الدر الثمين في فوائد كتاب البيان و التبيين


الكتاب: البيان و التبيين
المؤلف: الجاحظ
********************


بسم الله، الحمد لله، و الصلاة و السلام على رسول الله، و آله و صحبه و من والاه، أما بعد:


فقد قرأت النسخة الإلكترونية من هذا الكتاب و الموجودة على الإنترنت و استخرجت منه بعض الفوائد.


الفوائد:


لا يخفى شأنها على نقّاد الألفاظ و جهابذةِ المعاني.


و القلة ... و تكونُ من جهة العجز و نقصان الآلة، و قِلّة الخواطر، و سوءِ الاهتداء إلى جياد المعاني، و الجهلِ بمحاسن الألفاظ.


لم يدعِ الأولُ للآخِر معنى شريفاً و لا لفظاً بهياً إلاّ أخذَه.


و إنما يمتنع البالغ مِن المعارف مِن قِبل أُمورٍ تعرِض من الحوادث، وأمورٍ في أصل تركيب الغريزة، فإذا كفَاهم اللّه تلك الآفاتِ، و حصنهم من تلك الموانع، و وفَّر عليهم الذّكاءَ، و جلَب إليهم جياد الخواطر، و صرف أوهامهم إلى التعرف، و حبب إليهم التبين، وقعت المعرفةُ و تمَّت النعمة.


عن عائشة قالت: سلُوا ربكم حتى الشسع، فإنه إنْ لم ييسره لم يتيسر.


و أعوذُ بك من الحَيرة وقِلَّة الحِيلة.


أعوذُ بك من القِلَّة والذِّلة.


اللّهم من أرادني بخيرٍ فيسر لي خيره، و من أرادني بشر فاكفِني شره.


قال أحمد الهُجيمي أبو عمر، أحد أصحاب عبد الواحد بن زيد: اللهم يا أجود الأجودِين و يا أكرم الأكرمِين ،و يا أعفى العافين، و يا أرحم الراحمين، و يا أحكم الحاكمين، و يا أحسن الخالقين، فرج عني فرجاً عاجلاً تاماً، هنيئاً مباركاً لي فيه، إنك على كل شيءٍ قدير.


قيس بن سعد قال: اللهم ارزقني حمداً و مجداً، فإنه لا حمد إلاّ بفعال، و لا مجد إلاّ بمال.


عليكم بأوجزِ الدعاء.


و قال أَعرابي في دعائه: اللّهم لا تخيبنِي و أنا أرجوك، و لا تعذِّبني و أنا أدعوك، اللَّهم فقد دعوتك كما أمرتني، فأجِبني كما وعدتني.


كان عمر بن معاويةَ العقَيلي يقول: اللهم قِني عثَرات الكِرام و الكلام.


خير من البخْلِ للفتى عدمه *** و من بنين أعقَّةٍ عقَمه


إذا أبقَت الدنيا على المرء دينَه *** فما فاته منها فليس بضائرِ
فما رضِي الدنيا ثواباً لمؤمن *** و لا رضِي الدنيا عقاباً لكافرِ


و قالوا لعيسى بن مريم: من نجالس؟ قال: من يذكّركم اللَّه رؤيته، و يزيد في علمكم منطقُه، و يرغِّبكم في الآخرة عمله.


و قال ابن المقفّع: الجود بالمجهود منتهى الجود.


فَضلُ المقِلِّ إذا أعطاه مصطبراً *** و مكثِرٍ في الغنى سيانِ في الجود


و قال رجلٌ لداود بنِ نصيرٍ الطائي العابد: أوصني، قال: اجعل الدنيا كيومٍ صمته، و اجعل فِطَرك الموت.


فكأنْ قَد ،و السلام.


و قال عبد اللَّه بن الزبعرى:


والعطِياتُ خِساس بيننا *** و سواء قبر مثْرٍ ومقِلّ


قال قَتادة: يعطِي اللَّه العبد على نِية الآخرة ما شاء من الدنيا والآخرة، و لا يعطي على نية الدنيا إلا الدنيا.


رحِم اللَّه رجلاً خلا بكتابِ اللَّه فعرض عليه نفسه، فإن وافقه حمِد ربه و سألَه الزيادةَ من فضله، و إن خالَفه اعتتب و أناب، و رجع من قريب.


تنفق مِثل دِيتك في شهواتك سرفاً، و تمنع في حق اللَّهِ درهماً.


و كلُّ شيءٍ للعرب فإنما هو بديهةٌ و ارتجال.


