هم الجلساء لا يشقى بهم جليسهم
كتبه/ إبراهيم جاد
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فإن الناظر المتأمل في القرآن الكريم والسنة النبوية، والخبير بواقع الناس والمتطلع على أحوالهم والمختلط بهم؛ ليرى أثر الصحبة، ويشم رائحتها في أفعال الأصحاب، وسلوك الأقران، ومخرجات الأجيال، وعلى أرض المجتمعات؛ فإليكم معاشر الإخوة... أسأل سؤالين:
كيف تختار صحبتك؟
وما أثر هذا الاختيار؟
أولًا: كيف تختار صحبتك؟ (أو معايير اختيار الصحبة):
وضع لنا الإسلام معاييرَ لابد أن نضعها نصب أعيينا:
الإيمان والتقوى: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (لَا تَصْحَبْ إِلَّا مُؤْمِنًا، وَلَا يَأْكُلْ طَعَامَكَ إِلَّا تَقِيٌّ) (رواه أحمد وأبو داود والترمذي، وحسنه الألباني)، فالإيمان مداره القول والعمل؛ فالمؤمن تقي يخاف من ربه -جل وعلا-، ويدخر عنده الخير ويخشى على نفسه من النار؛ ولذا نبَّه ربنا -جل وعلا-، فقال -تعالى-: (الأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ) (الزخرف:67).
فانتقاء الصحبة دين، وبقاؤها دين، بل أحيانًا عنوان لدين المرء، قالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: (الْمَرْءُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يُخَالِلُ) (رواه أبو دواد والترمذي، وحسنه الالباني).
وأن تكون لوجه الله -تعالى-، وتقوم على المودة والصدق والنصح، وتمني الخير والمقاصد الحسنة، والأهداف النبيلة، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: (خَيْرُ الأَصْحَابِ عِنْدَ اللَّهِ خَيْرُهُمْ لِصَاحِبِهِ) (رواه الترمذي، وصححه الألباني)، فلا خير في صحبة ملؤها الطمع والخسة، والانتفاع، والجهر بالمعاصي؛ أن تكون قائمة على الاعتدال والتوسط، قال رسولُ الله -صلَّى الله عليه وسلَّم-: (أَحْبِبْ حَبِيبَكَ هَوْنًا مَا عَسَى أَنْ يَكُونَ بَغِيضَكَ يَوْمًا مَا، وَأَبْغِضْ بَغِيضَكَ هَوْنًا مَا عَسَى أَنْ يَكُونَ حَبِيبَكَ يَوْمًا مَا) (رواه الترمذي، وصححه الألباني).
وأوضح خبراء وعلماء علم الاجتماع عِدَّة معايير، أهمها:
الإيجابية، فسلبية الصاحب تفت في عضد صاحبه، والتوافق الفكري والعقلي ينميها ويزهرها، ولله الأمر من قَبْل ومِن بعد؛ فالآن بان لنا قيمة الصحبة الصالحة، فما أثر اختيارك لها؟!
مِن آثار صحبتك الصالحة في الدنيا والآخرة:
نبدأ بالدنيا لقصر النَّفَس فيها وطبيعتها الفانية، ومقايسها المتغيرة، فالصاحب ساحب، ساحب في الخير قبل الشر.
غريبة هذه العلاقة الاجتماعية، علاقة تجاذب وإقبال، فتأثيرها قوي وصداها رنان؛ فهي شريكة الآباء والأمهات في التربية، بل أحيانًا تأثيرها يفوقهما بكثير؛ فالصاحب ربما يقضي نصف فترة شبابه مع صاحبه فهو يغير ويغرس ويجني من الصحبة مكاسب دنيوية (وليست هي هدفنا، ولكن لابد من ذكرها)، فالصحبة الصالحة القويمة تتمتع بسمعة حسنة وذكر طيب، ومكانة اجتماعية في القلوب، وعلى أرض الواقع.
وانظر إلى الشباب المحترم والمؤدب كيف يعاملونهم الناس ويفتحون لهم صدورهم وأبوابهم، ويحظى بمكانة في قلوبهم وشفاعتهم أنهم صحبة طيبة، وعلى النقيض تمامًا تلك الصحبة السيئة التي تنفر منها الناس ويحذرونها ويبتعدون عنها، ويحذرون أبناءهم منها فلا تعجب فهم أهل الشرور والمخدرات والمنكرات.
قال لقمان الحكيم لابنه: "مَنْ يَصْحَبْ صَاحِبَ السُّوءِ لاَ يَسْلَمْ، وَمَنْ يَصْحَبِ الصَّاحِبَ الصَّالِحَ يَغْنَمْ) (الزهد لابن المبارك).
ومِن الآثار: الأنس الاجتماعي للصحبة الصالحة، وأمن الجانب والنبذ، والتخوف من غيرها.
ومِن الآثار: التباهي والتفاخر وسط الجميع للصحبة الصالحة، بخلاف صحبة الظلام قوامها معوج.
ومِن الآثار: أنها صحبة منتجة ومثمرة إذا كانت صالحة، وبخلاف غيرها مستهلكة مدمرة.
ومِن الآثار: أنها تحافظ على كيان الأسر، فالصالح بيته متماسك ومتحد وآمن، وأما الآخر؛ فلا تماسك، ولا اتحاد، ولا أمان.
