرنا عن تنميق الأقوال وإبداع العبارات التي تمد الجسور وتقوي الروابط، فيلجأ إلى الرسائل الهاتفية الجاهزة، والصور المفبركة، ليعبر عن محبته وتمكسه بالطرف الآخر، وهذا محمود لا شك، فتلك رسائل مهمة ومعبرة شريطة ألا نقتصر عليها، لا من جانب الزوج ولا من جانب الزوجة، فلا بد للطرف الأكثر كرماً منهما أن يبادر بفتح أبواب النقاش وبسط أطراف الحديث، عن الأولاد، أو شؤون البيت، أو الشؤون الشخصية، أو أي شأن لا يكون في الحديث عنه إثم، من غيبة أو نحو ذلك، فجسور المودة لا تمتد حقيقة إلا بذلك، كما لا تدوم قوتها في الواقع إلا بذلك، فلتكن الرسائل الهاتفية الجاهزة مجرد بداية فحسب لكسر جليد الصمت القاتل.

حسن الإنصات

ليس على كلا الطرفين حين يذوب الجليد، أن يتحدثا في وقت واحد، بل عليهما في الوقت الذي يكسران فيه حاجز الصمت أن يتدربا أيضاً على حسن الإنصات، وإظهار التجاوب، وقد جاء في السنة النبوية أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان بعدما يصلي العشاء يدخل بيته ويحادث أهله، ولطالما نقلت لنا أمُّ المؤمنين عائشةُ -رضي الله عنها- أحاديث طويلة دارت بينها وبين النبي - صلى الله عليه وسلم . فعلى كل من الزوجين ولا سيما الزوج أن يعطي لزوجه الفرصةَ لإبداء رأيها وإفراغِ ما في نفسها، فلقد كانت هذه هي أخلاق النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - عموما، ومع زوجاته خصوصا.

إنصات النبي - صلى الله عليه وسلم - لعائشة

فقد جاء في الصحيحين وغيرهما أنه - صلى الله عليه وسلم - استمع من أم المؤمنين عائشة إلى قصة طويلة لنساء اجتمعن في الجاهلية، فتحدثت كل واحدة منهن بحالها مع زوجها، قالت: «جلس إحدى عشرة امرأة، فتعاهدن وتعاقدن ألا يكتمن من أخبار أزواجهن شيئا.. الحديث»، فعائشة -رضي الله عنها- تتحدث ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسمع، حتى إذا ذكرت له ما كان من المرأة الحادية عشرة من حديث عن حالها مع زوجها، وهو أبو زرع، والنبي ساكت - صلى الله عليه وسلم - لم يشرد بذهنه، ولم يقاطع،، فأبو زرع أكرم زوجته غاية الإكرام، لكنه طلقها فتزوج امرأة أخرى، وتزوجت هي أيضاً بزوج آخر، لكنها قالت عنه يعني أم زرع: «فلو جمعتُ كلَّ شيء أعطانيه، ما بلغ أصغر آنية أبي زرع»، فإذا بالنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول لعائشة -رضي الله عنها مؤنساً لها ومتوددا-: «كنت لَك كَأبي زرع لأم زرع إلا أنه طلقها وأنا لا أطلقك»، قال القسطلاني -رحمه الله تعالى-: «فاستثنى الحالة المكروهة، وهي ما وقع من تطليق أبي زرع، تطييبًا لها وطمأنينة لقلبها، ودفعًا لإيهام عموم التشبيه بجملة أحوال أبي زرع؛ إذ لم يكن فيه ما تذمه النساء سوى ذلك، وقد أجابت عن ذلك جوابَ مثلها في فضلها وعلمها فقالت: كما عند النسائي والطبراني: «يا رسول الله بل أنت خير من أبي زرع»، وفي رواية الزبير: «بأبي وأمي لأنت خير لي من أبي زرع لأم زرع».