كأنه إلهام، و ليست هناك معاناةٌ ولا مكابدة، و لا إجالةُ فكر ولا استعانة، و إنما هو أن يصرف وهمه إلى الكلام، و إلى رجزِ يومِ الخصام، أو حين يمتح على رأس بئر، أو يحدو ببعير، أو عند المقارعة أو المناقلة، أو عند صِراع أو في حرب، فما هو إلاّ أن يصرف وهمه إلى جملة المذهب، و إلى العمود الذي إليه يقصد، فتأتيه المعاني أرسالاً، و تنثال عليه الألفاظ انثيالاً، ثم لا يقيده على نفسه، و لا يدرسه أحداً من ولده، و كانوا أُميين لا يكتبون، و مطبوعِين لا يتكلَّفون، و كان الكلام الجيد عندهم أظهر و أكثر، و هم عليه أقدر، و له أقهر، و كل واحدٍ في نفسه أنطَق، و مكانه من البيان أرفع، و خطباؤهم للكلام أوجد، و الكلام عليهم أسهل، و هو عليهم أيسر من أن يفتقروا إلى تحفُّظ، و يحتاجوا إلى تدارس، و ليس هم كمن حفِظ علم غيرِه، و احتذى على كلام من كان قَبله، فلم يحفظوا إلاّ ما علِق بقُلوبهم، و التحم بصدورهم، و اتصل بعقولهم، من غير تكلف و لا قصد، و لا تحفُّظ و لا طلب، و إنّ شيئاً هذا الذي في أيدينا جزءٌ منه، لَبِالمقدار الذي لا يعلمه إلاّ من أحاط بقَطْر السحابِ و عدد التراب، و هو اللَّه الذي يحيط بما كان، والعالِم بما سيكون، و نحن - أبقاك اللَّه - إذا ادعينا للعرب أصناف البلاغة من القصيد و الأرجاز، و من المنثور و الأسجاع، و من المزدوج و ما لا يزدوج، فمعنا العلم أن ذلك لهم شاهد صادق من الديباجة الكريمة، و الرونق العجيب، و السبك والنحت، الذي لا يستطيع أشعر الناس اليوم، و لا أرفعهم في البيان أن يقول مثلَ ذلك إلاّ في اليسير و النبذ القليل.


و لا خير في وصلٍ إذا لم يكن له *** على طولِ مر الحادثاتِ بقاء


استغْنِ عن كلِّ ذي قُربى و ذي رحمٍ *** إن الغَني من استغنى عن الناسِ


لا تَضجرن و لا تَدخُلْك معجزةٌ *** فالنُّجح يهلِك بين العجز والضجرِ


ولقد هززتُك بالمدي *** حِ فكنتَ ذا نفسٍ لكيعه


أنت الرقيع بن الرقيعِ *** بنِ الرقيع بن الرقيعه


تولَّتْ بهجة الدنيا *** فكلُّ جديدها خَلَقُ


أعلِّلُ نفسي بما لا يكون *** كما يفعلُ المائق الأحمقُ


أتَرجو أن تَسود ولن تُعنَّى *** و كيف يسود ذُو الدعة البخيلُ


فاستشِر عقلَك وراجِع نفْسك، و ادرس نِعم اللَّه عندك، و تذكَّر إحسانه إليك، فإنه مجلَبةٌ للحياء، ومردعةٌ للشهوة، و مشحذَةٌ على الطاعة.


و قال عمر بن الخطّاب رحمه اللَّه: مِن خير صناعات العرب الأبيات يقدمها الرجلُ بين يدي حاجته، يستنزِلُ بها الكريم، و يستعطف بها اللئيم.


زياد بن أبيه: من سعادة الرجل أن يطولَ عمره، و يرى في عدوه ما يسره.


مكتوب في حكمة داود: على العاقل أن يكون عالماً بأهل زمانه، مالكاً للسانه، مقبلاً على شانه.


إنّ المرأة لا تنسى قاتل بكْرها، ولا أبا عذْرها.


و قال عمر بن الخطّاب رحمه اللَّه: كونوا أوعية الكتاب، و ينابيع العلم، و سلُوا اللَّه رزق يوم بيوم، و لا يضيركُم أَلاّ يكْثِر لكم.


و قال عمر: احذر من فَلَتات الشباب كُلَّ ما أورثك النبز و أعلَقَك اللَّقَب، فإنه إنْ يعظم بعدها شأنك يشتد على ذلك ندمك.


