تأملاتٌ في النصيحة - الموازَنة بيْن المصالح والمفاسد مَرَدُّها إلى أهل العلم (5)

د. ياسر حسين محمود




قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رَحِمَهُ اللهُ-: «لَكِنَّ اعْتِبَارَ مَقَادِيرِ الْمَصَالِحِ وَالْمَفَاسِدِ هُوَ بِمِيزَانِ الشَّرِيعَةِ؛ فَمَتَى قدرَ الِإِنْسَانٍ عَلَى اتِّبَاعِ النُّصُوصِ لَمْ يَعْدِلْ عَنْهَا، وَإِلَّا اجْتَهَدَ رَأْيَهُ لِمَعْرِفَةِ الْأَشْبَاهِ وَالنَّظَائِرِ، وَقَلَّ أن تُعْوِز النُّصُوص مَن يكون خَبِيرًا بهَا وبدلالتها على الأحكام» (الاستقامة 2/ 217)، فحقيقة الترجيح بيْن المصالح والمفاسد هو مِن أغمض أمور الاجتهاد عند مَن لا يفهم مقاصد الشريعة وأحكامها، وَرُتَب المصالح ومقاديرها؛ مِن أجل ذلك كان الاجتهاد هو بميزان الشريعة في تحقيق هذا الأمر.

مَحَبَّةُ الْإِنْسَانِ الْمَعْرُوفَ وَبُغْضُهُ لِلْمُنْكَرِ

قال شيخ الإسلام -رَحِمَهُ اللهُ- أيضًا: «وَأَصْلُ هَذَا أَنْ تَكُونَ مَحَبَّةُ الْإِنْسَانِ الْمَعْرُوفَ وَبُغْضُهُ لِلْمُنْكَرِ، وَإِرَادَتُهُ لِهَذَا، وَكَرَاهَتُهُ لِهَذَا، مُوَافِقَةً لِحُبِّ اللَّهِ وَبُغْضِهِ وَإِرَادَتِهِ وَكَرَاهَتِهِ الشَّرْعِيِّينَ . وَأَنْ يَكُونَ فِعْلُهُ لِلْمَحْبُوبِ وَدَفْعُهُ لِلْمَكْرُوهِ بِحَسَبِ قُوَّتِهِ وَقُدْرَتِهِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُكَلِّفُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا، وَقَدْ قَالَ: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (التغابن:16)» (مجموع الفتاوى 28/ 131-134).

نَوْعٌ من الْهَوَى

فَإِنَّ مِنْ النَّاسِ مَنْ يَكُونُ حُبُّهُ وَبُغْضُهُ وَإِرَادَتُهُ وَكَرَاهَتُهُ بِحَسَبِ مَحَبَّةِ نَفْسِهِ وَبُغْضِهَا، لَا بِحَسَبِ مَحَبَّةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَبُغْضِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَهَذَا مِنْ نَوْعِ الْهَوَى؛ فَإِنْ اتَّبَعَهُ الْإِنْسَانُ فَقَدْ اتَّبَعَ هَوَاهُ {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ} (القصص:50)؛ فَإِنَّ أَصْلَ الْهَوَى هو مَحَبَّةُ النَّفْسِ وَيَتْبَعُ ذَلِكَ بُغْضُهَا، وَنَفْسُ الْهَوَى -وَهُوَ الْحَبُّ وَالْبُغْضُ الَّذِي فِي النَّفْسِ- لَا يُلَامُ العبدُ عَلَيْهِ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ قَدْ لَا يُمْلَكُ؛ وَإِنَّمَا يُلَامُ عَلَى اتِّبَاعِهِ، كَمَا قَالَ -تَعَالَى-: {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} (ص:26)، وَقَالَ -تَعَالَى-: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ}... وَاتِّبَاعُ الْأَهْوَاءِ فِي الدِّيَانَاتِ أَعْظَمُ مِنْ اتِّبَاعِ الْأَهْوَاءِ فِي الشَّهَوَاتِ؛ فَإِنَّ الْأَوَّلَ حَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِين َ، كَمَا قَالَ اللهُ -تَعَالَى-: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ}، وَقَالَ -تَعَالَى-: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} (المائدة:49).

