اليهودية ديانة قومية أم تبشيرية؟
د. الحسين بودميع
تأسس الخطاب الصهيوني على مفاهيم دينية استلها من أسيقتها في الأسفار التوراتية روادُ الحركة الصهيونية ومؤسسوها ليوظفوها - برغم إلحادهم الذي لا يخفونه - في إقناع الرأي العام اليهودي والغربي بـ«عدالة» المطالب الصهيونية، وأبرز تلك المفاهيم: مفهوما «أرض الميعاد» و«الشعب المختار»، فهما اللحمة والسدى للفكرة الصهيونية؛ لهذا قال «ناثان فانستوك» في كتابه «الصهيونية ضد إسرائيل»: «جرب أن تحذف مفاهيم (الشعب المختار) و(الأرض الموعودة) [من الخطاب الصهيوني] فسرعان ما ينهار أساس الصهيونية»[1].
فالمتتبع لتصريحات الصهاينة سيلحظ أنهم لا يملون من ترديد الادعاء بأن «أرض الميعاد»، وهي فلسطين وما حولها هي أرض «أجدادهم»، «التي يزعمون أن الله الذي لا يؤمنون به منحهم إياها»[2]، حين وعد كلًّا من إبراهيم وإسحاق ويعقوب - كما يقول سفر التكوين - بقوله: «لَكَ وَلِنَسْلِكَ أُعْطِي هَذِهِ الأَرْضَ»[3].
ولكي يمهدوا الطريق لترويج الادعاء بأن الوعود والنبوءات التوراتية المتعلقة بالأرض الفلسطينية تنطبق على يهود العصر الحالي، وأن هجرة اليهود إلى فلسطين، وإقامة الكيان الصهيوني تحقيق لتلك النبوءات كان لا بد من التركيز على مفهوم «الشعب المختار» للترويج لأسطورة «الشعب اليهودي»، التي تُوهِم بأن اليهود أينما كانوا جماعة بشرية تتشعب من سلالة عرقية واحدة، وهي سلالة إسرائيل، وأنهم جميعًا من ذرية الذين تم «إجلاؤهم» من فلسطين، لأنه بدون ذلك سينهار بنيانهم الذي بنوه على الوعود التوراتية، التي تعطي الأرض لنسل إسرائيل: «لِنَسْلِكَ أُعْطِي هَذِهِ الأَرْضَ»، وهذا ما يفسر الحضور الكثيف لمصطلح «الشعب اليهودي» في الخطاب الصهيوني.
ومن أجل تمرير فكرة وحدة اليهود عرقيًّا، التي يوحي بها مفهوم «الشعب المختار»، وأسطورة «الشعب اليهودي»، والتي تنسفها تلقائيًّا حقيقة تبشير اليهود بدينهم؛ كان لا بد من تأميم الديانة اليهودية وادعاء أنها لم تكن ديانة تبشيرية، وأنها ظلت ديانة قومية ترفض استقبال أي وافد من خارج السلالة الإسرائيلية، فعملت الصهيونية على الترويج لهذه الفكرة حتى غدت قناعة راسخة لدى الكثير، وأصبحنا نسمع غير واحد من الأكاديميين يردد مع الصهيونية دون تبين أن اليهودية ديانة قومية منغلقة، فشاع الاعتقاد بأن الانتماء الديني لليهودية يعني بالضرورة الانتماء العرقي لبني إسرائيل.
وكان الوصول بالناس إلى هذه النتيجة أمرًا ضروريًّا للصهيونية، حتى تقنع الرأي العام بأن الوعود التوراتية التي تعطي «أرض الميعاد» لنسل إسرائيل (يعقوب) صك إلهي بتمليك كل يهود العالم أرض فلسطين.
