الدواعي التاريخية لنشأة مقاصد الشريعة
هشام منور
يستدعي الحديث عن «مقاصد الشريعة» أو «علم المقاصد» حسب تعبير بعض العلماء في الكتابات الأصولية الحديث - لدى معظم الباحثين - عن الإمام الشاطبي - رحمه الله تعالى -، وكتابه القيّم "الموافقات في أصول الشريعة"، إلى الحد الذي يذهب فيه كثير من الدارسين لهذا الكتاب إلى اعتبار (الشاطبي) نفسه مبتدع علم المقاصد، كما ابتدع سيبويه علم النحو، وابتدع الخليل بن أحمد الفراهيدي علم العروض، بل إن الإمام الشاطبي - رحمه الله تعالى - نفسه كان يرى أنه هو من ابتكر هذا العلم، ونجد معظم الدارسين لمبحث «المقاصد» اليوم يفتتحون الحديث عن «المقاصد» بذكر مبحث تمهيدي عن «تاريخية نشوء الكتابة في مقاصد الشريعة»، بيد أن المتتبع لهذه الكتابات غالباً ما يلحظ اختلافاً في الأسلوب والمنهج الذي يعتمده باحثوه في التأريخ لنشوء هذا الجانب الهام من علم أصول الفقه، فالبعض يرجع جذور الكتابة في (مقاصد الشريعة) إلى عهد التابعين، وينسبه صراحة إلى بعضهم، وآخرون يرون في الكتب التي ألفت في بيان حكم وأسرار الشريعة مبدأ ومنطلقاً لذلك.
ويعمد بعد ذلك بعض الباحثين إلى استقراء ما كتب علماء الأصول في هذا المبحث عبر التاريخ في محاولة لتلمس بذور تلك الكتابات في محاولة لا تخلو من إسقاط واستنطاق للنصوص والمؤلفين قد تكون فجة في بعض الأحيان، ولكن ذلك لم يمنع أن تتفق معظم الكتابات المعاصرة على إيراد سلسلة معينة من الأعلام كان لها الدور الأكبر في تبيين ملامح هذا المبحث، واستجلائه إلى أرض الواقع، ويذكرون منهم: الإمام الجويني في كتابه "البرهان في أصول الفقه"، وكتابه الذي اختصر فيه كتاب شيخه الباقلاني - رحمه الله تعالى -: "التقريب والإرشاد في ترتيب طرق الاجتهاد"، واسم كتاب الجويني "التلخيص"، ويروم معظم الباحثين المعاصرين التأكيد على اعتبار الإمام الجويني المؤسس الحقيقي لهذا العلم، وأول من نص صراحة في تقسيمه للعلل والمقاصد الشرعية على مراتب مقاصد الشريعة الثلاث: «الضروريات، والحاجيات، والتحسينيات»، ويأتي بعده في الذكر تلميذه الإمام الغزالي - رحمه الله تعالى -، الذي يعدّ امتداداً لشيخه (الجويني) في هذا السياق، وذلك في كتبه "المنخول من تعليقات الأصول"، و"شفاء الغليل في بيان الشبه والمخيل ومسالك التعليل"، و"المستصفى من علم الأصول"، وقد نص صراحة على الكليات الخمس التي أصر على اتفاق جميع الشرائع على مراعاتها واعتبارها.
ويذكر بعد ذلك في سلسلة أعلام مقاصد الشريعة كل من الإمام الرازي - رحمه الله تعالى - في كتابه "المحصول" الذي اختصر ولخص فيه كتب "المعتمد" لأبي الحسين البصري، و"البرهان" للجويني، و"المستصفى" للغزالي، كما يذكر كتاب معاصره وقرنه الآمدي "الإحكام في أصول الأحكام" الذي هو تلخيص آخر للكتب ذاتها، وبالطبع تسير القافلة بعد ذلك عند معظم الأصوليين الذين تلوا أولئك الأعلام ليذكر بعد ذلك من أعلام الأصوليين الفقهاء الإمام العز بن عبد السلام في كتابه "قواعد الأحكام في إصلاح الأنام"، وتلميذه القرافي في كتابه "الفروق"، والطوفي في "رسالته" و"شرح مختصر الروضة"، وابن تيمية في "مجموع الفتاوى"، وتلميذه ابن قيم الجوزية في كتبه "إعلام الموقعين عن رب العالمين"، و"مفتاح دار السعادة"، و"شفاء الغليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل" وغيرها، إلا أنه نادراً ما يذكر شيخ الشاطبي "المقري" وكتابه "القواعد" على الرغم من كونه صلة الوصل بين كل من ابن تيمية وابن القيم من طريق، والعز بن عبد السلام والقرافي من طريق آخر، وبين الشاطبي، فالمقري تلميذ لكل من القرافي وابن قيم الجوزية، ليأتي بعد ذلك الإمام الشاطبي ليحتل موقعه كواسطة لهذا العقد الفريد، ولكن ما الذي دعا أولئك العلماء الأجلاء إلى الخوض في تفتيق النظر في هذا المبحث؟ وما هي مسوغاتهم العلمية والموضوعية لخوض غمار ذلك؟ ألم يكن علم الأصول في صورته ومباحثه التقليدية المعروفة في غنى بما كان يحويه من مباحث وفصول عن البحث في تجلية مقاصد عامة للشريعة تكون كشافاً موجهاً جديداً للعلماء في اجتهاداتهم واستنباطاتهم المتجددة بتجدد الحوادث والوقائع؟
لقد كانت هذه التساؤلات (تساؤلات المشروعية) حاضرة وبقوة لدى عميد الباحثين في المقاصد الإمام الشاطبي، ولذا وجدناه يعقد ثلاثاً من مقدماته الافتتاحية لكتاب "الموافقات" في بيان الإجابة عنها، والتي يمكن تلخيصها في محاولة تأسيس أصول الفقه بوصفه العلم المناط به مهمة مواجهة النوازل والمستجدات، وتأصيله على أدلة ضرورية قطعية أو قريبة منها ترتفع بقواعد هذا العلم وأدلته ومصادره إلى مستوى القطع، على اعتبار أن مسائل وقواعد هذا العلم «راجعة إلى كليات الشريعة، وما كان كذلك فهو قطعي»( ).