مَنْ خَرَجَ عَنْ مُوجِبِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ

وَلِهَذَا كَانَ مَنْ خَرَجَ عَنْ مُوجِبِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِنْ المنسوبين إلى الْعُلَمَاءِ والعباد يُجْعَلُ مِنْ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ؛ كَمَا كَانَ السَّلَفُ يُسَمُّونَهُمْ أَهْلَ الْأَهْوَاءِ؛ وَذَلِكَ إنَّ كُلَّ مَنْ لَمْ يَتَّبِعْ الْعِلْمَ فَقَدْ اتَّبَعَ هَوَاهُ، وَالْعِلْمُ بِالدِّينِ لَا يَكُونُ إلَّا بِهُدَى اللَّهِ الَّذِي بَعَثَ بِهِ رَسُولَهُ - صلى الله عليه وسلم -؛ فَالْوَاجِبُ عَلَى الْعَبْدِ أَنْ يَنْظُرَ فِي نَفْسِ حُبِّهِ وَبُغْضِهِ. وَمِقْدَارِ حُبِّهِ وَبُغْضِهِ: هَلْ هُوَ مُوَافِقٌ لِأَمْرِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ؟ وَهُوَ هُدَى اللَّهِ الَّذِي أَنْزَلَهُ عَلَى رَسُولِهِ - صلى الله عليه وسلم -؛ بِحَيْثُ يَكُونُ مَأْمُورًا بِذَلِكَ الْحَبِّ وَالْبُغْضِ. لَا يَكُونُ مُتَقَدِّمًا فِيهِ بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ؛ فَإِنَّ اللهَ قَدْ قَالَ: {لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} (الحجرات:1)، وَمَنْ أَحَبَّ أَوْ أَبْغَضَ قَبْلَ أَنْ يَأْمُرَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ فَفِيهِ نَوْعٌ مِنْ التَّقَدُّمِ بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ» (انتهى).

هذه المسألة مِن أعظم المسائل أهميةً؛ لأن كثيرًا مِن الناس حين لا يدرك الطريقة الشرعية في الترجيح بيْن المصالح والمفاسد والموازنة بينها، وتَحَمُّل أدنى المفسدتين لدفع أعظمهما، وتفويت أدنى المصلحتين لتحصيل أعظمهما، عندما لا يدرك ذلك يتبع هواه، ويظن أن أمر الناس جميعًا في ذلك.

قول بعض الجهال

ومِن هنا يقول بعض الجهال: إن المصلحة والمفسدة (طاغوت العصر)!، ومنهم من يقول: إن مصلحة الدعوة صارت صَنَمًا يُعبد مِن دون الله -والعياذ بالله-!، وإن ذلك لأجل الجهل بطريقة الترجيح بيْن المصالح والمفاسد بموازين الشريعة، وبالعلم لا بالهوى، وحين ظنوا أن هذا الأمر كل واحد فيه يتبع هواه، ظنوا أن هذا مِن الطغيان، وأنه يمكن أن يكون طاغوتًا أو صنمًا يُعبد مِن دون الله؛ وهذا مِن الضلال البَيِّن، فإن ما شرعه الله -عَزَّ وَجَلَّ- لا يكون طغيانًا، فضلًا أن يكون طاغوتًا -أي إلهًا يُعبد مِن دون الله- في أصل الكلمة وظاهرها، ولا أن يكون صنمًا كما سماه بعضهم، قال الله -عَزَّ وَجَلَّ- عن شعيب -عليه السلام-: {إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ} (هود:88)، وقال -عَزَّ وَجَلَّ-: {واللهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ} (البقرة:205)، وقال: {واللهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} (المائدة:64)؛ فكيف تكون مراعاة ما شرعه الله -عَزَّ وَجَلَّ- بموازين الشريعة صنمًا يُعبد؟! نعوذ بالله من ذلك، إنما يكون ادعاء رعاية المصلحة والمفسدة صنمًا يُعبد إذا قَدَّمَ الإنسانُ الكفرَ، وقالَ الكفرَ وفَعَلَه مِن أجل مصلحةٍ مُتَوَهَّمَةٍ يظنها للدعوة أو للمجتمع أو الناس؛ لأنه بذلك يكون قد قَدَّمَ أعظم المفاسد وضَيَّعَ أعظمَ المصالح -وهو التوحيد-، ولا يكون ذلك أبدًا فيمن يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله ظاهرًا وباطنًا، ومن يحقق حقائق الإيمان بالله وبالملائكة، والكتب والرسل، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره، والإسلام والشهادة، والصلاة والصيام، والزكاة والحج، ومِن الإحسان الذي هو أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك، فإن مَن يختلط عليه مثل هذا الأمر حتى يجعل مَن لم يضيع هذه المصالح -لكونه يتكلم باسم المصلحة والمفسدة- يعبد صنمًا أو طاغوتًا للاختلاف في المواقف السياسية، لا شك أن هذا مِن الجهل العظيم.

