من أحكام الصيام والمفطرات المعاصرة
الشيخ محمد بن إبراهيم السبر
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
وبعد:
فيقول الله تبارك وتعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ [البقرة: 183]. وقال تعالى: ﴿ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَفَلْيَ صُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍأُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَوَلِتُ كْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا ْ اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْوَلَعَ لَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ [البقرة: 185].
إن الله سبحانه شرع لعباده صيام رمضان وجعله أحد أركان الإسلام، ومبانيه العظام، فكان لزامًا على كل مسلم أن يتعلم ما يتعلق بالصيام من الأحكام حتى يعبد الله تعالى على بصيرة وليؤدي الواجب عليه عن علم ومعرفة، وفرق بين من يتعبد الله تعالى عن علم وإدراك، وبين من يبني عبادته على مشاهدة الناس وما يتناقلونه أو يدعونه.
وقد قرر أهل العلم أنه يجب على المكلف تعلم ما تصح به عبادته، ومن هذا المنطلق أسوق في هذه العجالة جملة من أهم مسائل الصيام وأحكامه التي لا غنى للمسلم والمسلمة عنها مع بيان المفطرات المعاصرة بشكل مختصر.
الصوم: هو التعبد لله سبحانه وتعالى بالإمساك عن الأكل والشرب وسائر المفطرات من طلوع الفجر الثاني إلى غروب الشمس.
وفرض صيام شهر رمضان في السنة الثانية من الهجرة، وصام الرسول صلى الله عليه وسلم تسع رمضانات إجماعًا.
ويثبت دخول شهر رمضان برؤية هلاله بشهادة عدل ثقة قوي البصر. لما رواه ابن عمر رضي الله عنهما قال: "تراءى الناس الهلال فأخبرت رسول الله صلى الله عليه وسلم أنيرأيته فصامه وأمر الناس بصيامه". رواه أبو داود بسند صحيح.
فإن غم الهلاللغيم ونحوه أو لم يره أحد، وجب إكمال عدة شهر شعبان ثلاثين يومًا. فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الشهر تسع وعشرون فلا تصومواحتى تروه ولا تفطروا حتى تروه فإن غم عليكم فاقدروا له ثلاثين". رواه البخاري ومسلم.
ولأن الشهر لا يزيد عن ثلاثين، عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب، الشهر هكذا وهكذا وهكذا"، قال الراوي يعني: تسعًا وعشرين وثلاثين " رواه أبو داود بسند صحيح.
والأعمال بالنيات، فينوي بهذا الصيام أداء الواجب والتقرب إلى الله تعالى. قال صلى الله عليه وسلم: "من صام رمضانإيمانًا واحتسابًا غُفر له ما تقدم من ذنبه" رواه البخاري. فمن صام بلا نية أو نوى الحمية والتخفيف أو تقليد الناس فحسب لم يصح صيامه.
ويجب علىالمكلف أن يبيت نية الصوم من الليل وقبل طلوع الفجر، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "من لم يجمعالصيام قبل الفجر فلا صيام له". رواه أبو داود بسند صحيح وعند النسائي: (مَنْ لَمْ يُبَيِّتْ الصِّيَامَ مِنْ اللَّيْلِ فَلا صِيَامَ لَهُ).
ويجوز أن تكونالنية في أي جزء من الليل ولو قبل الفجر بلحظة.
والنية هي عزم القلب على الصيام من الغد، والتلفظ بها بدعة وكل من علم أن غدًا من رمضان وهو يريد صومه فقد نوى، وكذا الأكل والشرب بنية الصوم قاله شيخ الإسلام.
ولا يضر إن أتى بعد النية بمناف للصوم كالأكل والشرب لأن الله أباحهما إلى آخر الليل فلو بطلت بهما فاتمحلها.
ويجب الصيام بطلوع الفجر الصادق، أما مايفعله بعضهم من الامتناع قبل عشرة دقائق أو أكثر فإنه بدعة منكرة لا أصل لها لقوله تعالى: ﴿ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ﴾ [البقرة: 187].
ويستمر وقت الصوم إلى غروب الشمس لقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا جاء الليل من هاهنا وذهب النهار من ها هنا وغابت الشمس فقد أفطر الصائم". أخرجه البخاري ومسلم.
والصوم واجبعلى كل مسلم بالغ عاقل قادر مقيم خال من الموانع، والموانع الحيض والنفاس.
فلا يصح الصيام من الكافر الأصلي ولا المرتد.
ولايصح من حائض ولا نفساء - لقوله صلى الله عليه وسلم: "أليس إذا حاضت لم تصل ولم تصم" رواه البخاري. ولو صامتا حال وجود الدم فإنهما تأثمان وعليهما القضاء ولو نزل عليها دم الحيض قبل الغروب بلحظة قضت ذلك اليوم.
