مظاهر النقد الأدبي وخصائصه في العصر الجاهلي
رخسار أحمد[1]


سار النقد الأدبي في العصر الجاهلي مع الشعر ولم يتأخر عنه كثيرًا، وكان النقد عبارة عن تمييز الجيد من الرديء، ثم انتقل من هذا المعنى اللغوي إلى المعنى الاصطلاحي، وهو تمييز الجيد في الكلام من رديئه، وسار في ثلاثة اتجاهات؛ منها: النقد اللغوي، ونقد المعنى والأسلوب، والنقد العروضي.
النقد اللغوي:
وجد العربي الفطرة السليمة، وأحاط بها إحاطة تامة في أسرار اللغة العربية، ولهذا أدرك الدلالة الوضعية لكلماتها، فإذا خرج الشاعر عن تلك الدلالة، واستخدم كلمة في غير ما وضعت له دون الإشارة إلى العلاقة بين الأصلى والمعنى الجديد للكلمة، وحاول إلى إصلاح هذه الكلمة كما فعل طرفة بن العبد مع الشاعر المسيب بن علس أو المتلمس، وذلك حينما وصف الجمل بـ ((الصيعرية)) التي هي من سمات الناقة فقط، فحاول طرفة بن العبد أن يعيد ذلك الشاعر إلى الصواب، فقال: ((استنوق الجمل))، بعد أن علم الخطأ بفطرته اللغوية السليمة بأن تلك الصفة وضعت للناقة لا للجمل[2].
واستعمل الأعشى كلمة ((الطحال)) في مقام المحبة والعشق، فأخذ عليه النقاد؛ لأن الشعراء لم يستعملوا هذه الكلمة في هذا المعنى، ولكن استعملوا على مكانها القلب والفؤاد والكبد، ولهذا عاب النقاد ما استعمله الأعشى ولم يستعمله شاعر قبله[3].
وهذان المثالان المذكوران يدلان على أن النقد جاء في استعمال اللغة في كلمة غير ما وضعت له، وأن العربي كان ينقد بفطرته اللغوية السليمة والأصلية وبخاصة الشعراء.
نقد المعنى والأسلوب:
لاحظ النقاد في العصر الجاهلي أن اللغة التي وضعت للتعبير عن أحاسيسه وأفكاره وذاته ومشاعره، وتسجيل قِيمه ومُثله، وتصوير البيئة والطبيعة من حوله، فإذا وافقت لغة الشاعر أو الأديب موافقة سليمة، رضِي عن ذلك، وحسن بما يقوله الأديب أو الشاعر، وإذا لم توافق لغة الأديب أو الشاعر المعنى الذي يعبر عنه موافقة سليمة، استهجنوا عليه وأظهروا سخطهم عليها، وتتمثل هذه الملاحظات في النقاط الآتية:
1- النظر في المبالغة ومطابقتها بفطرتهم السليمة.
2- المطابقة بين اللفظ والمعنى، والربط بينها وبين ما تدل عليه.
3- وضوح المعنى أو الفكرة.
4- المقارنة بين شعر وشعر آخر، ومحاولة الحكم لأحدهما على الآخر.
النظر في المبالغة ومطابقتها بفطرتهم السليمة:
وجه النقاد انتقاداتهم في العصر الجاهلي إلى المبالغات الغريبة التي لا تلائم الطبع العربي السليم، ولا تستريح النفس العربي إليها، وقبلوا المبالغة في ميدان المدح والجود والكرم الذي تسكن به نفوسهم؛ كما جاء في بيت عنترة بن شداد وذلك عندما كان يتغزل بعبلة:
وإذا سكرت فإنني مستهلك
مالي وعرضي وافر لم يكلم
وإذا صحوت فما أقصر عن ندى
وكما علمت شمائلي وتكرمي[4]
ومن نموذج المبالغة المقبولة بيت أوس بن حجر في وصف السحاب الكثيف:
دان مسف فويق الأرض هيدبه *** يكاد يدفعه من قام بالراح
فلم يخرج هذا البيت المذكور من دائرة المبالغة المقبولة الذي سوغ لهم قبولها هنا، وهي كلمة كاد التي جعلت المبالغة المحبوبة إلى النفس العربي[5].
وعندما وقع الأديب أو الشاعر في المبالغة الشديدة في تصوير العواطف، ووصف المشاعر والأحاسيس، لم يقبلوها ولم يصدقوا هذه المبالغة غير المألوفة؛ نحو قول ابن ربيعة وهو يصف حدة سيفه وقوة تأثيره على دروع الأعداء:
فلولا الريح أسمع من بحجر *** صليل البيض تقرع بالذكور
وعلقوا على هذا البيت بقولهم: "إنه أكذب بيت قالته العرب"[6]، فكيف يسمع من في حجر صليل السيوف وبينه وبين مكان المعركة مسيرة عشرة أيام قليلة أو أكثر، وعلى الرغم هناك كثير من الشعراء الذين استخدموا هذا القسم من المبالغة في أشعارهم؛ من أمثال: النابغة وامرئ القيس وعنترة والأعشى، والحطيئة والمرقش الأكبر، وغيرهم.
