الدعاء (1)
أحمد مسعود الفقي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فلا شك أن الدعاء سلاح عظيم، يتسلَّح به العبد؛ لا سيما في أوقات الشدة، ونزول المصائب والمكاره، فلا يجد إلا طريقًا واحدًا، هو طريق الدعاء واللجوء إلى الله -عز وجل- الذي بيده كل شيء، ويحصل ذلك من المؤمن والكافر، وهذه طبيعة النفس البشرية، فقد ذكر القرآن الكريم في مواضع كثيرة أحوال أناس ليسوا بمسلمين، بل كانوا كفارًا جاحدين، لكنهم حينما تعرَّضوا للأخطار ونزل بهم الضر، وأحاطت بهم المكاره، لم يجدوا إلا طريقًا واحدًا، هو: التضرع إلى الله -عز وجل- أن يكشف عنهم ما نزل بهم، فإذا ما كشف الله عنهم البلاء، نسوا إلا قليلًا منهم عهودهم معه -سبحانه وتعالى-، وانطلقوا إلى ما كانوا فيه من غشيان للمحرمات، ووقوع في السيئات حتى لكأنهم لم يرفعوا أكف الضراعة إليه -سبحانه- ليكشف عنهم ما نزل بهم من ضر!
وهكذا الإنسان الطاغي المؤْثِر للحياة الدنيا بعد أن يرفع الله عنه الكروب؛ لا يتوقف ليشكر، ولا يلتفت ليتدبر، ولا يتأمل ليعتبر، وإنما يندفع مع شهواته بدون تذكر أو اتعاظ! ولا حول ولا قوة إلا بالله، قال -تعالى-: (هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ) (يونس:22)؛ هذا حال الإنسان عمومًا مع الدعاء لكن حال المؤمن يختلف، فالمؤمن يدعو ربه على كلِّ حال: في السراء والضراء، في الشدة والرخاء؛ لأنه يعلم أن الدعاء عبادة يتقرب بها إلى الله -عز وجل-، وأن فضله عظيم، ومنزلة الداعي المخلص لله عالية، فيدعو دعاء تعبد، ويعلم أنه في كل أحواله مفتقرٌ إلى ربه، فيدعو دعاء مسألة، وقد بيَّن النبي -صلى الله عليه وسلم- أن الدعاء أكرم شيء على الله، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (لَيْسَ شَيْءٌ أَكْرَمَ عَلَى اللَّهِ مِنَ الدُّعَاءِ) (رواه أحمد والترمذي، وحسنه الألباني).
ولذلك كان الأنبياء أكثر الناس تضرعًا ودعاءً؛ لأنهم أعرف الخلق بالله -عز وجل-؛ فهذا نبي الله زكريا -عليه السلام- يدعو ربه ويناديه نداءً خفيًّا، قال -تعالى-: (وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ) (الأنبياء:89)، فاستجاب له ربه، ورزقه الولد مع عدم توفر أسباب الإنجاب، ولكن الله يفعل ما يريد، قال -تعالى-: (فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ) (الأنبياء: 90).
وهذا نبي الله إبراهيم -عليه السلام- يدعو ربه أن يَمُنَّ عليه بالذرية الصالحة، فرزقه الله إياها فحمد الله كثيرًا، وكان كثيرا ما يدعو لنفسه ولوالديه وللمؤمنين يوم يقوم الحساب، قال الله -تعالى-: (رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِي نَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ) (إبراهيم:41).
وهذا نبي الله نوح -عليه السلام- لما كَذَّبه قومه وسخروا منه، دعا ربه فنصره الله والمؤمنين معه، وأهلك مَن كفر به وجعلهم عبرة للناس، قال -تعالى-: (وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ . وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُ مْ أَجْمَعِينَ) (الأنبياء:76-77).
والله -تعالى- يأمرنا في كتابه الكريم بالدعاء والإخلاص فيه، ويعدنا بالاستجابة، وبين أنه لا واسطة بين العبد وربه، قال -تعالى-: (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً) (الأعراف:55)، وقال -تعالى- أيضًا: (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ) (غافر: 60)، وقال -تعالى- أيضًا: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُ وا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) (البقرة:168).