فهل اليهودية ديانة قومية حقًّا؟ أم أنها ديانة تبشيرية ككل الأديان؟ ما مستند القول بأنها ديانة قومية؟ وما الدليل على أن اليهود مارسوا التبشير بدينهم؟ وما دلالة كون اليهودية ديانة تبشيرية؟
أولًا: معنى«الديانةالق ومية»و«الديانةا لتبشيرية»:
الديانة القومية:
الأصل في معنى «القوم»: الجماعة من الرجال والنساء، وقَوْمُ كل رجل شِيعته وعشيرته[4]، وربما سميت عشيرة الرجل بالقوم، لأن قوام عيشه لا يكون إلا بالانضمام إليها. ونسبة الديانة إلى القوم في عبارة «الديانة القومية» يقصد بها وصفها باختصاص قوم بها دون سواهم، فالديانة القومية يراد بها: الديانة التي تخص جماعة عرقية ولا تقبل دخول أحد من بقية الأعراق فيها، فهي ديانة منغلقة غير منفتحة على غير أهلها الأصليين. ويقابلها عكسيًّا:
الديانة التبشيرية:
والتبشير: في أصل وضعه اللغوي: «الإخبار بما يظهر أثره على البشرة، وهي ظاهر الجلد؛ لتغيرها بأول خبر يرد عليك»[5]، ثم غلب استعماله في الإخبار بما يسر.
وقد ذاع مفهوم «التبشير» لدى المسيحيين، ويقصدون به نشر بشارة الإنجيل في العالم، وهو الترجمة الحرفية للفظ «الكرازة» ذي الأصل اليوناني المأخوذ من الفعل «كيريزو» kerysso أي: يعلن وينادي جهارًا. وتعني الكرازة: «المناداة برسالة الإنجيل في غير العالم المسيحي؛ أي تبليغ رسالة المسيح لغير المسيحيين»[6]. وهو المصطلح الذي يعبر به كاتبو الأناجيل لدى الحديث عن التبشير برسالة الإنجيل؛ كما في هذين النصين: «وَيُكْرَزُ بِبِشَارَةِ الْمَلَكُوتِ هَذِهِ فِي كُلِّ الْمَسْكُونَةِ»[7]، «يَنْبَغِي أَنْ يُكْرَزَ أَوَّلًا بِالإنْجِيلِ فِي جَمِيعِ الأُمَمِ»[8].
والديانة التبشيرية هي التي تنفتح على كل الأعراق، ولا تمانع دخول كل راض باتخاذها دينًا في كنفها أيًّا كان جنسه ولونه ووطنه، بل تحث المقتنع بها على دعوة غيره لاعتناقها. وهو شأن الإسلام والمسيحية.
أما اليهودية فقد شاع أنها ديانة قومية منغلقة لا ترحب بغير الإسرائيليين أتباعًا، وأن اليهود ظلوا عبر تاريخهم محافظين على نقائهم العرقي، ولم يكونوا يبشرون غيرهم بدينهم، وهو ادعاء أشاعته الصهيونية ومؤسساتها الإعلامية والبحثية للغرض المتقدم.
وقد كان كل رصيد هذا الرأي لإثبات نفسه تزييف تاريخ الجماعات اليهودية بادعاء أن جميع أعضائها أينما كانوا منحدرون من سلالة المنفيين من يهودا في أعقاب الاجتياحين الآشوري والبابلي، ثم الاضطهاد الروماني، وعزو التواجد المكثف لليهود في أنحاء العالم دائمًا إلى النفي والتشتت والهجرة والنمو الديموغرافي الطبيعي، واستخدام بعض النصوص التناخية الصارمة في إيجاب الحفاظ على نقاوة «النسل المقدس» للشعب المختار، وتوظيف البحث «العلمي» في مجال الدراسات الأنثروبولوجية لترسيخ الوهم بوحدة اليهود عرقيًّا.
وهذه الدراسة تتطلع إلى بيان خطأ هذا الرأي، وإثبات أن الديانة اليهودية شأنها شأن غيرها من الديانات في التبشير بمعتقداتها بين كل الشعوب.
ثانيًا: أدلةتبشيريةالدي انةاليهودية:
الديانة اليهودية - على خلاف ما هو رائج - كغيرها من الديانات لا تمانع دخول غير أتباعها الأصليين (الإسرائيليون) إليها، يقول الحاخام حاييم ناحوم (حاخام اليهود في مصر): «اليهودية دين يمكن أن يؤمن بها الفرنسي، والإيطالي، والمصري، وأي إنسان؛ فهي ليست قومية، وإنما هي دين، والدين لله والولاء للوطن»[9].
