"النوال في تحرير ما للمفسرين من أقوال" (11)

اكتب في (قوقل) (النوال. وأول الآية) التي تريد معرفة ملخص آراء المفسرين فيها.

قال الرازي رحمه الله في من يفهم آيات القرآن على الآراء الضعيفة: "أقول حقاً: إن الذين يتبعون أمثال ذلك قد حرموا الوقوف على معاني كلام الله تعالى حرماناً عظيماً".

قال الله تعالى: (وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ)

عُرِض على سليمان عليه السلام الخيل الأصيلة الجياد فانشغل بها عن الذكر حتى توارت الشمس بالحجاب أي: اختفت بما يحجبها عن المشاهدة, أي: غربت, فتنبه أنها أشغلته وجعلته يغفل, فأمر بردها عليه.

والقول الراجح أن المراد بقوله: (فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ) أن سليمان عليه السلام ذبح الخيل لما أحس أنه أحبها حتى أشغلته عن ذكر ربه وأراد بهذا الفعل أن يقطع هذا السبب الذي يعكر صفو قلبه وخلوصه لله وذكره ومحبته.

والآن إلى ذكر أقوال المفسرين في الآية.
اختلف المفسرون في المراد بقوله تعالى (فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ) على قولين:
(ذكر القولين دون ترجيح الماتريدي*, والزمخشري*, وابن عطية*, والقرطبي*, وابن عاشور*)

القول الأول:
أنه عقرها وضرب أعناقها، من قولهم: مسح علاوته: إذا ضرب عنقه. (ضعفه ابن جرير*, والرازي*) (ورجحه البغوي*, وابن كثير*)
وهذا قول الجمهور وهو الأقرب في معنى الآية.

فإن الأنبياء عليهم السلام يراقبون قلوبهم أشد المراقبة عن أن يشغلها أي شاغل عن الله وذكره.
ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم لما نظر نظرة واحدة إلى الإنبجانية في الصلاة ردها على صاحبها.

فسليمان عليه السلام لما أحس أنه أحب الخيل حتى أشغلته عن ذكر ربه أراد بهذا الفعل أن يقطع هذا السبب الذي يعكر صفو قلبه وخلوصه لله وذكره ومحبته, ولا يزاحمه شيء من متاع الدنيا.
ولذلك وصفه ربه بأنه (أَوَّابٌ)

وذبحه للخيل حتى يصفو قلبه لمحبة ربه ليس بكثير ولا غريب.

ألا تعلم أنه وقع لقوم ما هو أشد من ذلك.
هؤلاء بنو إسرائيل أمروا بأن يقتلوا أنفسهم توبة وقربة إلى الله.
قال تعالى: (إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ)

قال الماتريدي: "قال عامة أهل التأويل: أي: جعل يعقر سوق الخيل ويضرب أعناقها لما شغلته عن ذكر ربه وعن صلاة العصر حتى غفل عنها، فجعل يقطع سوقها ويضرب أعناقها كفارة عما شغل عن ذكر ربه".

قال البغوي: "هذا قول ابن عباس والحسن وقتادة ومقاتل وأكثر المفسرين".

القول الثاني:
أن المراد: جعل يمسح أعرافها وعراقيبها بيده حباً وإكراماً لها. (رجحه ابن جرير*, والرازي*) (وضعفه البغوي*, وابن كثير*)

قال ابن جرير: لأن نبي الله صلى الله عليه وسلم لم يكن إن شاء الله ليعذب حيواناً بالعرقبة، ويهلك مالاً من ماله بغير سبب، سوى أنه اشتغل عن صلاته بالنظر إليها، ولا ذنب لها باشتغاله بالنظر إليها".


قال البغوي:
هذا قول ضعيف والمشهور هو الأول.

وقال ابن كثير: "وهذا الذي رجح به ابن جرير فيه نظر, لأنه قد يكون في شرعهم جواز مثل هذا ولا سيما إذا كان غضباً لله عز وجل بسبب أنه اشتغل بها حتى خرج وقت الصلاة, ولهذا لما خرج عنها لله تعالى عوضه الله تعالى ما هو خير منها وهي الريح التي تجري بأمره رخاء حيث أصاب غدوها شهر ورواحها شهر فهذا أسرع وخير من الخيل".

