ماذا تعني التربية العقلية للفتاة؟

سحر محمد يسري



نعمة العقل من أكبر النعم التي ميّز الله تعالى بها الإنسان عن الحيوان والجماد، قال تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُم ْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} [الإسراء:70]، وهو من الكليات الخمس التي جاءت الشريعة الغرّاء بحفظها وصيانتها [الكليات الخمس التي أمر الشرع الحنيف بحفظها هي: الدين، والنفس، والعقل، والعِرض، والمال]، لأن الله تعالى قد جعل أفعال العباد كلها سواء كانت مما يتعلق بأمور دينهم أو دنياهم – مدارها على وجود العقل، فكأن العقل هو كل شيء في الإنسان، إذ به يتمكن من القيام بشرع الله تعالى وعمارة الأرض.
يقول الإمام القرطبي رحمه الله تعالىفإن العقل لكل فضيلة أسّ، ولكل أدب ينبوع، وهو الذي جعله الله للدين أصلًا، وللدنيا عمادًا، فأوجب الله التكاليف بكماله، وجعل الدنيا مدبرة بأحكامه) [الجامع لأحكام القرآن،(5/261)].


ولقد ربَّى القرآن الكريم الحواس على حسن الاستدلال، والعقل على حسن الاستنتاج، واعتبر الذين لا يستفيدون من أسماعهم وأبصارهم وأفئدتهم (عقولهم) في التفكير السليم للوصول إلى الحق؛ دون مرتبة الحيوانات، وأضلّ منها، قال تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف: 179] [د.عبد الرحمن النحلاوي، التربية بالآيات، (27)].


عزيزي المربي
إنّ رعاية عقول الأبناء وحسن تربيتها وتدريبها على وسائل إعمال العقل بشكل صحيح هو من شكر هذه النعمة وحفظها في الوقت ذاته.
وإذا أردنا أن نخصص الفتاة بالحديث عن التربية العقلية اللازمة لها، فإن الحديث يكتسب أهمية كبرى إذ أنّ فتاة اليوم هي أم الغد ومربية الأجيال وشريكة الرجال في الاضطلاع بنهوض الأمة وتقدمها، لذلك أحببت أن أفرد هذه السطور للحديث عن التربية العقلية للزهرات الحبيبات.



أهداف تربية الفتاة العقلية:
تهدف التربية العقلية في التصور الإسلامي إلى تنمية ذكاء الفرد وقدرته على التأمل والتفكير والنظر والنقد، وتنمية قدرته على التخيل والتصور، مع تقوية ذاكرته وتدريبها على استرجاع المعلومات، والتعبير عنها بصورة صحيحة، إلى جانب تنمية القدرة على التحليل، وإدراك العلاقات بين المتغيرات المختلفة، والتمكُّن من ربط العلل بالمعلولات، والأسباب بالنتائج .
وهذه العمليات الذهنية العليا التي تهدف إليها التربية العقلية لا تنمو من تلقاء نفسها؛ بل تحتاج ـ بصورة دائمة ـ إلى استخدام وممارسة وتدريب، فإنها بالمران تنمو وتقوى، وبالإهمال تضعف وتضمحل، ومن المعلوم أن قدرات الإنسان العقلية هائلة وكبيرة جدًا، إلا أن غالب الناس لا يستخدمون إلا اليسير منها ، وفترة الشباب من عمر الفتاة تمتاز بالقدرة على التفكير المستقل، حيث ينمو إدراك الفتاة من المستوى الحسّي إلى المستوى المعنوي، وتزداد لديها القدرة على الاستدلال والاستنتاج والتحليل، وإثراء تلك المواهب التي تكون في أوجها من أهم الأهداف أيضًا .



أهم خصائص الفتاة العقلية:
- اختصاصها بعمق تأثير طبيعة جنسها, ونوع مهمتها الاجتماعية على توجهاتها وميولها العقلية، وهذا يتطلب من المربين أن يتوافق منهج التربية العقلية للفتاة مع الطبيعة الفطرية الخاصة بها.
- اختصاصها بانخفاض حجم إسهاماتها الفكرية في أكثر ميادين الإنتاج العلمي عن ذي قبل, مما يستلزم مساعدتها في تكوين قدراتها الإنتاجية والإبداعية من جديد, وغرس محبة الإنتاج العلمي والتفوق في نفسها.
- اختصاصها بالتفوق في القدرة اللفظية, والتذوق الجمالي, مقابل درجة أقل تفوقًا في العلوم التطبيقية والهندسية والحسابية, وهذا يتطلب تعميق وتحسين مجالات تفوقها اللفظية والجمالية ضمن الحدود الشرعية, مع الإفادة الإيجابية من العلوم الأخرى بصورة عامة [د. عدنان با حارث: ملف التربية العقلية للفتاة/شبكة الانترنت].