ابن أبي الزناد قال: كنت كاتباً لعمر بن عبد العزيز، فكان يكتب إلى عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطّاب في المظالم فيراجعه، فكتب إليه: إنه يخيلُ إليَّ أني لو كتبت إليك أن تعطي رجلاً شاةً لكتبت إليّ: أضأْنٌ أم ماعز؟ و إنْ كتبت إليك بأحدهما كتبت إليّ: أذكر أم أُنثى؟ و إن كتبت إليك بأحدهما كتبت إليّ: أصغير أم كبير؟ فإذا أتاك كتابي في مظْلمةٍ فلا تراجعني، و السلام.


خَود إذا كثُر الحديث تعوذَتْ *** بحِمى الحياء و إن تَكَلّم تقصِدِ


و القوم أشباه و بين حلومهم *** بون كذاك تفاضلُ الأشياءِ


وسئل شريك عن أبي حنيفة فقال: أعلم الناس بما لا يكون، و أجهل الناس بما يكون.


يرحم اللَّه عمر بن الخطاب، كان يقول: اللهم إني أعوذ بك من الزانيات، و أبناء الزانيات.


فجعلنا بعضها في باب الاتعاظ و الاعتبار، و بعضها في باب الهَزل و الفكاهة، و لكلّ جنسٍ من هذا موضع يصلح له، و لا بد لمن استكده الجِد من الاستراحة إلى بعض الهزل.


كتب عمر بن الخطّاب إلى ساكني الأمصار: أما بعد فعلّموا أولادكم العوم و الفُروسةَ، و رووهم ما سار من المَثَل، و حسن من الشعر.


و قال ابن التوأم: علّم ابنك الحساب قبلَ الكتاب، فإنّ الحساب أكسب من الكِتاب، و مؤونةُ تعلّمه أيسر، و وجوه منافعه أكثر.


حسب الفتى من عيشه *** زاد يبلغُه المحلاّ
خُبز و ماء بارد *** و الظّلّ حين يريد ظِلا


ما الزهد في الدنيا؟ قال: ألاّ يغلِب الحرام صبرك، و لا الحلالُ شكرك.


ما المروءة؟ قال: طهارة البدن، و الفعلُ الحسن.


احذَر مشورةَ الجاهل و إن كان ناصحاً، كما تحذر مشورةَ العاقل إذا كان غاشاً، فإنه يوشك أن يورطاك بمشورتهما.


و قيل لبعض العلماء: أي الأمور أمتع؟ فقال: مجالسةُ الحكماء و مذاكرة العلماء.


كان يحيى بن خالد يقول: ثلاثة أشياءَ تدلُّ على عقول أربابها: الكتاب يدلُّ على مقدار عقل كاتِبه، و الرسولُ على مقدار عقل مرسِله، و الهديةُ على مقدار عقل مهديها.


و قال عمر بن الخطاب رحمه اللّه: خير صناعات العرب أبيات يقدمها الرجلُ بين يدي حاجته، يستميل بها الكريم، و يستعطف بها اللَّئيم.


و كتب الحسن إلى عمر بن عبد العزيز رحمه اللَّه: أما بعد فكأنك بالدنيا لم تكن، و بالآخرة لم تزلْ.


بل رب كنايةٍ تربي على إفصاح.


بكيتك يا علي بدر عيني *** فما أغنى البكاء عليك شيا


و قال أعرابي: اللهم قني عثراتِ الكرام.


و لا بد من أن نذكر فيه أقسام تأليف جميع الكلام، و كيف خالف القرآنُ جميع الكلام الموزونِ و المنثور، و هو منثور غير مقفّى على مخارج الأشعار و الأسجاع، و كيف صار نظمه من أعظم البرهان، و تأليفه من أكبر الحجج.


و أكرِم نفسي عن مناكح جمةٍ *** و يقصر مالي أن أنالَ الغواليا


و قال شبيب بن شيبة: اطلب الأدب فإنه دليلٌ على المروءة، و زيادةٌ في العقل، و صاحب في الغربة، و صِلَة في المجلس.


أي بني، كُف الأذَى، و ارفُض البذَا.


إذا المرء أعيتْه السيادةُ ناشئاً *** فمطلبها كهلاً عليه شديد


الكبير أكبر عقلاً، ولكنه أَشغل قلباً.


و يعرف أَكثر أدواء الكلام و دوائه، و ما يعتري المتكلِّم من الفتنة بحسن ما يقول، و ما يعرض للسامع من الافتتان بما يسمع.