ولا يجب الصيام على الصبي ما لم يبلغ، لكن يستحب لوليه أن يأمره بالصيام عند استطاعته عليه تمرينًا له على الطاعة، ويتأكد ذلك عند اقتراب البلوغ، وقد عمل الصحابة رضي الله عنهم بهذا الأدب، قالت الربيع بنت معوذ: "كنا نصومه ونصوم صبياننا الصغار، ونجعل لهم اللعبة منالعهن، ونذهب بهم إلى المسجد، فإذا بكى أحدهم على الطعام أعطيناه ذلك حتى يكونعند الإفطار". أخرجه البخاري ومسلم.
ولا يجب الصيام على المجنون ولا قضاء عليه. عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " رفع القلم عن ثلاثةعن النائم حتى يستيقظ وعن الصغير حتى يكبر وعن المجنون حتى يعقل أو يفيق ". رواهابن حبان وهو صحيح.
ومن أغمي عليه في جميع النهار فلا يصح صيامه ويلزمه القضاء، أما من أغمي عليه جزءًا من النهار فصومه صحيح بشرط ألا يتناول مفطرًا.
وكذا من اختل شعوره لمدة طويلة فلم يصم ثم عاد إليه فلاقضاء عليه لأن لم يكن مكلفًا، والمغمى عليه حكمه حكم المجنون والمعتوه، إن استردوعيه لا قضاء عليه، إلا إن كان الإغماء مدة يسيرة كاليوم أو اليومين أو الثلاثةعلى الأكثر فلا بأس بالقضاء احتياطًا وأما إن طالت المدة فهو كالمعتوه لا قضاءعليه.
والمسافر لا يجب عليه الصيام وله الفطر ثم القضاء، وإن صام حال سفره أجزأه ولا شيء عليه، فيجوز الفطر للمسافر، قال تعالى: ﴿ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ﴾ [البقرة: 184].
والعلة في الفطر السفر وليست المشقة، فكل سفر يجوز فيه الفطر ولو كان سفرا مريحًا بالطائرة أو بغيرها.
وأيهما الأفضلالفطر أم الصيام؟. ذهب بعض العلماء إلى أن الأرفق به هو الأفضل فأيهما شاء فعل؛ ولكن القول بأن الفطر أفضل قول قوي، لما رواه الإمام أحمد في مسنده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يكره أن تؤتىمعصيته". وهذه رخصة.
لكن لو صام مع المشقة صحَّ صيامه، لما ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم صام في السفر. عن أبي الدرداء أنه قال لقد رأيتنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره في اليوم الحار الشديد الحر وإن الرجل ليضعيده على رأسه من شدة الحر وما في القوم أحد صائم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعبد الله بن رواحة. رواه ابن ماجة وصححه الألباني رحمه الله.
ويحرم الصيام على من خُشي عليه الهلاك أو من شق عليه الصيام بسبب السفر. عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى مكة عام الفتح فصام حتى بلغ كراع الغميم وصام الناس معه فقيل له إن الناس قد شق عليهم الصيام وإن الناس ينظرون فيما فعلت فدعا بقدح من ماء بعد العصر فشرب والناس ينظرون إليه فأفطر بعضهم وصام بعضهم فبلغه أن ناسًا صاموا فقال: " أولئك العصاة ". أخرجه مسلم.
والسفر المبيح للفطر ما عده الناس في عرفهم سفرًا وهو قريب من ثمانين كيلًا، ومن سافر لأجل الفطر حرم عليه الفطر كما ذكره أهل العلم.
ويجوز للمريض الفطر إن كان لا يستطيع الصيام وحصل له بسبب صومه مشقة أو زيادة مرض أو تأخر برء بشهادة طبيب ثقة في علمه ودينه، فلا يجوز له الصيام، لما أخرجه الإمام أحمد وابن ماجه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا ضرر ولا ضرار". ويجب عليه أنيقضي إن برأ.
أما إن كان المريض ممن لا يرجى زوال مرضه فيطعم عن كل يوم مسكينًا، وكذا الشيخ الفاني والعجوز الكبيرة لقوله تعالى: ﴿ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ ﴾ [البقرة: 184]، قال ابن عباس رضي الله عنهما في الآية: " ليست بمنسوخة هو الشيخ الكبير والمرأة الكبيرة لا يستطيعان أن يصوما فيطعمان مكان كل يوم مسكينًا ". رواه البخاري.