ولم يكن اليهود - مثلهم مثل غيرهم - يخفون رغبتهم في استقطاب غيرهم إلى دينهم؛ فقد مارسوا التبشير في مختلف مراحل تاريخهم؛ وهذا ما سجلته أسفارهم، ونصت عليه المصادر المسيحية والإسلامية، وأكده المؤرخون والعلماء الأنثروبولوجيون منهم ومن غيرهم، ويمكن الاستدلال لهذه الفرضية من ثلاث نواح:
الدليل الديني:
يستند الاستدلال الديني على تبشيرية اليهودية إلى نصوص دينية في الكتاب «المقدس» بعهديه، وفي التلمود، والقرآن؛ تدل بوضوح على أن رسالة موسى لم تكن خاصة بسلالة بني إسرائيل، وأن اليهود مارسوا التبشير بنشاط إلى دينهم:
أ- ففي العهد القديم نجد قصصًا لبعض من آمن باليهودية من غير بني إسرائيل رغبة أو رهبة، فحينما كان يهود بني إسرائيل أسرى بأرض بابل كان أن عظُم شأنهم في عهد ملك فارس أحشورش - كما يحكي سفر أستير - حتى أشركوا في الملك، بسبب زواج الملك من المرأة اليهودية «أستير» وافتتانه بجمالها، مما مكنها من التأثير في قراراته، وهي ابنة عم مردخاي أحد خدام البلاط الملكي الذي أصبح محل الوزير الأول لدى أحشورش (هامان بن همداتا الأتاجي) بعد أن أعدم بتدبير من مردخاي وأستير، وبلغ من قوة نفوذهم أن أطلق الملك أيديهم لينتقموا من كل من اضطهدهم؛ فـ«كَانَ لِلْيَهُودِ نُـورٌ وَفَرَحٌ..، وَصَارَ كَثيرٌ مِنْ شُعُوب تِلْكَ الأَرْضِ يَهُودًا؛ لأَنَّ خَوْفَ الْيَهُودِ وَقَعَ عَلَيْهِمْ»[10].
ويحكي سفر دانيال من أمر ملك بابل (داريوس بن أحشورش الميدي) أنه شهر إيمانه، تأثرًا بمعجزات النبي دانيال، إذ ألقي مع الأسود في جُبها، فلم يمسسه منها سوء، ووجَّه هذا الأمر إلى رعاياه: «مِنْ قِبَلِي صَدَرَ أَمْرٌ بِأَنَّهُ فِي كُلِّ سُلْطَانِ مَمْلَكَتِي يَرْتَعِدُونَ وَيَخَافُونَ [أي ليرتعدوا وليخافوا] قُدَّامَ إِلَهِ دَانِيالَ، لأَنَّهُ هُوَ الإِلَهُ الْحَيُّ الْقَيُّومُ إِلَى الأَبَدِ، وَمَلَكُوتُهُ لَنْ يَزُولَ وَسُلْطَانُهُ إِلَى الْمُنْتَهَى، هُوَ يُنَجِّي وَيُنْقِذُ وَيَعْمَلُ الآيَاتِ وَالْعَجَائِبَ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ، هُوَ الَّذِي نَجَّى دَانِيالَ مِنْ يَدِ الأُسُود»[11].
فهذا الأمر الملكي وإن كان لا يحمل طابع الإلزام باتباع دانيال، لا بد أن يحدث أثره في الناس، ويوجههم إلى الإعجاب به واتباع دينه.
و«في كتابات أشعيا الثاني، وسفر روث، وسفر يونان، وسفر يهوديت الخارجي نصادف مرارًا دعوات مباشرة وغير مباشرة تسعى إلى اجتذاب الأغيار إلى اليهودية، بل وإقناع العالم قاطبة بقبول (شريعة موسى)»[12].
ب- ويحذر التلمود من خطر التهويد على جماعة إسرائيل في قول أحد الحاخامات التلموديين، وهو الحاخام «حليفو»: «المتهودون أخطر على إسرائيل من الجرب»[13]، ومع أن هذا النص يوحي بأن بعض الحاخامات كانوا يميلون إلى منع التبشير باليهودية حفاظًا على نقاوة السلالة الإسرائيلية فإنه دليل في الوقت ذاته على أن التهود حاصل في زمان «حليفو» بمستوى ينذر بما يراه خطر اجتياح المتهودين من «الأغيار» للجماعة الإسرائيلية. إضافة إلى أنه رأي شخصي «لا يعكس بأي شكل من الأشكال موقف التلمود تجاه التهويد والمتهودين، إذ يمكن أن تطرح في مقابله أقوال الحاخام أليعازار التي لا تقل جزمًا، والتي قيلت كما يبدو قبل ذلك، والتي جاء فيها: (لم ينف المقدس تبارك إسرائيل بين الأمم إلا لكي ينضم إليها متهودون)»[14].
