بسم الله الرحمن الرحيم

سبق وأن ذكرت في أحد المواضيع [ أعظميات :: إن صحَّ التعبير ] أهمية التأمل والتفكر لدى الإنسان , ولو نظرت في كتاب الله تعالى لوجدت أن هذا المعنى ذكر في أكثر من كلمة ؛ فالتدبر والتفكر والتذكر والعقل ونحو تلك الكلمات , تجد أن المعني بها العقل بالدرجة الأولى ؛ بل وجد في الشريعة ما يذم وينهى عن قبول الأشياء من دون تفكر وتأمل فمن قوله تعالى ( فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ ) إلى التحذير من كون الإنسان إمعة إن أحسن الناس أحسن , وإن أساءوا أساء ! فقد صح موقوفا عن ابن مسعود رضي الله عنه مثل هذا المعنى , ولا يعتبر هذا من لزوم الجماعة فقول الجاهل :
وهل أنا إلا من غزية إن غوت = غويت وإن ترشد غزية أرشد !

إنما هو نوع تعصب , إذ إن الجماعة لا تلزم عند المخالفة الشرعية ! بدليل قوله تعالى ( وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللّهِ )


بل إن باباً من أبواب علم الأصول – وهو القياس – استخداماته عقلية , والردود فيه غالباً ما تكون كذلك ؛ زد على أنَّ القياس يعدُّ أحد الأصول المختلف فيها بعد الأصول المتفق عليها وهي الكتاب والسنة والإجماع عند أهل العلم !

إن من أشد وأكثر الأساليب استثارة للعقل والعصف به والتأثير فيه : ضرب الأمثال ؛ وهو مع هذا يُوضِح المعنى المراد , ويعطي النفس مساحة وقوة لاتخاذ القرار !

لذا أول عتابٍ عند حصول الخطأ هو السؤال عن العقل ؛ فتجد في عبارات بعضنا عند التصرف الخاطئ " يا أخي أين عقلك ؟! "

والحديث عن العقل يطول , ويغني عن هذه الإطالة الإشارة إلى أن هذه المادة هي سرُّ التكريم وجوهرُ التميز عن بقية الخلق !


كنت قرأت مرة قوله تعالى ( لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ ..) الآية , وفي آخرها يقول الله تعالى ( وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ) مع أنه لم يضرب إلا مثلاً واحداً ؛ فالإشارة لجميع الأمثال المضروبة في القرآن , وقد بحثت عن الأمثال في القرآن الكريم فوجدت أنها ذُكرتْ فيما يقارب خمسين موضعاً من كتاب الله ؛ وهذا الموضع يعدُّ من أواخر ما ذُكِر , فهذا التكرار وتلك الإشارات تدلُّ على أهميةِ هذا الطريق !

كما أنه لا يخفى عليكم أنَّ في إخبار الله تعالى في كتابه الكريم عن قصص السابقين يُراد منه تسلية النبي صلى الله عليه وسلم – أي التخفيف عنه وليس المراد بها ذات المعنى المعروف في التسلية الذي هو المرح , فالتسلية أعم وأشمل- , ويُراد منها كذلك أخذ العظة والعبرة ! وعندما تنظر في الأمثال سواء أكانت أدبية كالتي خرجت من حكايات وتجارب الآخرين في الحياة أو عقلية كالتي يراد منها إيصال معنى وإيضاحه وتقريره لدى الإنسان والأخير هو غالب ما في كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم !

نعود إلى قوله تعالى ( وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ) فهي غاية ضرب المثل ! ومن المعلوم أن الأمثال ليست توقيفية , إنما قبولها متوقفٌ على موافقة الشرع لها وحصول الغاية ؛ ولو بحثتَ فيما حولك مما تستخدمه لوجدت أنها تدور حول هذا المعنى – التقرير والإيضاح – فمثلاً قولك " مثلاً " إنما هو لإيضاح ما تريد وتقرير ما تقول ؛ حتى إنَّ حكايتك للطفل قصة من نسج خيالك , أو مما أخذته عن أسلافك لا تخرج عن محاولة استثارة ذلك العقل الصغير , وقم بتجربة هذا بطفل ما بين الثانية إلى الخامسة من عمره , أخبره بقصة يفهمها ستجد أنه يتفاعل معك , بل قد يوجه لك بعض الأسئلة الوجيهة , ولابد أن يكون أحد أسئلته السؤال عن نفسه , هل سيكون مصيره مصير من في حكايتك ؟!

فضرب الأمثال له أثره في حياة الناس , فهو يختصر عليك مسافة طويلة في تقرير وإيصال ما تريد إيصاله !

أخيرا : أليس الكأس الزجاجي يتغير اسمه ولونه بتغير ما فيه فمرة يكون لبناً وأخرى يكون ماءً وتارة يكون عصيرا وأحيانا يكون فارغاً ؟! إن كان الجواب ببلى , فاعلم أن عقلك كالكأس الزجاجي يتغير بتغير ما فيه !

أطلت الحديث لكنها إشارة لم أرد فيها الإحاطة ومن المولى السداد والتوفيق !