حق كبار السن

الشيخ عبدالرزاق بن عبدالمحسن البدر




إنَّ الدين الإسلامي الحنيف أتى ليكمِّلَ الناس في آدابهم وأخلاقهم ومعاملاتهم، فعن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ صَالِحَ الْأَخْلَاقِ}، وإنَّ من الأخلاق النبيلة والخصال الكريمة التي دعا إليها الإسلام مراعاة قدر كبار السن ومعرفة حقهم وحفظ واجبهم.

فالإسلام أمر بإكرام المسن وتوقيره واحترامه وتقديره، ولاسيما عندما يصاحب كبر سنه ضعفه العام وحاجته إلى العناية البدنية والاجتماعية والنفسية، ولقد تكاثرت النصوص وتضافرت الأدلة في بيان تفضيل الكبير وتوقيره، والحث على القيام بحقه وتقديره.

عن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ لَمْ يَرْحَمْ صَغِيرَنَا وَيَعْرِفْ حَقَّ كَبِيرِنَا فَلَيْسَ مِنَّا»، وفي هذا وعيد لمن يهمل حق الكبير، ويضيع الواجب نحوه بأنه ليس على هدي النبي صلى الله عليه وسلم ، وغيرُ ملازم لطريقته، وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إِنَّ مِنْ إِجْلَالِ اللَّهِ إِكْرَامَ ذِي الشَّيْبَةِ الْمُسْلِمِ، وَحَامِلِ الْقُرْآنِ غَيْرِ الْغَالِي فِيهِ وَالْجَافِي عَنْهُ، وَإِكْرَامَ ذِي السُّلْطَانِ الْمُقْسِطِ».

وعن أبي يحيى الأنصاريصلى الله عليه وسلم قال: انْطَلَقَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَهْلٍ وَمُحَيِّصَةُ بْنُ مَسْعُودِ بْنِ زَيْدٍ إِلَى خَيْبَرَ وَهِيَ يَوْمَئِذٍ صُلْحٌ فَتَفَرَّقَا، فَأَتَى مُحَيِّصَةُ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَهْلٍ وَهُوَ يَتَشَمَّطُ فِي دَمِهِ قَتِيلًا فَدَفَنَهُ ثُمَّ قَدِمَ الْمَدِينَةَ، فَانْطَلَقَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَهْلٍ وَمُحَيِّصَةُ وَحُوَيِّصَةُ ابْنَا مَسْعُودٍ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ، فَذَهَبَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ يَتَكَلَّمُ فَقَالَ: «كَبِّرْ كَبِّرْ» وَهُوَ أَحْدَثُ الْقَوْمِ فَسَكَتَ فَتَكَلَّمَا فَقَالَ: «تَحْلِفُونَ وَتَسْتَحِقُّون َ قَاتِلَكُمْ؟» وذكر تمام الحديث. وقوله «كَبِّرْ كَبِّرْ» معناه: يتكلم الأكبر.

وعن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أَرَانِي فِي الْمَنَامِ أَتَسَوَّكُ بِسِوَاكٍ فَجَذَبَنِي رَجُلَانِ أَحَدُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ الْآخَرِ، فَنَاوَلْتُ السِّوَاكَ الْأَصْغَرَ مِنْهُمَا فَقِيلَ لِي كَبِّرْ، فَدَفَعْتُهُ إِلَى الْأَكْبَرِ»، وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِصلى الله عليه وسلم وَهُوَ يَسْتَنُّ، فَأَعْطَى أَكْبَرَ الْقَوْمِ وَقَالَ: «إِنَّ جِبْرِيلَعليه السلام أَمَرَنِي أَنْ أُكَبِّرَ».

حق ذي الشيبة المسلم

إلى غير ذلك من النصوص الكثيرة والأدلة العديدة التي اشتملت عليها سنة النبي الكريم صلى الله عليه وسلم ، وهذه النصوص وما جاء في معناها تدعو المسلمين إلى احترام كبار السن من المسلمين، ومعرفة حق ذي الشيبة المسلم ولزوم الأدب معهم، وذلك باحترامهم وتوقيرهم ومعرفة قدرهم وحقوقهم، ومراعاة كبر سنهم وأعمارهم، وملاحظة ضعفهم ووهن أبدانهم، وتقدير مشاعرهم وأحاسيسهم، وتقديمهم في الكلام والطعام والدخول، ونحو ذلك من الآداب العظيمة والأخلاق الكريمة، ويتأكد الاحترام والتقدير عندما يكون كبير السن أباً أو جدًّا أو خالاً أو قريباً أو جاراً، وذلك لحق القرابة والصلة والجوار، وكما يدين المرء يدان ؛ فمن راعى حقوق هؤلاء وحافظ على واجباتهم في شبابه وصحته ونشاطه، هيأ الله له في كبره من يرعى حقوقه.

