أبو البراء محمد بن عبدالمنعم آل عِلاوة
السؤال:

الملخص:
شابة ملتزمة، تتخبَّط في طريق الاستقامة، فلا يستقر لها قرار؛ من الاشتراك في الدورات، إلى تحميل الكتب، ثم جعلت لنفسها وردًا ثابتًا من القرآن، كل ذلك بلا جدوى، ثم عرَفت شابًّا على مواقع التواصل، وأحبَّته، ثم تركها، وهي حزينة لفقده، كما أنها كلما التحقتْ بمنحة أو وظيفة، فلا تكمل فيها، وتسأل: ما النصيحة؟
التفاصيل:
أنا شابة أبلغ من العمر السابعة والعشرين، متدينة، أُحمِّل الكثير من الكتب من الإنترنت، وأشترك في العديد من الدورات، لكني لا أحقِّق أي استفادة من كل هذا، فأنا مشتتة وغير قادرة على التركيز، ما سبب لي ضغطًا نفسيًّا، فجعلت لنفسي وردًا ثابتًا من القرآن، لكني لم أستطع أن أكمل، حتى إنني أصبحت أشك في ديني كثيرًا، ولم يعُد لدي أي يقين في أي شيء، حتى إنني اعتقدتُ أني خرجت من الملة، ثم تعرَّفت على شاب على مواقع التواصل الاجتماعي وأحببته حبًّا لا يُوصف، وكان اتصالنا على الشات فقط، وكان يغضب غضبًا شديدًا؛ لأنني لم أكن أكلِّمه على الهاتف، ثم تركني بعد ذلك، فقمتُ بتهديده وادَّعيت أنني من أصحاب السطوة، ثم تركتُه، ولكني أشعر بضيق شديد يَملأ كِياني، حتى وصلت لحد المرض، وتراودني بعض السؤالات: لماذا لم يرزقني الله إياه؟
وإن لم يكن خيرًا لي، فلماذا تعلقت به إلى هذا الحد؟
ولماذا لم أعُدْ أراه، فقد اختفى ولم يَعُدْ يظهر؟
كيف سيعوِّضني الله عنه؟
أنا أشعر بالأسى والحزن على تضييع أوقات عمري، فأنا لم أدرس أي دورة تنفعني دراسيًّا، وقد أهدرت فرصًا كثيرة في حياتي، أختلق دائمًا المشاكل التي تعكر صفوَ حياتي، أشعر كأنني ملعونة، فلا يحدث لي أي شيء جميل، وكلما التحقت بوظيفة أو منحة، فلا أكون جاهزة لها؛ فأنا دائمًا مشتتة، هل أنا كافرة، أم عاصية؟ هل طرَدني الله من رحمته؟