قلت: مما يدل على ضعف هذا القول أنه لا مناسبة بين كونه يعطي أمراً صارماً بردها فيبدأ بمسحها حباً وإكراماً, وبين قوله: (إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي).
كان المتوقع أن يبادر إلى ما فاته من ذكر ربه لا أن يعيد انشغاله بمسحها عن ذكر ربه.
والقول بأن المراد بقوله: (تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ) الخيل, أي: حتى ابتعدت وتوارت وصار لا يشاهدها ثم قال: (رُدُّوهَا عَلَيَّ) هو قول ضعيف كما سيأتي.

وضعف الرازي القول الأول بشدة, وذكر أوجهاً كثيرة يستبعد بها هذا القول, ولكنها أوجه ضعيفة غير قوية.
وقد تولى مناقشته وبين خطأه الألوسي في "روح المعاني".

وبعد أن ضعف الرازي القول المشهور فسر الآية تفسيراً بعيداً فقال:
"والصواب أن نقول إن رباط الخيل كان مندوباً إليه في دينهم كما أنه كذلك في دين محمد صلى الله عليه وسلم, ثم إن سليمان عليه السلام احتاج إلى الغزو فجلس وأمر بإحضار الخيل وأمر بإجرائها وذكر أني لا أحبها لأجل الدنيا ونصيب النفس.
وإنما أحبها لأمر الله وطلب تقوية دينه, وهو المراد من قوله: (عَنْ ذِكْرِ رَبِّي)، ثم إنه عليه السلام أمر بإعدائها وتسييرها حتى توارت بالحجاب أي: غابت عن بصره.
ثم أمر الرائضين بأن يردوا تلك الخيل إليه فلما عادت إليه طفق يمسح سوقها وأعناقها تشريفاً لها وإبانة لعزتها لكونها من أعظم الأعوان في دفع العدو...
فهذا التفسير الذي ذكرناه ينطبق عليه لفظ القرآن انطباقاً مطابقاً موافقاً، ولا يلزمنا نسبة شيء من تلك المنكرات والمحذورات، وأقول: أنا شديد التعجب من الناس كيف قبلوا هذه الوجوه السخيفة مع أن العقل والنقل يردها، وليس لهم في إثباتها شبهة فضلاً عن حجة".

ومن التفسيرات الضعيفة ما نقله القرطبي عن النحاس أنه قال: "إن سليمان عليه السلام كان في صلاة فجئ إليه بخيل لتعرض عليه قد غنمت, فأشار بيده لأنه كان يصلي حتى توارت الخيل وسترتها جدر الإصطبلات, فلما فرغ من صلاته قال: (ردوها علي فطفق مسحا) أي: فأقبل يمسحها مسحاً".

ومن التفسيرات الضعيفة ما نقله ابن عطية عن بعض الناس "أن سليمان عرض عليه الخيل وهو في الصلاة، فأشار إليهم، أي: في الصلاة، فأزالوها عنه حتى أدخلوها في الاصطبلات، فقال هو لما فرغ من صلاته: (إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ) أي: الذي عند الله في الآخرة بسبب ذكر ربي، كأنه يقول: فشغلني ذلك عن رؤية الخيل حتى أدخلت اصطبلاتها (رُدُّوها عَلَيَّ) فطفق يمسح أعناقها وسوقها محبة لها"

ومن التفسيرات الضعيفة ما ذكره ابن عطية عن الثعلبي "أن هذا المسح إنما كان وسماً في السوق والأعناق بوسم حبس في سبيل الله".

ومن التفسيرات الضعيفة ما نقله البغوي أنه قيل في معنى قوله: (ردوها علي) يعني الشمس، يقول سليمان بأمر الله للملائكة الموكلين بالشمس (ردوها علي) فردوها عليه حتى صلى العصر في وقتها، وذلك أنه كان يعرض عليه الخيل لجهاد عدو حتى توارت بالحجاب.
والله تعالى أعلم.

للاطلاع على مقدمة سلسلة (النوال)
انظر هنا
https://majles.alukah.net/t188624/