إذا مات منهم سيد قام سيد *** بصير بعورات الكلام زمِيتُ


فإن أهلِك فقد أبقَيتُ بعدي *** قوافِي تُعجِب المتَمثِّلينا


لذيذاتِ المقاطع محكَماتٍ *** لو أن الشِّعر يلبس لارتُدِينا


عجِبتُ لإدلال العيِي بنفسِه *** و صمتِ الذي قد كان بالقول أَعلَما


وفي الصمت ستْر للعيي و إنما *** صحيفةُ لُب المرء أن يتكلما


بصير بعوراتِ الكلام إذا التَقَى *** شَريجان بين القوم: حقٌّ و باطلُ


و قيل لابن المقفّع: ألا تقول الشعر؟ قال: الذي يجيئني لا أرضاه، و الذي أرضاه لا يجيئني.


و قد يقرض الشعر البكي لسانُه *** و تُعيي القوافي المرء و هو خَطيب


قال الأصمعي: وصلْت بالعِلْم، و نِلت بالمُلَح.


و كانوا يأمرون بالتبين و التثبت، و بالتحرز من زلَل الكلام.


سلِ الخطباء هل سبحوا كسبحِي *** بحور القَولِ أو غَاصوا مغاصِي


لساني بالنَّثير و بالقَوافِي *** و بالأسجاع أمهر في الغِواصِ


و كان يقال: عقلُ الرجل مدفون تحت لسانه، و قالوا: أعلى جميع الخَلْق مرتبةً الملائكة، ثم الإنس، ثم الجن، و إنما صار لهؤلاءِ المزِيةُ على جميع الخلق بالعقل، و بالاستطاعة على التصرف، و بالمنطق.


و قال اللَّه عز و جلّ: (و لَهم رِزقُهم فِيها بكْرةً و عشِياً) [سورة مريم: آية 62]، و ليس في الجنة بكرةٌ و لا عشي، و لكن على مقدار البكَرِ والعشيات.


و كما لا ينبغي أن يكون اللفظُ عامياً، و ساقطاً سوقياً، فكذلك لا ينبغي أن يكون غريباً وحشياً.


مِن لفظٍ شريف و معنى بديع.


جهير و ممتد العنان مناقلٌ *** بصير بعورات الكلامِ خبيرُ


الكنايةَ و التعريض لا يعملانِ في العقول عملَ الإفصاح و الكَشف.


قال السائل: ليس هذا أريد، قال عمرو: فكأَنك إنما تريد تخير اللّفظ، في حسن الإفهام، قال: نعم، قال: إنك إنْ أُوتيت تقرير حجة اللَّه في عقول المكَلَّفِين، و تخفيف المَؤونة على المستمعين، و تزيين تلك المعاني في قلوب المريدين، بالألفاظِ المستحسنة في الآذان، المقبولة عند الأذهان، رغبةً في سرعة استجابتهم، و نفْيِ الشواغلِ عن قلوبهم بالموعظة الحسنة على الكِتاب و السنة، كنت قد أُوتِيت فَصلَ الخِطاب، و استوجبت على اللَّه جزيلَ الثّواب.


فإنَّ قليلاً كافياً خير من كثير غيرِ شاف.


عن شعبة عن قتادة قال: مكتوب في التوراة: لا يعاد الحديث مرتين.


عن سفيان بن عيينة عن الزهري قال: إعادةُ الحديث أشد من نقْل الصخر.


قال أبو الحسن: قيل لإياسٍ: ما فيك عيب إلاّ كثرةُ الكلام، قال: فتسمعون صواباً أم خطأً؟ قالوا: لا، بل صواباً، قال: فالزيادة من الخير خير.
و ليس كما قال، للكلام غايةٌ، و لنشاط السامعين نِهاية، و ما فَضل عن قدر الاحتمال و دعا إلى الاستثقال و المَلاَل، فذلك الفاضل هو الهَذَر، و هو الخَطَل، و هو الإسهاب الذي سمِعت الحكماءَ يعيبونه.


قال لي المفضل بن محمد الضبي: قلت لأعرابي منا: ما البلاغة؟ قال لي: الإيجاز في غير عجز، و الإطناب في غير خطَلٍ.


و الناس موكّلُون بتعظيم الغريب، و استِطراف البعيد، و ليس لهم في الموجود الراهن، و فيما تحت قُدرتهم من الرأْي و الهوى، مِثْلُ الذي لهم في الغريب القليل، و في النادر الشاذّ، و كلِّ ما كان في ملْك غيرهم، و على ذلك زهِد الجِيرانُ في عالمِهِم، و الأصحاب في الفائدة من صاحبِهم، و على هذا السبيلِ يستطْرفون القادم عليهم، و يرحلُون إلى النازح عنهم، و يتركون من هو أعم نفعاً و أكثر في وجوه العِلم تصرفاً، و أخف مؤونةً و أكثر فائدة.