الجواب:
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، صلى الله عليه وسلم؛ أما بعد:
أولًا: مرحبًا بكِ أيتها الأخت الفاضلة، ونسأل الله لنا ولكِ الهداية والتوفيق، والسداد والتيسير.
ثانيًا: واضح جدًّا الداء، وهو التخبُّط وعدم الاستقرار والاستمرار، ويدل ذلك التنقل وعدم الاستقرار على شيء، فمرة تقرئين الكتب دون مشورة لِما يناسبك، ومرة دخول دورات دون معرفة محتواها أو مستواها العلمي أو الثقافي، ثم دخول مواقع والكلام مع شاب دون وجه حق، حتى وقعتِ في المحظور وهو العشق المحرم، فهذا هو مكمن الداء، غياب الناصح الأمين، وهذا كله ما جعلكِ تائهة.
ثالثًا: لكل داء دواء، والحمد لله أنكِ تداركتِ نفسكِ قبل الخَوضِ في عِظامِ المعاصي، فعليكِ الآن أن تبدئي طريق الاستقامة والثبات؛ ففري إلى الله؛ قال تعالى: ﴿ فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ ﴾ [الذاريات: 50]:
ولمَّا قَـسَا قَلبِي وَضَاقَتْ مَذَاهِبِي ♦♦♦ جعلتُ رجائي دون عفوِكَ سُلَّما
فاصدُقِي التوبة مع الله بندمٍ وعزم وصدق وإخلاص، واستشعري بعدها جمال قوله تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ ﴾ [البقرة: 222].
وأول الاستقامة بعد تصحيح المعتقد:
الحفاظُ على الفرائض ولا سيما الصلاة؛ قال ابن القيم: "سرُّ الصلاة وروحها ولبُّها، هو إقبال العبد على الله بكليَّتِهِ فيها، فكما أنه لا ينبغي أن يصرف وجهه عن القبلة إلى غيرها فيها، فكذلك لا ينبغي له أن يصرف قلبه عن ربِّهِ إلى غيره فيها..."؛ [أسرار الصلاة (ص: 27)].
ثانيًا: عليكِ بدايةً بالدعاء بالاستقامة والإلحاح فيه، ولنتأمل جيدًا قوله تعالى الذي نردده سبع عشرة مرة على أقل التقديرات يوميًّا: ﴿ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ﴾ [الفاتحة: 6].
ولْيَكُنْ لسانُكِ دائمًا يردد: ((اللهم يا مقلِّب القلوب، ثبِّتْ قلبي على دينك))؛ [أبو داود 3522))، بسند صحيح].
ثالثًا: المحافظة على الفرائض الواجبة كالصلوات الخمس في وقتها دون تهاون أو تأخير، وعلى حجابكِ الشرعي الساتر السابع لمفاتن الجسد.
رابعًا: البعد عن كل ما يُعينكِ على معصية، أو يخذلكِ عن الطاعة، سواء صديقة أو غيره.
خامسًا: لا بد أن يكون لك وِرد يومي من القرآن قراءةً وسماعًا، ولو قليلًا، والمهم المداومة.
سادسًا: لا بد من صحبة صالحة تعينكِ على الطاعة وتُذكِّركِ بالله؛ قال صلى الله عليه وسلم: ((لا تصاحب إلا مؤمنًا))؛ [أبو داود 4834))، والترمذي (2395)، وحسنه الألباني].
عن المرء لا تسأل وسَلْ عن قرينه ♦♦♦ فكلُّ قرين بالمقارن مُقتدي
سابعًا: لا بد من تعلم الواجبات عليكِ؛ ككيفية الطهارة، وكيفية الصلاة، وأصول الإيمان والاعتقاد، ويكفيكِ في هذا بداية كتاب الفقه الميسر لمجموعة علماء، والاعتقاد الميسر لمجموعة علماء، والتفسير الميسر لمجموعة علماء، والبداية من حفظ القرآن، فمن الآن ابحثي عن مُحفِّظة على خُلُقٍ وعلم ودين.
ثامنًا: لا بد من سماع الرقائق والمواعظ التي تَحثُّ على التوبة والاستقرار والثبات؛ كالسماع لفضيلة الشيخ محمد حسين يعقوب، والشيخ محمود المصري، والشيخ سمير مصطفى، وكل هؤلاء محاضراتهم على الإنترنت متوفرة.
وقراءة كتاب قصة الالتزام، والجدية في الالتزام للشيخ محمد حسين يعقوب، وصفحات من دفتر الالتزام لليلى حمدان.
تاسعًا: ننصحكِ بالالتحاق بمعهد لتعلُّم العلم الشرعي؛ مثل مِنصة زاد للتعلم عن بُعْدٍ.
عاشرًا: عليكِ بالصبر، ثم الصبر، ثم الصبر، فالجنة حُفَّتْ بالمَكارهِ، والثبات على الطاعة يحتاج لمجاهدة ومثابرة وجَدٍّ، فنسأل الله لكِ الثبات والاستقامة.
قال ابن تيمية في مجموع الفتاوى: "والله تعالى غافر الذنب، قابل التوب، شديد العقاب، والذنب وإن عظُم، والكفر وإن غلُظ وجسم، فإن التوبة تمحو ذلك كله، والله سبحانه لا يتعاظمه ذنب أن يغفره لمن تاب، بل يغفر الشرك وغيره للتائبين؛ كما قال تعالى: ﴿ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴾ [الزمر: 53]، وهذه الآية عامة مطلقة؛ لأنها للتائبين".
أما عن تلك الخواطر السيئة، فلا تلتفي إليها وتستمري معها؛ قال ابن القيم: "قاعدة في ذكر طريق يوصل إلى الاستقامة في الأحوال والأقوال والأعمال؛ وهي شيئان:
أحدهما: حراسة الخواطر وحفظها، والحذر من إهمالها والاسترسال معها؛ فإن أصل الفساد كله من قِبلها يجيء؛ لأنها هي بذر الشيطان والنفس في أرض القلب، فإذا تمكَّن بذرها، تعاهدها الشيطان بسَقْيِهِ مرة بعد أخرى، حتى تصير إراداتٍ، ثم يسقيها بسقيه حتى تكون عزائم، ثم لا يزال بها حتى تثمر الأعمال"؛ [طريق الهجرتين].
وأنصحكِ بمطالعة هذه الاستشارات:
وسواس قهري متعلق بالدين والقرآن.
أعاني من وساوس تتعلق بالآخرة.
التوبة مع تكرار الذنب.
وساوس قهرية مستمرة.
الوسوسة في الإيمان وما يقوله من وجدها.
أهمية دراسة العقيدة.
وأخيرًا: لا بد أن تبعدي عن وسائل التواصل بقدر الإمكان، ولا تستعمليها إلا بحدِّ الضرورة والحاجة، بارك الله فيكِ.
هذا، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

رابط الموضوع: https://www.alukah.net/fatawa_counse...#ixzz6mRBJJDas