والإمام الجويني ودون أن يتنبه إلى ذلك كثير من الباحثين كان قد سبقه إلى ذلك من خلال بيان مدى احتياج الشريعة والأمة على حد سواء إلى بلورة قواعد وأصول ومبادئ عامة تؤسس وتنبني عليها جميع الفروع والتفاصيل الجزئية من خلال ردها إلى تلك القواعد والمبادئ والأصول الكلية والعامة، فالإمام الجويني في كتابه "غياث الأمم في التياثِ الظُلَم" يعقد القسم الثاني من الكتاب لبيان تلك القواعد والأصول والمبادئ الكلية التي حاول - وفي أسلوب مازج فيه بين النظرية والتطبيق - من خلالها أن يجيب عن السؤال المحوري والجوهري الذي عقد له مباحث كتابه وهو: ما هو الحل؟، وكيف ستواجه الأمة واقع زوال واختفاء الإمامة والشريعة من حياة الناس؟ أي: حال خلو الأمة من وجود الإمام أو السلطان أو الخليفة، وحالها أيضاً عند اختفاء الشريعة وأحكامها التفصيلية باختفاء علماء الأمة واندثار أثرهم؟.
وبدهي أن المستطلع للظروف التاريخية التي اكتنفت تأليف الكتاب - وهي ظروف الحملات الصليبية المتوالية من الغرب -، وتوجس العلماء في ذلك الوقت على وجود الأمة، والخوف من اندثار معالمهما الدينية بزوال أحكام الشريعة، والسياسية، بالقضاء على رأس الهرم السياسي فيها (الخليفة)، إن تلك الظروف كانت وراء التماع فكرة الكتاب في رأس الإمام الجويني، ولما كان الخوف من ضياع واندثار أحكام الشريعة في الأمة لا يتصور حصوله بشكل فجائي ولحظي، فقد عقد (الجويني) القسم الثاني من الكتاب «في خلو الزمان عن المجتهدين، ونقلة المذاهب وأصول الشريعة»( ) على مراتب أربع، ناقش في كل منها موقف الأمة من «اشتمال الزمان على المفتين والمجتهدين»، وانتقل بعد ذلك لمناقشة حال خلو الزمان عن المجتهدين، وبقاء نقلة المذاهب، وقرر وجوب اتباعهم، ثم انتقل بعد ذلك إلى مناقشة حال «خلو الزمان عن المفتين ونقلة المذاهب»، ولكنه يعتقد أن الدهر «لا يخلو عن المراسم الكلية، ولا تعرى الصدور عن حفظ القواعد الشرعية، وإنما تعتاص التفاصيل والتقاسم والتفريع»( )، ولهذا فإنه «لا يخفى على من شدا طرفاً من التحقيق أن مآخذ الشريعة مضبوطة محصورة، وقواعدها معدودة محدودة، فإن مرجعها إلى كتاب الله - تعالى-، وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والآي المشتملة على الأحكام، وبيان الحلال والحرام معلومة، والأخبار المتعلقة بالتكاليف وفي الشريعة متناهية»( ). ثم شرع بعد ذلك في بيان «المقصود الكلي من هذه المرتبة، [وهي] أن نذكر في كل أصل من أصول الشريعة قاعدة تنزل منزلة القطب من الرحى، والأس من المبنى، ونوضح أنها منشأ التفاريع، وإليه انصراف الجميع»( ).
وقد استطرد بعد ذلك ليعلن إمكانية اندثار وضياع حتى هذه الأصول والقواعد التي تأسست عليها أحكام الشريعة في المرتبة الرابعة، وليقرر وجوب الاكتفاء عندئذ بكليات الدين، وأصوله من الإيمان بوجود الله ووحدانيته، والاعتقاد بنبوة النبي المنبعث، وتوطين النفس على التوصل إليه في مستقبل الزمان، وبذلك تنقطع التكاليف الشرعية - حسب رأيه - عن العباد، وتلتحق أحوالهم بأحوال من لم تبلغهم دعوة، ولم تنط بهم شريعة( ).
تلك كانت الظروف التاريخية التي رافقت نشأة وتبلور مفهوم مقاصد الشريعة، وهي ظروف لا يخفى أثر الطابع السياسي والاجتماعي المكتنف لها في كون ظهور مفهوم المقاصد بعد ذلك قد أصبح بمثابة الاستجابة الطبيعية لها، ولكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو في ظل الأزمات والمآزق التي تعصف بالأمة منذ عقود، لماذا لم تظهر إلى الآن استجابة واثقة وواضحة لها، على الرغم من حلاكة المشهد العام، وقتامة مستقبله، وفي ظل تحول الحفاظ على وحدة الأرض واستقلالها من مطلب ضروري إلى مجرد وسيلة لتحقيق النهوض والرقي، ومباشرة الدورة الحضارية لأمتنا؟.