ثوابت الشريعة التي لم تتغير

لذلك نقول: إن الثوابت التي لم تتغير في الشريعة قط مِن الإسلام والإيمان والإحسان، لابد وأن تظل هي المُقَدَّمَة دائمًا في المصالح، وما يضادّها مِن الشرك والتكذيب والكفر، والنفاق والشك، وغير ذلك مِن أنواع المُخالَفَة في العقيدة، هي أعظم المفاسد التي يجب درؤها؛ تُقَدَّم في الدفع والدرء على غيرها.

المواقف السياسية

وأما المواقف السياسية، وطرائق التعامل مع المخالفين -ابتداءً مِن الكفار والمنافقين وانتهاءً بالفسقة والمبتدعين مِن المسلمين، وما بين ذلك وما بعده كذلك- مِن الأمور الاجتهادية التي يقع فيها الخلاف بيْن أهل العلم وبيْن الناس عمومًا؛ فإن هذه تتسم بالمرونة بلا شك، قفد فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - مِن ذلك مَن يعرفه مَن اطَّلَع على سُنَّتِه؛ فقد كان في مكة يقول لأصحابه: «كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ»، كما بَيَّنَ -عَزَّ وَجَلَّ- ذلك في قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} (النساء:77)، ثم بعد ذلك أنزل اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- عليه: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} (الحج:39)، ثم أنزل اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُم ْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} (البقرة:190)، ثم أنزل اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُم ْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} (التوبة:36)، وفيما بيْن ذلك أنزل اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: {وَإِن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (الأنفال:61).

مرونة واسعة

إذًا أنتَ تلحظ في هذه النصوص مرونة واسعة ما بيْن القتال، وما بيْن المُسَالَمَة والهدنة، والصبر والصفح والعفو عمَن آذى الله ورسوله إلى حين، وهذا التنوع في المواقف السياسية والحربية والسلمية مما يجب فهمه وإدراكه ليستعمل في الموضع اللائق به.

معرفه النصوص وترجيحاتها

وهذه الموازنات مَرَدُّها إلى معرفه النصوص وترجيحاتها؛ فإن الله أنزل الكتاب ليحكم بيْن الناس فيما اختلفوا فيه، كما قال -عَزَّ وَجَلَّ-: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ} (البقرة:213)، وكذلك بعث الرسول - صلى الله عليه وسلم - حاكمًا يحكم بيْن الناس فيما اختلفوا فيه، وكذا سُنَّتُه مِن بعده، وقال -تعالى-: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (النساء:65).

الخطر في هذا المقام

والخطر في هذا المقام: أن يتولى الترجيحات جاهلٌ أو مبتدعٌ منحرف عن منهج أهل السُّنة، يقدِّم هواه، ويظن أن ذلك هو اجتهاده المشروع، فليس كل ما يراه الإنسان يكون هو الشريعة؛ فإن مثل هذا المعني يعد تطبيقًا لقاعدة المصلحة والمفسدة على غير ما طبقها عليه أهلُ العلم.

فالعلماء يبحثون عن الشرع ويتقربون منه حتى ينظروا أين تكون المصلحة؟ والواقعة التي لا يعلمون فيها نصًّا شرعيًّا يقيسونها على أقرب نص شرعي، وليس المراد أنهم يقررونها بعقولهم.