بل ما إن يرفع العبد أكف الضراعة يسأل ربه ما يشاء من خيري الدنيا والآخرة، إلا أعطاه الله ما يشاء، أو صرف عنه من السوء مثلها، أو ادخرها له إلى يوم القيامة؛ فلنحرص على الدعاء، ولنكثر منه في الرخاء والشدة؛ طمعًا في كرم الله -تعالى- وجوده، ويقينًا بالله الحليم، فعن عبادة بن الصامت -رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (مَا عَلَى الأَرْضِ مُسْلِمٌ يَدْعُو اللَّهَ بِدَعْوَةٍ إِلَّا آتَاهُ اللَّهُ إِيَّاهَا أَوْ صَرَفَ عَنْهُ مِنَ السُّوءِ مِثْلَهَا مَا لَمْ يَدْعُ بِإِثْمٍ أَوْ قَطِيعَةِ رَحِمٍ)، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ القَوْمِ: إِذًا نُكْثِرُ، قَالَ: (اللَّهُ أَكْثَرُ) (رواه الترمذي، وصححه الألباني).
وأخبرنا نبينا -صلى الله عليه وسلم- أن الدعاء هو العبادة؛ لأن الدعاء ما هو إلا توجه القلب إلى الله، بإخلاص ويقين، فعن النعمان بن بشير -رضي الله عنه-، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (إِنَّ الدُّعَاءَ هُوَ الْعِبَادَةُ) ثُمَّ قَرَأَ: (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) (غافر: 60) (رواه أبو داود والترمذي، وصححه الألباني).
وقد جاء عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّهُ مَنْ لَمْ يَسْأَلِ اللَّهَ يَغْضَبْ عَلَيْهِ) (رواه الترمذي، وصححه الألباني)؛ لأن ترك السؤال تكبر واستغناء، وهذا لا يجوز للعبد وقد قال الله -عز وجل-: (إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ) (غافر:60)، وقوله: (عِبَادَتِي) في الآية أي: دعائي. (ذكره الطبري وابن كثير).
ورحم الله مَن قال:
لا تــسـألـن بُـنـيَّ آدم حـاجـة وســل الـذي أبوابه لا تحجب
الله يغضب إن تركـت سؤاله وبُني آدم حين يُسـأل يغـضب
والدعاء بأسماء الله الحسنى والتوسل بها من أعظم الثناء على الله، قال -تعالى-: (وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا) (الأعراف:180).
ومِن دواعي الإجابة: تحري الأدعية التي اشتملت على اسم الله الأعظم؛ عن بُرَيْدَةَ بنِ الحُصَيْب أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- سَمِعَ رَجُلًا يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ أَنِّي أَشْهَدُ أَنَّكَ أَنْتَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ الْأَحَدُ الصَّمَدُ، الَّذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ، فَقَالَ: (لَقَدْ سَأَلْتَ اللَّهَ بِالِاسْمِ الَّذِي إِذَا سُئِلَ بِهِ أَعْطَى، وَإِذَا دُعِيَ بِهِ أَجَابَ) (رواه أبو داود والترمذي، وصححه الألباني)، وتتحقق الإجابة حال كون الداعي مستحضرًا عظمة الله، خاضعًا، واعيًا بأنه يدعو ربًّا واحدًا، لا شريك له في ملكه، ولا منازع له في سلطانه، بيده وحده جلب النفع ودفع الضر، قال -تعالى-: (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (الأنعام:17)، ولابد أن يكون الدعاء خالصًا لوجه اللهن صوابًا وَفْق شريعة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ ولهذا قال الفضيل بن عياض في تفسير قوله -تعالى-: (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا) (الملك:2): "هو أخلصه وأصوبه. قالوا: يأ أبا علي: ما أخلصه وأصوبه؟! قال: "إن العمل إذا كان خالصًا ولم يكن صوابًا لم يُقْبَل، وإذا كان صوابًا ولم يكن خالصًا لم يقبل، والخالص أن يكون لله، والصواب أن يكون على السنة"، ثم قرأ قوله -تعالى-: (قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا) (الكهف:110).
وفقنا الله وإياكم، وجعل الجنة مثوانا ومثواكم، إنه بكل جميل كفيل، وهو حسبنا ونعم الوكيل، وصلى الله على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
وللحديث بقية -إن شاء الله-.