الرفق بغير المسلمين وسائله ومقاصده


الشيخ: فَتْحي بِن عَبدِ الله المَوْصِليِّ




الرفق بالمخالف بصورته الشرعيّة، أمر مطّرد وعموم محفوظ، ولا سيما إذا علم أن النبي - صلى الله عليه وسلم- أمر به في مورد الحوار مع اليهود؛ فعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: «دخل رهط من اليهود على رسول الله محمد فقالوا: السام عليكم: قالت عائشة - رضي الله عنها- ففهمتها، فقلت: وعليكم السام واللعنة، قالت: فقال الرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: مهلاً يا عائشة، إن الله يحب الرفق في الأمر كله، فقلت: يا رسول الله، أولم تسمع ما قالوا؟ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: قد قلت: وعليكم». رواه البخاري، قال الإمام النووي عند ذكر فوائد الحديث: «وفيه: حث على الرفق والصبر والحلم وملاطفة الناس ما لم تدع الحاجة إلى المخاشنة». شرح الإمام مسلم ج7 ص 40.

وقد كان هذا السلوك هو طريقة الصحابة -رضوان الله عليهم-، فعن أبي سنان، قال: قلت لسيعد بن جبير: المجوسي يوليني من نفسه ويسلم علي أفأرد عليه؟ فقال سعيد: سألت ابن عباس عن نحو ذلك، فقال: «لو قال لي فرعون خيراً لرددت عليه». رواه الخطيب البغدادي في الفقيه والمتفقه ج2 ص 230.

عدم تمييع الحق

على أن الرفق بالمخالف من غير المسلمين لا يعني-لزومًا- تمييع الحق، وتذويب الحواجز الفاصلة بين الإيمان والكفر، بل يعني تقريب المخالف إلى الحق بالوسائل المشروعة، ومن الرفق دفع صائل الباطل وضرر المبطل بما قررته الشريعة في موضعه؛ فالرفق يتنزل في الترهيب والترغيب، وفي المدح والذم، وفي العقوبات والأحكام، فما من حكم من أحكام الدين الاّ وله صلة بالرفق من بعض الوجوه علمها من علمها وجهلها من جهلها، وهذا موضع دقيق.

الصدق والعدل وعدم الإثارة

إقامة الحوار مع غير المسلم على الصدق والعدل وعدم الإثارة: الالتزام بشرع الله في الحوار والدعوة ببيان فضل الإسلام ومحاسنه وتصديقه لما قبله من الرسالات، خير من مهاجمة الطرف الآخر، أو استعمال أسلوب السَب والشتم كما قال -تعالى-: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِم مَّرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}.(108 الأنعام)، فالحوار الشرعي مع الكتابي وغيره يجب أن يقوم على بيان الحجج، والصدق في الأخبار، والعدل في الأحكام، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله: «فإن الرد بمجرد الشتم والتهويل لا يعجز عنه أحد، والإنسان لو أنه يناظر المشركين، وأهل الكتاب، لكان عليه أن يذكر من الحجة ما يبيًن به الحق الذي معه، والباطل الذي معهم». مجموع الفتاوى ج4 ص186، ويقول -أيضا -: «فالكذب على الشخص حرام كله، سواء كان الرجل مسلما أم كافرًا».

إنزاله منزلته وملاطفته

إنزال المدعو من غير المسلمين منزلته وملاطفته في الخطاب لمصلحة التآلف، وهذه قاعدة كبيرة من قواعد مراعاة أحوال المدعوين والمخاطبين؛ وهي إنزال الناس منازلهم ، ومراعاة أحوالهم ومقاماتهم ، وقد جاء في الحديث عن عائشة -رضي الله عنهما- قالت: «أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نُنزل الناس منازلهم»، ذكره مسلم في مقدمة صحيحه معلقا (1/16)، وقد كتب النبي - صلى الله عليه وسلم - كتاباً إلى قيصر، وفيه: «من محمد عبدالله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم». رواه البخاري في صحيحه رقم (7)، وذكر الحافظ ابن حجر عند قوله: (عظيم الروم) أن النبي - صلى الله عليه وسلم -لم يُخله من إكرام، لمصلحة التآلف. (فتح الباري ج 1)، وعلل العلامة العيني فائدة ذلك: «ليكون فيه نوع من الملاطفة، فقال عظيم الروم، أي: الذي تعظمه الروم». (عمدة القارئ، ج1 ص99)، فإجراء قاعدة (الملاطفة في الخطاب بما يناسب الحال وعند اقتضاء المصلحة) في التعامل مع غير المسلمين فيها كسب لقلوبهم ، وتقريبهم للحق، وهي من السياسية الشرعية التي تعود على الطرفين بالمصلحة. انظر (مراعاة أحول المخاطبين د.فضل الأهب ص116).


وهذا المسلك قد سار عليه كثير من العلماء الربانيين؛ فقد أرسل شيخ الإسلام ابن تيمية رسالة إلى ملك قبرص النصراني، وفيها: «من أحمد ابن تيمية إلى سرجوان عظيم أهل ملَته ومن تحوط به عنايته من رؤساء الدين، وعظماء القسيسين، والرهبان، والأمراء، والكتاب وأتباعهم، سلام على من اتبع الهدى».