ج- وكان مما أنكره المسيح - بحسب العهد الجديد - على اليهود أنهم ينشطون في دعوة الناس إلى دينهم، وهم غير متمسكين به، فإن دخل المدعو في الدين دخل فيه على طريقتهم فاستحق النار: «وَيْلٌ لَكُمْ أَيُّهَا الْكَتَبَةُ وَالْفَرِّيسِيّ ُونَ[15] الْمُرَاؤُونَ؛ لأَنَّكُمْ تَطُوفُونَ الْبَحْرَ وَالْبَرَّ لِتَكْسَبُوا دَخِيلًا[16] وَاحِدًا، وَمَتَى حَصَلَ تَصْنَعُونَهُ ابْنًا لِجَهَنَّمَ أَكْثَرَ مِنْكُمْ»[17]. فهذا - إن صح - صريح في أن اليهود يبشرون وبحماس بدينهم.
د- ويقص القرآن من أمر موسى أنه توجه بدعوته إلى فرعون، ودعاه إلى دينه، وقال: {هَللَّكَإلَىأَن تَزَكَّى صلى الله عليه وسلم18 وَأَهْدِيَكَإلَ ىرَبِّكَفَتَخْش َى} [النازعات: 18،19]، وأنه بعد انتصاره الباهر في المغالبة التي جرت بينه وبين سحرة فرعون اقتنع السحرة بصدق نبوته وصحة دينه؛ فـ{قَالُواآمَنَّاب ِرَبِّهَرُونَوَ مُوسَى} [طه: 70]؛ وما كان فرعون ولا سحرته من بني إسرائيل.
ومن حرص اليهود - مثل النصارى - على أن يتبع الناس ملتهم أن قال عنهم القرآن: {وَلَنتَرْضَىعَن كَالْيَهُودُوَل االنَّصَارَى حَتَّىتَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة: ٠٢١]، وادعاؤهم أن المهدي من اتبع دينهم: {وَقَالُواكُونُو اهُودًاأَوْنَصَ ارَىتَهْتَدُوا} [البقرة: 135]؛ فكل هذا مما ينفي كون اليهودية ديانة قومية لا تبشيرية.
الدليل التاريخي:
ويستند إلى ما سجله الواقع التاريخي لليهود في كل أماكن تواجدهم من ممارسة التبشير بدينهم في أوساط الشعوب الأخرى، وهي حقيقة تاريخية أكدها غير واحد من العلماء والمؤرخين.
فقد عد المؤرخ والعالم البريطاني اليهودي «آرثر كيستلر» من الدلائل التاريخية الشاهدة «على حماس يهود العصور القديمة للتبشير بديانتهم: أن اعتنقها فلاشا الحبشة ذوو البشرة السوداء، ويهود كاي فنج الصينيون.. واليهود اليمنيون و.. الخزر؛ وفي بلاد أقرب من تلك وصل التبشير اليهودي ذروته في عصر الإمبراطورية الرومانية»[18].
وفي دائرة المعارف البريطانية: «لقد نشط اليهود إلى التبشير باليهودية بين مختلف الشعوب عندما رأوا الوثنية قوية النفوذ منتشرة في العالم، والكُتاب القدماء اليونان والرومان يشهدون بقوة النشاط التبشيري الذي قام به اليهود، وكيف تم نشر اليهودية في أواسط وغرب آسيا؛ أصل يهود العالم اليوم»[19].
