ذَمُّ الْخِيَانَة


الشيخ عبدالرزاق بن عبدالمحسن البدر


إن دين الإسلام -دين الأمانة والنصح والوفاء- لا خيانة فيه ولا مكر ولا جفاء، ولهذا جاء في الحديث عن نبينا صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لَا إِيمَانَ لِمَنْ لَا أَمَانَةَ لَهُ»، وضد الأمانة: الخيانة، والخيانة بطانة سوء وخبيئة شر؛ جاءت الشريعة بذمِّها، والنهي عنها، والتحذير من فعلها، وبيان عظم عقوبة أهلها عند الله، ويكفي بيانًا لذم الخيانة قول الله -جل في علاه-: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ} (الأنفال:58)، وإذا كان لا يحبهم فلازم ذلك أنه يبغضهم ويسخط فِعالهم، ويترتب على ذلك من العقوبة ما يترتب.

آيَةُ المُنَافِقِ

وقد جاء في الحديث المتفق على صحته أن نبينا صلى الله عليه وسلم قال: «آيَةُ المُنَافِقِ ثَلاَثٌ: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ» فعدَّ الخيانة من صفات المنافقين؛ وذلك -عباد الله- أن الخائن يُظهر نصحًا ووفاء ويُبطن خيانة وجفاء؛ ولهذا كانت الخيانة من خصال أهل النفاق، وقد جاء في سنن أبي داود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في تعوذه: «وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ الْخِيَانَةِ، فَإِنَّهَا بِئْسَتِ الْبِطَانَةُ» والحديث جيد الإسناد. قال «بِئْسَتِ الْبِطَانَةُ»؛ لأن الخائن يُبطن ويُضمر في نفسه ما لا يُظهره.

تتناول الدين كله

والخيانة تتناول الدين كله، كما أن الأمانة تتناول الدين كله، فليست الخيانة -عباد الله- خاصةً فيما يتعلق بالمعاملات مع الناس، بل الخيانة أنواع ثلاثة: خيانةٌ لله، وخيانةٌ للرسول عليه الصلاة والسلام، وخيانةٌ للأمانات أمانات الناس فيما بينهم، وقد جُمعت الأنواع الثلاثة في قول الله -جل في علاه-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (الأنفال:27) أي تعلمون قُبحها وسوء عاقبتها.

روى ابن أبي حاتم عن ابن عباس -رضي الله عنهما- في معنى هذه الآية قال: «لا تخونوا الله»: بترك فرائضه، «والرسول»: بترك سنته وركوب نهيه، «وتخونوا أماناتكم»: أي لا تنقضوها.

الخيانة أنواع

فأفاد أن الخيانة أنواع ثلاثة؛ فيدخل فيها الخيانة المتعلقة بجناب الله بركوب المعاصي وترك الفرائض والواجبات، وما يتعلق بالرسول -عليه الصلاة والسلام- برفض سنَّته وركوب الأهواء والضلالات، وكذلك: ما يتعلق بحقوق الناس وتعاملاتهم بأن يخون المرءُ غيره في نفسٍ أو أهلٍ أو مالٍ أو سرٍ أو غير ذلك.

ذمٌّ كلها وقُبحٌ جميعها

والخيانة ذمٌ كلها وقُبحٌ جميعها؛ ولهذا صح في الحديث في سنن أبي داود وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أَدِّ الْأَمَانَةَ إِلَى مَنِ ائْتَمَنَكَ، وَلَا تَخُنْ مَنْ خَانَكَ»؛ فأفاد هذا الحديث أن الخيانة مذمومة ولو كانت على سبيل المجازاة بالمثل؛ ولهذا -عباد الله- من أفحش الأخطاء قول بعض العوام «خان الله من يخون» أو «الخائن يخونه الله»، فهذا وصفٌ ذميم شنيع لا يصح أن يقال، ولهذا قال الله -عز وجل-: {وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ} (الأنفال:71) ولم يقل فخانهم؛ لأن الخيانة ذمٌ كلها.

ويجب على عبدالله المؤمن أن يربأ بنفسه الشريفة عن الخيانة بأنواعها كلها تنزهًا ورفعة بنفسه الأبية الشريفة، قال الحافظ ابن رجب -رحمه الله تعالى-: «فمن كانت نفسه شريفة وهمته عالية لم يرضَ لها بالمعاصي؛ فإنها خيانة، ولا يرضى بالخيانة إلا من لا نفس له» أي: لا نفس له شريفة أبية.

تتولد من رقة الدين

والخيانة تتولد في الإنسان من رقة الدين وضعف المراقبة لرب العالمين، قال الله -تعالى-: {وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا (107) يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا} (النساء:107-108)؛ فأفادت الآية الكريمة أن هذه الرقة في الدين وضعف المراقبة لرب العالمين يتولد عنها ما يتولد، ومن ذلكم الخيانة بأنواعها كافة.