عن أنس بن مالك رضي الله عنهقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «مَا أَكْرَمَ شَابٌّ شَيْخًا لِسِنِّهِ إِلَّا قَيَّضَ اللَّهُ لَهُ مَنْ يُكْرِمُهُ عِنْدَ سِنِّهِ». وفي معناه ما رواه يحيى بن سعيد المدني قال:: بلغنا أنه من أهان ذا شيبة لم يمت حتى يبعث الله عليه من يهين شيبته إذا شاب.

إقبال على الآخرة

إن كبار السن وذوي الأعمار المديدة يعيشون مرحلة إقبال على الآخرة وإحساس بدنو الأجل أكثر من غيرهم، فالطاعة فيهم تزيد، والخير فيهم يكثر، والوقار عليهم يظهر، روى ابن أبي الدنيا قال: دخل سليمان بن عبد الملك المسجد فرأى شيخاً كبيراً فدعا به، قال: يا شيخ أتحب الموت؟ قال: لا، قال: بمَ؟ قال: ذهب الشباب وشره وجاء الكبر وخيره، فإذا قمت قلت بسم الله، وإذا قعدت قلت الحمد لله، فأنا أحب أن يبقى لي هذا، وعن عبد الله بن بُسْر صلى الله عليه وسلم : أَنَّ أَعْرَابِيًّا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ خَيْرُ النَّاسِ؟ قَالَ: «مَنْ طَالَ عُمُرُهُ وَحَسُنَ عَمَلُهُ».

الواجب على الشباب

إن الواجب على الشباب أن يتقوا الله -جل وعلا- ويراقبوه بمراعاة حقوق هؤلاء الأمثال الأخيار والأفضال الأبرار، أهل الإحسان والطاعة والخير والعبادة، أهل الركوع والسجود والصيام والقيام، والتسبيح والتهليل والحمد والطاعة.

وإن من المؤسف حقاً أن تهدر حقوق هؤلاء في ظل طيش الشباب وغمرتهم في السهو والغفلة؛ فلا الآباء يحترمون، ولا الكبار يقدِّرون ويوقرون، ولا للقيام بحقوق هؤلاء يقومون ويرعون، بل ولا للوقوف بين يدي الله يراقبون، لاسيما وأن بعض سفهاء الشباب قد يرتكبون تجاه هؤلاء اعتداءات مشينة وتجاوزات عظيمة، تسفِر عن قلة الحياء وذهاب الخلق والمروءة ومفارقة القيم والأخلاق، فهم في غمرتهم ساهون، وسيعلم الذين ظلموا أيَّ منقَلب ينقلبون.

ألا فليتق الله هؤلاء بمعرفة حقوق آبائهم وأكابرهم وحفظ أقدارهم ومراعاة واجباتهم، وإنا لنسأل الله أن يهدي شباب المسلمين، وأن يردَّهم إلى الحق رداً. ونسأله سبحانه أن يمتِّع كبار السن بالصحة والعافية، وأن يرزقهم صلاح الذرية وحسن العاقبة، وأن يختم لنا ولهم بالخير والإيمان.



متى تبدأ التربية؟

الأولاد زينة الدنيا وبهجتُها، وهم أمانة الله لدينا، وفوق ذلك وقبله هم هِبَة الله المنعِم لنا، وصلاح الأبناء هو دعوة الصالحين وغايتهم؛ قال -تعالى- على لسان زكريا: {رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ}(آل عمران: 38)، وقال أيضًا: {وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي}(الأ حقاف: 15)؛ ولأن شكر النعمة يكون مِن جنسها؛ أي: رعايتها حق الرعاية؛ فأداءُ شكر نعمة الأبناء يكون بتربيتهم تربيةً سليمة.