و قال بعض أهل الهند: جِماع البلاغة البصر بالحُجة، و المعرفة بمواضع الفرصة، ثم قال: و من البصر بالحُجة، و المعرفِة بمواضع الفُرصة، أن تدع الإفصاح بها إلى الكناية عنها، إذا كان الإفصاح أوعر طريقةً، و ربما كان الإضراب عنها صفحاً أبلَغَ في الدرك، و أحق بالظَّفَر.


و قيل للهندي :ما البلاغة؟ قال: وضوح الدلالة، و انتهاز الفرصة، و حسن الإشارة.


و قال محمد بن علي بن عبد اللَّه بن عباس: كفَاك مِن عِلْمِ الدين أن تعرِف ما لا يسع جهلُه، و كفاك مِن علم الأدب أن تروِي الشاهد و المَثل.


و قال علي رحمه اللّه: قيمة كلِّ امرئٍ ما يحسِن، فلو لم نقف من هذا الكتابِ إلاّ على هذه الكلمة لوجدناها شافيةً كافية، و مجزئة مغنِية، بل لوجدناها فاضلةً عن الكفاية، و غير مقصرة عن الغاية، و أحسن الكلام ما كان قليله يغنيك عن كثيرِه، و معناه في ظاهر لفظِه، و كان اللُّه عز و جلَّ قد ألبسه من الجَلالة، و غَشاه من نور الحكمة على حسب نية صاحبه و تقوى قائِله، فإذا كان المعنى شريفاً و اللفظُ بليغاً، و كان صحيح الطبع بعيداً من الاستكراه، و منزهاً عن الاختلالِ مصوناً عن التكلُّف، صنع في القُلوب صنيع الغيث في التربة الكريمة.


و الكتاب يقرأ بكلِّ مكان، و يدرس في كلِّ زمان، و اللسان لا يعدو سامعه، و لا يتجاوزه إلى غيره.


اللسان مقصور على القريب الحاضر، و القلم مطلق في الشاهد و الغائب.


القَلَم أحد اللِّسانين.


و اختياره قطعةٌ من عقلِه.


و قال ابن التوأم: الروح عِماد البدن، و العِلْم عِماد الروح، و البيان عماد العلم.


اعلم - حفِظَك اللَّه - أنّ حكْم المعاني خلاف حكمِ الألفاظ، لأنْ المعانِي مبسوطةٌ إلى غير غاية، و ممتدةٌ إلى غير نهاية، و أسماءَ المعاني مقصورةٌ معدودة، و محصلةٌ محدودة.


قال بعض جهابذة الألفاظِ و نقَّادِ المعاني...


و حين فضله على جميع الحيوان بالمنطق و العقل و الاستطاعة...


و يكون لفظُه متخيراً فاخراً، و معناه شريفاً كريماً.


فهذا بديه لا كتحبير قائلٍ *** إذا ما أراد القولَ زوره شَهرا


فأظهر بشار استحسانَ الأُرجوزة، فقال له عقبةُ بن رؤبة: هذا طراز يا أبا معاذٍ لا تحسِنه، فقال بشار: ألِمِثلي يقال هذا الكلام؟ أنا واللَّهِ أرجز منك و مِن أبيك و من جدك.


البيان يحتاج إلى تمييز و سياسة و إلى ترتيب و رياضة و إلى تمام الآلة و إحكام الصنعة.


والعامة ربما استخفت أقلَّ اللغتين و أضعفَهما، و تستعمل ما هو أقلُّه في أصل اللغة استعمالاً و تدع ما هو أظهر و أكثر، و لذلك صِرنا نجد البيت من الشعر قد سار و لم يسر ما هو أجود منه، و كذلك المَثل السائر، و قد يبلغ الفارس و الجواد الغايةَ في الشهرة و لا يرزق ذلك الذكر و التنويه بعض من هو أولى بذلك منه.


ملقَّن ملهم فيما يحاوله *** جم خواطره جواب آفاقِ


********************


جزى الله الجاحظ خيراً على ما نفعنا به من علم نفيس.


و الحمد لله أولاً و آخراً، و صلى الله على نبينا محمد و على آله و صحبه أجمعين.


سبحان ربك رب العزة عما يصفون، و سلام على المرسلين، و الحمد لله رب العالمين.