أهم خطوات ووسائل التربية العقلية للفتاة:
- الاهتمام الكبير بالتربية الإيمانية العميقة للفتاة، بكل روافدها، وخصوصًا ربطها بالقرآن الكريم وتدريبها على تلاوته بالتدبر والتأمل في معانيه، والاهتداء بتوجيهاته.
- ومن أهم هذه التوجيهات تربية القرآن الكريم للعقل، فلقد بلغت عناية القرآن الكريم بتربية العقل وصقله إلى درجة لا يكاد المتأمل فيه يجد سورة إلا وهي تحث على التفكير وتدعوا إلى التأمل والنظر، بصيغٍ مختلفة، كل له مناسبته في سياق الكلام، وكل ذلك لتؤكد النهج القرآني الفريد في الدعوة إلى الإيمان وقيامه على احترام العقل وإعماله،قال الله تعالى: {إِنَّفِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِلآَيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ، الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًاوَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُون َ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِوَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلا سُبْحَانَكَ فَقِنَاعَذَابَ النَّارِ} [آل عمران: 190ـ191].
إن هذه الآيات وما بعدها هي النهج الكامل للتأمل الإسلامي في ملكوت الله تعالى، والتي تورث الفتاة قوة الإيمان حتى تصل بها إلى درجة اليقين، وتفتح لها باب الدعاء رغبًا ورهبًا، وتنشط بالتفكر والتدبر مواهب عقلها الواعد الصغير.
- تدريب الفتاة على قبول الأفكار مادامت مقترنة بالدليل الصحيح، وطرح ما سواها، خصوصًا ما يتعلق بالخرافات والدجل، فلقد بنى الإسلام نهجه في التربية العقلية على تحرير العقل البشري من الخرافة, والظن، والتخمين، وأبدلها بالتَّبصُّر، والتعقُّل، والاستدلال الصحيح؛ وقد أثبت البحث الميداني أن أكثر الفئات علمًا وتحصيلًا دراسيًا : هم أقل الفئات إيمانًا بالخرافات والأوهام، فالعلم الصحيح الموافق. للشرع، والتفكير الناضج المبني على النظر السليم: دائمًا منجاة من الانحرافات العقلية، والضلالات الفكرية [د.عدنان باحارث، ملف التربية العقلية للفتاة/موقع د.عدنان باحارث للتربية الإسلامية].


- تربية الفتاة على تعظيم الوحي، وعدم إخضاع كل الأمور الدينية وغيرها على حدٍ سواء للقياس العقلي؛ فهذا التوجه عادة ما يفضي إلى الشك والتردد، فليس كل المسائل يمكن إخضاعها للعقل البشري, بحيث تكون القناعة العقلية شرطًا للاعتقاد والعمل: فهذا فساد في الفكر، وضيق في الأفق؛ بل الأصل في المفهوم الإسلامي هو الخضوع لما ثبت عن الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، دون إلغاء لوظيفة العقل في الفهم والإدراك، وليس في الرفض أو القبول : فإن الوحي لم يقدِّم ما جاء به من أصول العقيدة أخبارًا مجردة ؛ بل قرنها بالأدلة العقلية المستقيمة؛ وذلك لترسيخ الاعتقاد, فلا بأس من استخدام القناعات العقلية، والأدلة المنطقية بعد الإيمان القلبي المعتمد على النصوص الشرعية القاطعة والثابتة، فتحصل بهما معًا القناعة الكاملة التامة




.
- توجيه طاقة الفتاة العقلية إلى النظر في سنن الله في خلقه، واطلاع الفتاة على هذه السنن الإلهية يتيح لعقلها التعرف على التاريخ وما فيه ومن فيه، من خلال استعراض القصص القرآني، وقراءة التاريخ بعد ذلك على ضوء السنن التي يقدمها لنا القرآن الكريم، مما ينمي لديها الإحساس بتلك السنن؛ فتحسن التعامل مع حاضرها، وتحسن التوجه إلى مستقبلها، كما أنها لا تنخدع بما قد تري عليه أهل الباطل من سلطة وسطوة في تحدي الحق وأهله، وألا تستعجل النتائج، فهي لابد آتية حسب السنة الماضية التي لا تتبدل [حنان عطية الطوري، الدور التربوي للوالدين في تنشئة الفتاة، ص:154].
- تحرير عقل الفتاة من التبعية والتقليد الأعمى، وخصوصًا في أمور الإيمان والعقيدة، وبيان أن الله تعالى قد ذمّ في القرآن الكريم من فعل ذلك، قال تعالى: {وإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْـزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَاأَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ} [البقرة: 170].


- تنمية ثقافة الفتاة، وتدعيم ملكة القراءة لديها، وتوفير الوسائل المعينة لها بقدر المستطاع، ولا بأس بتشجيعها على مناقشة ما تقرأه، فإن ذلك يثبت لديها المعلومات، ويفيد السامع، ويصقل لسانها، ويدربها على العرض والمناظرة العلمية الرصينة.
وأخيرًا عزيزي المربي
إن مفردات التربية العقلية للفتاة في التصور الإسلامي ينطلق بفكرها إلى أفق أوسع وأرحب بكثير من مجرَّد التفافها حول ذاتها – كما هو الحال في مرحلة المراهقة- ، بحيث يستوعب الإنسان في انطلاقته الفكرية كل متغيرات الحياة الدنيا التي يمكن أن يصل إليها جهده العقلي، كما يستوعب بخياله العقلي كل ما ثبت بالوحي خبرُهُ من الحياة الآخرة، فلا يبقى للذات القاصرة الفانية موقع تتضخَّم فيه ضمن هذين المجالين الواسعين للانطلاقة العقلية [د.خليل السحدري: منهجية التفكير العلمي في القرآن الكريم وتطبيقاتها التربوية،ص:62].
وبهذا الإعداد العقلي التربوي لبناتنا الحبيبات نكون في الواقع قد وضعنا الأساس المتين لبناء عقول الأجيال القادمة بشكل صحيح يتناسب مع شرف العقل ورسالته التي كلفه الله تعالى بها.


ـــــــــــــــ ـ
المراجع:
- منهجية التفكير العلمي في القرآن الكريم وتطبيقاتها التربوية: د.خليل السحدري.
- التربية بالآيات: د.عبد الرحمن النحلاوي.
- موقع د.عدنان حسن با حارث للتربية الإسلامية/شبكة الانترنت.
- دور الوالدين في تنشئة الفتاة المسلمة: حنان عطية الطوري.