ويحكي مارتن لوثر واقعة ذات مغزى فيما نحن بصدده حصلت معه شخصيًّا؛ ويتعلق الأمر فيها بنفر من اليهود أتوه وحاولوا تهويده؛ فقال: «قصدني ثلاثة من أحبار اليهود علماء في الناموس الموسوي، يحدوهم الأمل أن يجدوا فيَّ يهوديًّا جديدًا يضاف إلى قافلتهم»[20]، ويقول لأتباعه: «اعلم يا عزيزي المسيحي أنه ليس بعد الشيطان عدو أكثر سمًّا من اليهودي المحض، الذي يجهد أن يراك قد تهودت واتبعته»[21]، ومغزى ما حكاه وقاله لوثر أن اليهود كانوا يجتهدون في دعوة نصارى الغرب إلى اليهودية حتى في عز اليقظة المسيحية التي عرفتها أوربا في القرن السادس عشر إبان ما سمي الإصلاح الديني، حين ثار المحتجون (البروتستانت) على الكنيسة التقليدية.
ومن أدق من برهن على حصول التبشير باليهودية تاريخيًّا البروفسور شلومو ساند أستاذ التاريخ المعاصر في جامعة تل أبيب، في كتابه: «اختراع الشعب اليهودي»؛ منطلقًا من أن العقائد التوحيدية - خلافًا للعقائد الوثنية التي تقبل بتعدد الآلهة - تحث المؤمنين بها دومًا على نشر مبدأ الوحدانية بين الوثنيين، «ولم تكن الديانة اليهودية.. شاذة.. عن هذه القاعدة»[22]؛ ومن الإثباتات التي استند إليها:
أن وثائق من المدينة السومرية (نيبور) التي تعود إلى الحقبة الفارسية وتتضمن أسماء البابليين وجد فيها أن جزءًا كبيرًا مما تضمنته من أسماء الآباء أسماء بابلية اعتيادية، بينما أسماء أولادهم أسماء عبرية صرفة، ومثلها وثائق من ورق البردي اكتشفت في جزيرة إلفانتين تتضمن أسماء مصريين قدماء؛ وكانت فيها أسماء الآباء مصرية فيما أسماء الأبناء عبرية؛ ودلالة ذلك أن عملية تهويد تمت وسط هؤلاء حملتهم على تغيير ديانتهم الوثنية إلى اليهودية، لأن المهاجرين اليهود إلى بابل ومصر لم يكونوا يحملون أسماء بابلية أو مصرية مما يعني أن هؤلاء الآباء تهودوا واختاروا لأبنائهم أسماء تتفق مع هويتهم الجديدة[23].
النتائج العلمية التي توصل إليها بعض الباحثين الأكاديميين في تاريخ الجماعات اليهودية؛ مثل الباحث «الإسرائيلي» (أوريئيل رابورت) في أطروحته للدكتوراه: «الدعاية الدينية اليهودية وحركة التهويد في فترة الهيكل الثاني» التي حاول فيها توجيه الأنظار إلى حركة التهويد الواسعة التي مارسها اليهود في هذه الفترة، وتوصل فيها إلى أن «تعاظم اليهودية في العالم القديم لا يمكن تفسيره - بسبب حجمه الهائل - بواسطة النمو السكاني الطبيعي عن طريق الهجرة من أرض الوطن، أو من خلال أي تفسير آخر لا يأخذ في الحسبان حركة الالتحاق بها من الخارج»[24]. ومثل ما أكده البروفسور «تيودور مومزن» في دراسة له اعتمادًا على باحثين متخصصين في التاريخ القديم من أن «اليهودية في العصر القديم لم تكن بتاتًا منغلقة أو منعزلة، على العكس فقد كان يملؤها الحماس للتهويد بدرجة لا تقل عن المسيحية والإسلام من بعدها»[25].
نصوص تاريخية تحكي حماس الحشمونيين في فرض اليهودية على جيرانهم؛ وقصص أخرى للتهويد القسري والطوعي في أوساط مختلف الطبقات المجتمعية للشعوب المجاورة وغيرها؛ منها ما اقتبسه من المؤرخ اليهودي يوسيفوس في كتابه «تاريخ اليهود» أن «يوحنان هوركنوس» استولى عام 125 قبل الميلاد على بلاد أدوم[26] «وتغلب على كل الأدوميين، لكنه سمح لهم بالبقاء في البلاد إذا ما تختنوا ورضوا بتطبيق تعاليم وأحكام اليهودية... ومنذ ذلك الوقت صار هؤلاء يهودًا»[27]. وقد سار ابن هوركنوس (يهودا أرسطو بولس) على خطى أبيه في سياسة التهويد القسري لغير اليهود، حيث «قام سنة 104 [ق.م] بضم منطقة الجليل إلى مملكة يهودا وفرض العقيدة اليهودية على اليطوريم الذين قطنوا وعمروا وقتئذ المنطقة الشمالية بأكملها»[28]. ومنها قصة تهود أمراء المملكة الحديبية القائمة شمال الهلال الخصيب على يد مبشرين وتجار يهود[29].