الملاءمة بين الألفاظ والمعاني:
ويظهر ذلك فيما روي عن النابغة في نقده لشعر حسان بن ثابت، وذلك عندما أنشده:
لنا الجفنات الغر يلمعن بالضحى
وأسيافنا يقطرن من نجدة دمَا
ولدنا بني العنقاء وابني محرق
فأكرم بنا خالا وأكرم بنا ابنما
فقال له النابغة: أنت شاعر، ولكنك قللت جفانك وأسيافك، وفخرت بمن ولدت ولم تفخر بمن ولدك، فهذا النقد للمبالغة يأتي تحت نقد المعنى؛ لأن المقام كان مقام فخر، وكانت المبالغة مطلوبة، ولكنه فخر بأولاده ولم يفخر بأجداده.
ثم جاء الشعراء الآخرون بعده، وأنشدوا ثم جاءت الخنساء، فأنشدته القصيدة في رثاء أخيها صخر:
قذى بعينك أم بالعين عوار *** أم أقفرت مذ خلت من أهلها الدار
فقال لها النابغة: لولا أن أبا بصير أندني آنفًا، لقلت: إنك أشعر من بالسوق، فغضب حسان وقال له: والله لأنا أشعر منك ومن أبيك ومن جدك، فقبض النابغة على يده، ثم قال له: يابن أخي، إنك لا تحسن أن تقول مثل قولي:
فإنك كالليل الذي هو مدركي *** وإن خلت أن المنتأى منك واسع[7]
الموازنة بين الشعراء:
ويتمثل ذلك فيما رُوي عن قصة امرئ القيس وعلقمة الفحل واحتكامها إلى "أم جندب"، وما كان منها عندما ذهبت توازن بين ما قرضاه من شعر، ثم حكمت بينهما، وفضلت علقمة على امرئ القيس، كما أنهم اهتموا بالمعلقات، وفضَّلوها على غيرها من القصائد، واختاروها لتعليقها في قصورهم.
النظر في جودة الشعر: من حيث وضوح معناه، وظهور فكرته من غير لبس أو غموض، وقد جاء ذلك في صورة بعض الأحكام العامة التي قيلت في شعر بعض الشعراء؛ من حيث أداؤه لوظيفته الجمالية، مراعاة لما فطرت عليه الطبيعة العربية من شعور بالجودة والجمال، وذلك نحو في قول أحيحة بن الحلاج لناقته عندما كره من الشماخ أن يقابل الإحساس بالإساءة بعد أن أوصلته إلى الممدوح، وحقَّقت مطلبه في الوقوف بين يديه:
إذا بلغتني وحملت رحلي *** عرابة فاشرقي بدم الوتين
فقال أحيحة له معترضًا على ذلك التنكر والتعسف الذي أبداه الشاعر تجاه ناقته: "بئس المجازاة جزيتها"، وهو نقد مستمد من الفطرة العربية السليمة التي تستنكر أن يقابل الإحسان بالإساءة، والكتب مليئة بنماذج من أمثالها.
النقد العروضي أو التناسق في الغنم:
ارتبط الشعر العربي بأنغام موسيقية مؤتلفة أخذها العربي من وحدة الإيقاع أحسها، وهو يحدو بعيره، وألفها هذه النغمات التي استوت وتطورت بتطوُّر الشعر وانتقاله من مرحلة إلى مرحلة، فاعتادها الشعراء الموهوبون الذين قرضوا أبياتهم على طريق وحدة الوزن والقافية من طبع أصيل، وإذا خرج الشاعر عن هذه النغمة المعروفة والمؤتلفة لم تسترح الأذن لهذه النغمة غير المؤتلفة.
وقد عرف النقاد في الجاهلية إلى بعض العيوب التي وردت في أبيات بعض شعرائهم؛ حيث أخذوا على امرئ القيس ما وقع فيه من إقواء وذلك عندما قال:
من آل مية رائح أو مغتدي
عجلان ذا زاد وغير مزود
زعم البوارج أن رحلتنا غدًا
وبذاك خبرنا الغراب الأسود
اختلفت حركة الدال في البيت الأول والثاني بين الكسر والضم، وعندما قدم المدينة عابوا عليه ذلك الخطأ؛ مما جعله يراجع نفسه.
من خلال ما ذكر من النماذج النقدية في العصر الجاهلي، نستطيع أن نقول أن النقد الأدبي في العصر الجاهلي اتسمت بالتعميم في الأحكام والذوق الفطري، والارتجال في الأحكام والإيجاز والتركيز، واكتفى النقاد في الأحكام النقدية بالإشارة عن العبارة وبالتلميح عن التصريح، وما جاء على شاكلتها.
--------------
[1] الباحث في قسم اللغة العربية وآدابها بجامعة الإسلامية عليكره.
[2] تاريخ النقد الأدبي عند العرب، د. طه أحمد إبراهيم ص20.
[3] الشعر والشعراء، ص183.
[4] ديوان عنترة، ط. الهيئة العامة للكتاب، ص196.
[5] الأعاني لأبي الفرج الاصفهاني، دار الشعب، جـ10، ص3857،
[6] المصدر السابق.
[7] الأغاني ج11، ص3792.


رابط الموضوع: https://www.alukah.net/literature_la...#ixzz6c9TalOEG