قالَ ابنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عنهما-: "الصَّدِيقُ أوْكَدُ مِنَ القَرَابَة" (تفسير القرطبي).
ومِن الآثار: الصحبة الصالحة تبني في جدار المجتمع بناءات فَعَّالة وأعلاها استقامة الخلق، وأقلها المساعدات في وجوه البر بخلاف غيرها.
مِن آثار الصحبة الصالحة في الآخرة:
1- يوم القيامة تحت ظل عرش الرحمن: عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلَّى الله عليه وسلَّم- أنه قال: (سَبعةٌ يُظلُّهُم الله في ظلِّه يوم لا ظلَّ إلاَّ ظلُّه: الإمامُ العادل، وشابٌّ نشَأَ في عبادة ربِّه، ورجلٌ قلبه معلَّق في المساجد، ورجُلانِ تحابَّا في الله، اجتمعَا عليه وتفرَّقا عليه... ) (متفق عليه).
2- أنها مِن أوثق عرى الإيمان: عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ عن النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: (إِنَّ أَوْثَقَ عُرَى الْإِيمَانِ: أَنْ تُحِبَّ فِي اللهِ، وَتُبْغِضَ فِي اللهِ) (رواه أحمد، وصححه الألباني).
3- هذه الصحبة هي التي لا يَشْقَى جليسهم وإن لم يكن مثلهم في العبادة والتدين، ولن يصل إليهم بعمله، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ لِلَّهِ مَلائِكَةً يَطُوفُونَ في الطُّرُقِ يَلْتَمِسُونَ أهْلَ الذِّكْرِ، فإذا وجَدُوا قَوْمًا يَذْكُرُونَ اللَّهَ، تَنادَوْا: هَلُمُّوا إلى حاجَتِكُمْ قالَ: فَيَحُفُّونَهُم ْ بأَجْنِحَتِهِمْ إلى السَّماءِ الدُّنْيا قالَ: فَيَسْأَلُهُمْ رَبُّهُمْ، وهو أعْلَمُ منهمْ، ما يقولُ عِبادِي؟ قالوا: يقولونَ: يُسَبِّحُونَكَ ويُكَبِّرُونَكَ ويَحْمَدُونَكَ ويُمَجِّدُونَكَ قالَ: فيَقولُ: هلْ رَأَوْنِي؟ قالَ: فيَقولونَ: لا واللَّهِ ما رَأَوْكَ؟ قالَ: فيَقولُ: وكيفَ لو رَأَوْنِي؟ قالَ: يقولونَ: لو رَأَوْكَ كانُوا أشَدَّ لكَ عِبادَةً، وأَشَدَّ لكَ تَمْجِيدًا وتَحْمِيدًا، وأَكْثَرَ لكَ تَسْبِيحًا قالَ: يقولُ: فَما يَسْأَلُونِي؟ قالَ: يَسْأَلُونَكَ الجَنَّةَ قالَ: يقولُ: وهلْ رَأَوْها؟ قالَ: يقولونَ: لا واللَّهِ يا رَبِّ ما رَأَوْها قالَ: يقولُ: فَكيفَ لو أنَّهُمْ رَأَوْها؟ قالَ: يقولونَ: لو أنَّهُمْ رَأَوْها كانُوا أشَدَّ عليها حِرْصًا، وأَشَدَّ لها طَلَبًا، وأَعْظَمَ فيها رَغْبَةً، قالَ: فَمِمَّ يَتَعَوَّذُونَ؟ قالَ: يقولونَ: مِنَ النَّارِ قالَ: يقولُ: وهلْ رَأَوْها؟ قالَ: يقولونَ: لا واللَّهِ يا رَبِّ ما رَأَوْها قالَ: يقولُ: فَكيفَ لو رَأَوْها؟ قالَ: يقولونَ: لو رَأَوْها كانُوا أشَدَّ مِنْها فِرارًا، وأَشَدَّ لها مَخافَةً قالَ: فيَقولُ: فَأُشْهِدُكُمْ أنِّي قدْ غَفَرْتُ لهمْ قالَ: يقولُ مَلَكٌ مِنَ المَلائِكَةِ: فيهم فُلانٌ ليسَ منهمْ، إنَّما جاءَ لِحاجَةٍ. قالَ: هُمُ الجُلَساءُ لا يَشْقَى بهِمْ جَلِيسُهُمْ) (متفق عليه).
4- أن للصالحين شفاعة يوم القيامة: (فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ . وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ) (الشعراء:100-101).
5- محبة الله -تعالى- ووجوبها: قال الرسول -صلى الله عليه وسلم-: (قَالَ اللَّهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: وَجَبَتْ مَحبِتي لِلْمُتَحَابِّي نَ فِيَّ، وَالْمُتَجَالِس ِينَ فِيَّ وَالْمُتَزَاوِر ِينَ فِيَّ وَالْمُتَبَاذِل ِينَ فِيَّ) (رواه أحمد والإمام مالك، وصححه الألباني).
نسأل الله أن يرزقنا صحبة نعتز بها في الدنيا والآخرة، وأن يجعلنا نحن ومَن نحب في أعالي الجنان.
اللهم آمين.