ومن نتائج التبشير باليهودية - إضافة إلى عوامل أخرى - أن اعتنقها أفراد كثيرون، وشعوب من أجناس مختلفة؛ ومن اليهود غير الإسرائيليين:
اليهود الأمازيغ:
انتشار اليهودية بين الأمازيغ في عهود ما قبل الإسلام موضوع أثار اهتمام بعض الباحثين الغربيين، فأفردوه بالتأليف؛ كما فعل الكاتب الإسباني «أبراهام لاريدو» إذ كتب مؤلفه: «يهود البربر في المغرب».
وتعود بداية التواجد اليهودي في المغرب - على ما رجحه الدكتور عبد الرحمن بشير في كتابه «اليهود في المغرب العربي» - إلى أعقاب الجلاء الأول لليهود (سنة 586 ق.م) على يد البابليين؛ فقد كان المغرب من البلاد التي توجهوا إليها بعد الجلاء، ثم توالت هجراتهم إليه بتوالي النكبات عليهم في أماكن تواجدهم، ولكن «برغم استمرار الهجرة ظل عدد اليهود قليلًا في الشمال الإفريقي، ولم يجدوا من سبيل إلى زيادة هذا العدد سوى استمالة البربر إلى عقيدتهم... فبدؤوا عملية تهويد واسعة النطاق بينهم»[30].
وتحت عنوان: «المتهودون من البربر»، أورد الباحث عبد الرحمن بشير في كتابه سالف الذكر أسماء القبائل التي انتشرت اليهودية فيها، نقلًا عن ابن خلدون[31]، وابن أبي زرع[32]؛ وهي:
- نفوسة، في جنوب غرب طرابلس بليبيا.
- جراوة، في جبال الأوراس بتونس، وتعود أصولها إلى قبيلة زناتة.
- مديونة، بنواحي تلمسان.
- برغواطة ببلاد تامسنا؛ وهي الشاوية اليوم.
- فندلاوة، بنواحي صفرو، قرب فاس.
- بهلولة بضواحي فاس.
- غياتة في نواحي تازة، قرب فاس.
- زواغة وبني يزغت، الذين قطنوا منطقة فاس قبل تأسيسها[33].
- كما عمل اليهود على «تهويد بعض قبائل البتر»[34]؛ وهم بنو مادغيس الأبتر، وهم قبائل كثيرة منتشرة في أقطار المغرب، وأكبرها قبيلة نفوسة بجنوب غرب طرابلس[35].
فهؤلاء كلهم من أصول أمازيغية عريقة؛ تم تهويدهم من قبل المهاجرين اليهود.
اليهود العرب:
تحت عنوان «أديان العرب»، ذكر اليعقوبي أن العرب كانوا على بعض دين إبراهيم، حتى أدخل عليهم عمرو بن لحي الملة الوثنية، فاستقروا زمنًا على «هاتين الشريعتين.. ثم دخل قوم من العرب في دين اليهود، وفارقوا هذا الدين، ودخل آخرون في النصرانية، وتزندق منهم قوم..، فأما من تهود منهم فاليمن بأسرها..، وتهود قوم من الأوس والخزرج بعد خروجهم من اليمن، لمجاورتهم يهود خيبر وقريظة والنضير، وتهود قوم من بني الحارث بن كعب، وقوم من غسان، وقوم من جذام»[36].
وكان من نساء الأوس والخزرج ممن ابتلين بموت الأولاد مَنْ «تجعل على نفسها إن عاش لها ولد أن تهوده»[37]؛ وكانوا يجلون اليهود لفضلهم عليهم في العلم.
وقد اعترف الدكتور إسرائيل ولفنسون - مع حرصه على ادعاء الأصول الإسرائيلية لكل اليهود العرب بـ«أن الأغلبية المطلقة التي كونت أنصار هذا الدين الجديد [يقصد اليهودية] في اليمن كانت من سكان البلاد الأصليين»[38].
يتبع