والمرأة الحامل يجب عليها الصوم حال حملها إلا إذا إن خافت الحامل على نفسها أو جنينها من صوم رمضان أفطرت وعليها القضاء فقط، شأنها في ذلك شأن المريض الذي لا يقوى على الصوم أو يخشى منه على نفسه مضرة، قال الله تعالى: ﴿ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ﴾.
وكذا المرضع إذا خافت على نفسها إن أرضعت ولدها في رمضان، أو خافت على ولدها إن صامت ولم ترضعه أفطرت وعليها القضاء فقط عَنْ أَنَسٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (إِنَّ اللَّهَ وَضَعَ عَنْ الْمُسَافِرِ نِصْفَ الصَّلاةِ، وَالصَّوْمَ، وَعَنْ الْحُبْلَى وَالْمُرْضِعِ). صححه الألباني في صحيح النسائي. فجعل النبي صلى الله عليه وسلم حكم الحامل والمرضع كالمسافر، والمسافر يفطر ويقضي فكذلك الحامل والمرضع.
فالصواب أن الحامل والمرضع تلحقان بالمريض وليستا في حكم الشيخ الكبير العاجز بل هما في حكم المريض فتقضيان إذا استطاعتا ذلك ولو تأخر القضاء " أ. هـ. وهذا مذهب الإمام أبي حنيفة رحمه الله. وقال به من الصحابة علي بن أبي طالب رضي الله عنه واختاره جماعة من العلماء منهم الشيخان ابن باز وابن عثيمين رحمها الله.
مفسدات الصيام والمفطرات المعاصرة:
ونحن نذكرها هنا لأنه يجب على الصائم العلم بها وليحذرها خلال وقت النهار من رمضان، وهي كالآتي:
أولًا: الجماع، وهو أعظمها إثمًا وأغلظها تبعة، وأقبحها في ميزان الشرع، حين يعمد المسلم فيأتي شهوته في الوقت المحرم ويعصي ربه الذي أمره بالإمساك عنه وعن سائر المفطرات، ومن جامع بطل صومه مطلقًا، فإن كان في شهر رمضان ولم يكن مسافرًا وجب عليه كفارة مغلظة وقضاء ذلك اليوم، والكفارة عتق رقبة مؤمنة، فإن لم يجد وجب عليه صيام شهرين متتابعين لا يقطعها بفطر إلا لعيد أو عذر شرعي، فإن لم يستطع أطعم ستين مسكينًا. لحديث أَبَي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: " بَيْنَمَا نَحْنُ جُلُوسٌ عِنْدَالنَّبِيِّإِذْ جَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلَكْتُ.قَالَ: مَا لَكَ قَالَ: وَقَعْتُ عَلَى امْرَأَتِي وَأَنَا صَائِمٌ فَقَالَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: هَلْ تَجِدُ رَقَبَةً تُعْتِقُهَا قَالَلَا. قَالَ: فَهَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَصُومَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ قَالَ: لا فَقَالَ : فَهَلْ تَجِدُ إِطْعَامَ سِتِّينَ مِسْكِينًا...).
• ومن جامعناسيا فلا شيء عليه لعموم قوله تعالى: ﴿ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا ﴾ [البقرة: 286]، وَقَالَ الْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ : إِنْ جَامَعَ نَاسِيًا فَلا شَيْءَ عَلَيْهِ.
• إنزال المني باختياره من غير جماع سواء كان بسبب التقبيل أو اللمس أو الاستمناء، أما الإنزال بالاحتلام من النائم فلا يفسد الصوم لأنه ليس باختياره، ولا يفسد الصيام خروج المذي وحده بأي سبب كان على الصحيح وكذلك لا يفسد الصوم بالودي.
• ومن المفسدات: نزول دم الحيض والنفاس، عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أليس إذا حاضت لم تصل ولم تصم"؛ رواه البخاري ومسلم. أما دم الاستحاضة فلا يؤثر في الصيام.
• الأكل والشرب عامدًا، وكذاالسعوط وهو إيصال الماء ونحوه إلى الجوف عن طريق الأنف لقوله صلى الله عليه وسلم: "بَالِغْ فِي الِاسْتِنْشَاقِ إِلا أَنْ تَكُونَ صَائِمًا". أخرجه الإمام أحمد وأصحاب السنن والدارمي. ويعفى عنه إذا أكل أو شرب خطأ أو نسيانًا، لقوله صلى الله عليه وسلم: " من نسي وهو صائم فأكل أو شرب فليتمصومه فإنما أطعمه الله وسقاه ". متفق عليه.
• القيء عمدًا: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : (مَنْ ذَرَعَهُالْقَيْءُ فَلَيْسَ عَلَيْهِ قَضَاءٌ وَمَنْ اسْتَقَاءَ عَمْدًا فَلْيَقْضِ).
يتبع