والتربية هي عملية بناء الطفل شيئًا فشيئًا إلى حد الكمال الإنساني، وهي واجب ديني؛ قال الله -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ}(الت حريم: 6).

الانتباه للتربية

إن كثيرًا من الآباء والأمهات يبتهجون بالطفل ويلاعبونه ويدللونه، ولا ينتبهون لتربيته إلا مع ظهور أول مشكلة، التي ربما تكون في سن الخامسة أو السابعة أو التاسعة، وبعضهم ينتبه مع دخول طفله مرحلة المراهقة في الثانية عشرة، وهنا يكون ضاع حظٌّ عظيم من التربية، فقد كبر الغصن الغض، وصار شجرة تستعصي على التقويم! وإن الغرس له مواسم، فإذا فات الموسم فاتتك الفرصةُ أن يخرج ما تغرسه قويًّا سليمًا معافًى؛ لأنك إذا غرستَه في غير موسمه، خرج ضعيفًا هزيلًا هشًّا، والسؤال هنا هو: إذا أردتُ ولدًا يكون قرة عين لي، وأردتُ تربيتَه، فمتى تبدأ التربية؟

يُذكر أن الإمام العابد سهلًا التستري كان يتعهد ولده وهو في صلبه؛ فيباشر إلى العمل الصالح رجاءَ أن يرزقه الله الولد الصالح، وكان يقول: «إني لأرعى أولادي قبل أن يُخرجهم الله إلى الدنيا».

ويُحكى أن رجلًا ذهب إلى أحد العلماء يسأله: كيف تكون التربية؟ فسأله العالم: كم عمر ابنك الآن؟ فقال: أربعة أشهر، فقال العالم: لقد فاتَتْك التربية! والمقصود هنا أن تربية الأولاد تبدأ مبكرًا، قبل الإنجاب، بل وقبل الزواج، لذلك فإن تربية الأولاد تبدأ بـ:

صلاح الوالد

صلاح الوالد ودعاؤه ورجاؤه من الله -تعالى- أن يرزقه ذرية صالحة، فهو دعاء الأنبياء والصالحين: قال تعالى: {رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ}(ا لصافات: 100)، وقال -تعالى-: {رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ}(آل عمران: 38)، وقال -تعالى-: {رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَ ا قُرَّةَ أَعْيُنٍ}(الفرقا ن: 74).

اختيار الزوج الصالح

من أسس التربية السليمة أن يختار الرجل الزوجة الصالحة، وتختار المرأة الزوج الصالح؛ فمن المعلوم أن اختيار الأم الصالحة من حقوق الأبناء على الآباء، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «تخيَّروا لنُطَفكم، وانكحوا الأكْفاء، وأنكحوا إليهم» رواه ابن ماجه، وقال أيضًا صلى الله عليه وسلم : «اختاروا لنطفكم المواضع الصالحة» رواه الدارقطني، وقال أبو الأسود الدُّؤلي لبنيه: «قد أحسنت إليكم صغارًا وكبارًا وقبل أن تُولدوا، قالوا: وكيف أحسنتَ إلينا قبل أن نُولَد؟ قال: اخترتُ لكم الأم من لا تُسَبُّون بها».

دوام الذكر وتلاوة القرآن

وبعد الزواج وحتى يأذن الله بالحمل، يكون من تربية أولادنا دوام الذكر وتلاوة القرآن، وتحرِّي الرزق الحلال؛ فلا يدخل للجنينِ طعامٌ حرام، وتبعد الأم نفسها عن التوتر والقلق؛ فلقد أُثبِت أن الجنين يتأثر بما تتأثر به الأم.

غرس القيم

وبعد أن يولد وخلال السنة الأولى، يبدأ الرضيع في الوعي تدريجيًّا، وهنا يكون قد برز لنا متربٍّ جديد في المنزل، نبدأ نمارس عليه عملية التربية؛ من تكوين سلوكيات، وغرس قيم، وملاعبة وملاطفة، وهنا ننبه إلى أمر خطير يغفل عنه الكثير من الآباء والمربِّون، وهو أن 80 % من القِيم التي يحيا بها الإنسان في حياته يتم تشكيلها في السنوات الخمس الأولى من العمر! فلنستعدَّ ولننتبه جيدًا، فإن ما يدخل مع اللبن لا يخرج إلا مع النَّفَس.