إذا ازْدَحَمَ وَاجِبَانِ

قال شيخ الإسلام -رَحِمَهُ اللهُ-: «فإذا ازْدَحَمَ وَاجِبَانِ لَا يُمْكِنُ جَمْعُهُمَا فَقُدِّمَ أَوْكَدُهُمَا لَمْ يَكُنْ الْآخَرُ فِي هَذِهِ الْحَالِ وَاجِبًا وَلَمْ يَكُنْ تَارِكُهُ لِأَجْلِ فِعْلِ الْأَوْكَدِ تَارِكَ وَاجِبٍ فِي الْحَقِيقَةِ. وَكَذَلِكَ إذَا اجْتَمَعَ مُحَرَّمَانِ لَا يُمْكِنُ تَرْكُ أَعْظَمِهِمَا إلَّا بِفِعْلِ أَدْنَاهُمَا لَمْ يَكُنْ فِعْلُ الْأَدْنَى فِي هَذِهِ الْحَالِ مُحَرَّمًا فِي الْحَقِيقَةِ وَإِنْ سُمِّيَ ذَلِكَ تَرْكُ وَاجِبٍ وَسُمِّيَ هَذَا فِعْلُ مُحَرَّمٍ بِاعْتِبَارِ الْإِطْلَاقِ لَمْ يَضُرَّ. وَيُقَالُ فِي مِثْلِ هَذَا تَرْكُ الْوَاجِبِ لِعُذْرِ وَفِعْلُ الْمُحَرَّمِ لِلْمَصْلَحَةِ الرَّاجِحَةِ أَوْ لِلضَّرُورَةِ؛ أَوْ لِدَفْعِ مَا هُوَ أحرم منه.

بَابُ التَّعَارُضِ بَابٌ وَاسِعٌ


وَهَذَا (بَابُ التَّعَارُضِ) بَابٌ وَاسِعٌ جِدًّا، ولَا سِيَّمَا فِي الْأَزْمِنَةِ وَالْأَمْكِنَةِ الَّتِي نَقَصَتْ فِيهَا آثَارُ النُّبُوَّةِ وَخِلَافَةِ النُّبُوَّةِ؛ فَإِنَّ هَذِهِ الْمَسَائِلَ تَكْثُرُ فِيهَا، وَكُلَّمَا ازْدَادَ النَّقْصُ ازْدَادَتْ هَذِهِ الْمَسَائِلُ، وَوُجُودُ ذَلِكَ مِنْ أَسْبَابِ الْفِتْنَةِ بَيْنَ الْأُمَّةِ؛ فَإِنَّهُ إذَا اخْتَلَطَتْ الْحَسَنَاتُ بِالسَّيِّئَاتِ وَقَعَ الِاشْتِبَاهُ وَالتَّلَازُمُ؛ فَأَقْوَامٌ قَدْ يَنْظُرُونَ إلَى الْحَسَنَاتِ فَيُرَجِّحُونَ هَذَا الْجَانِبَ وَإِنْ تَضَمَّنَ سَيِّئَاتٍ عَظِيمَةً، وَأَقْوَامٌ قَدْ يَنْظُرُونَ إلَى السَّيِّئَاتِ فَيُرَجِّحُونَ الْجَانِبَ الْآخَرَ وَإِنْ تَرَكَ حَسَنَاتٍ عَظِيمَةً، والمتوسطون الَّذِينَ يَنْظُرُونَ الْأَمْرَيْنِ قَدْ لَا يَتَبَيَّنُ لَهُمْ أَوْ لِأَكْثَرِهِمْ مِقْدَارُ الْمَنْفَعَةِ وَالْمَضَرَّةِ أَوْ يَتَبَيَّنُ لَهُمْ فَلَا يَجِدُونَ مَنْ يُعِينُهُمْ على الْعَمَلَ بِالْحَسَنَاتِ وَتَرْكَ السَّيِّئَاتِ لِكَوْنِ الْأَهْوَاءِ قَارَنَتْ الْآرَاءَ» (مجموع الفتاوى، 20/ 57-58).