أخرج الطبراني في "الأوسط" (5124) من طريق عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَائِشَةَ ، والبيهقي في "شعب الإيمان" (8639) من طريق يَحْيَى بْنُ أَبِي بُكَيْرٍ ، وأبو داود في "الزهد" (402) من طريق مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ ، ثلاثتهم (عبيد الله ، ويحيي ، وموسى) عن حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ الْبُنَانِيُّ، عَنْ أَبِي مَدِينَةَ الدَّارِمِيِّ، وَكَانَتْ لَهُ صُحْبَةٌ قَالَ: كَانَ الرَّجُلَانِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إِذَا الْتَقَيَا لَمْ يَفْتَرِقَا حَتَّى يَقْرَأَ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ: {وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} [العصر: 2] ، ثُمَّ يُسَلِّمَ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ» واللفظ للطبراني.
وقال الطبراني: "لَا يُرْوَى هَذَا الْحَدِيثُ عَنْ أَبِي مَدِينَةَ إِلَّا بِهَذَا الْإِسْنَادِ، تَفَرَّدَ بِهِ: حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ"
قلت: وهو كما قال ، فلا يوجد لهذا الحديث طريق أخري غير هذا الطريق الفرد الغريب.
أقوال العلماء في الحديث:
قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (233/10): رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ، وَرِجَالُهُ رِجَالُ الصَّحِيحِ.
وقال الذهبي في "تاريخ الإسلام" (1208/2): هَذَا حديثٌ غريبٌ جِدًّا وَرُوَاتُهُ مَشْهُورُونَ.
وصحّح إسناده الدَّمِيري في "حياة الحيوان" (55/1)
وقال الألباني في "السلسلة الصحيحة" (2648): وهذا إسناد صحيح، رجاله ثقات رجال مسلم غير محمد بن هشام المستملي، وهو أبو جعفر المروزي المعروف بابن أبي الدميك، مستملي الحسن بن عرفة، توفى سنة (289) ، ترجمه الخطيب (3 / 361 - 362) ووثقه. وقال الدارقطني: لا بأس به.
الاختلاف حول صحابي الحديث:
قال الطبراني عقب الحديث: "قَالَ عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ: «اسْمُ أَبِي مَدِينَةَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حِصْنٍ»"
ويبدو أن ما ذكره الطبراني عن علي بن المديني ، قد نقله باختصار مُخل ، فقد قال ابن عبد البر في "الاستغناء" (736/2): "قال على بن المدينى: "إسم أبى مدينة السدوسى الذى روى عنه قتادة عبد اللَّه بن حصن، وأبو مدينة صاحب ثابت غير هذا")
وقال الفسوي في "المعرفة والتاريخ" (67/3): "وَقَالُوا: حَيَّانُ اسْمُ أَبِي مَدِينَةَ الَّذِي رَوَى عَنْهُ ثَابِتٌ الْبُنَانِيُّ، زَعَمَ عَلِيٌّ أَنَّهُ غَيْرُ الَّذِي رَوَى عَنْهُ قَتَادَةُ."
وهذا يعني أن مذهب علي بن المديني هو التفريق بين أبي مدينة السدوسي الذي يروي عنه قتادة ، وبين أبي مدينة الدارمي الذي يروي عنه ثابت البناني ، وأن اسم أبي مدينة الدارمي هو حيان.
و عَبْد اللَّهِ بْن حصن، أَبُو مدينة الدارمي ، ترجم له ابن الأثير في "أسد الغابة" (216/3) ، وأخرج الحديث عن شيخه أبي موسى من طريق الطبراني ، ثم قال: (أخرجه أَبُو موسى وقال: أورد ابن منده وغيره أبا مدينة في الكنى في التابعين، وقال: يروي عن عبد الرحمن بْن عوف.).
وقال الحافظ ابن حجر في "الإصابة" (54/4) بعد أن ذكر الحديث من طريق الطبراني: (وفي التابعين أبو مدينة عبد اللَّه بن حصن الدّوسي ، يروى عن أبي موسى الأشعري حديثه في مسند الشافعيّ، ذكره البخاري، وابن أبي حاتم، وابن حبان، فإن كان الطبراني ضبط أن اسم الصحابي عبد اللَّه بن حصن ولم يلتبس عليه بهذا الشافعيّ [التابعي] فقد اتفقا في الاسم، واسم الأب والكنية، وافترقا في النسبة، وإلا فالاسم والكنية للتابعي. وأما الصحابي الدارميّ فلم يسمّ.) ، وقال نحوه في "تعجيل المنفعة" (733/1) ، وعلى هذا فإن ابن حجر يشكك فى مدى ضبط الطبراني لنسب الصحابي ، وأنه يُحتمل أنهما واحد وهو أبو مدينة السدوسي ، ويبدو أن هذا ما استقر لدي الحافظ ابن حجر ، فقد قال في "فتح الباري" (729/8): (لَمْ أَرَ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ السُّورَةِ حَدِيثًا مَرْفُوعًا صَحِيحًا) ، وهذا يعني أنه يري أن أبو مدينة هو التابعي السدوسي.
وهذا كذلك هو صنيع الذهبي ، فقد أورد الحديث في ترجمة أَبي مَدِينَةَ السَّدُوسِيُّ في "تاريخ الإسلام" (1208/2) وقال: (قِيلَ: لَهُ صُحْبَةٌ، وَلَمْ يَصِحَّ). ، على أن الذهبي ذكر أبو مدينة الدارمي في كتابه "تجريد أسماء الصحابة" (200/2) وذكر أن اسمه: عبد الله بن مضر ، وقال المحقق أن الصواب عبد الله بن حصن ، والظاهر أنه هذا تصحيف أو نحوه.
والذي أراه أن أبو مدينة المذكور في الحديث هو السدوسي التابعي وذلك لعدة أمور:
1-ما ذكرته عن الذهبي وابن حجر
2- أن من أورد أبو مدينة الدارمي في الصحابة ، اعتمد على قول الطبراني المذكور سالفا ، وهذا غير كاف في إثبات صحبته ، لاحتمال تطرق الوهم أو الخطأ إلى الطبراني ، وأنه خلط بينه وبين التابعي كما أشار إلى ذلك ابن حجر.
3- أنني لم اجد من أورد أبو مدينة في الصحابة غير ابن الأثير وابن حجر - مع تشكيكه في صحة ذلك كما سبق- والذهبي ، ولا يوجد له ذكر فى كتب تراجم الرجال أو كتب تراجم الصحابة الأخري.
4- أن الراوي هنا يروي فعل الصحابة ، وهذا يكون غالباً في التابعين
وعلى هذا فإن هذا الحديث يرويه أبو مدينة السدوسي التابعي ، وهو هنا يروي فعل الصحابة رضوان الله عليهم ، ولكنه انفرد بهذا النقل عنهم ، ومعلوم أن مثل هذا الأمر مما تتداعى النفوس إلى نقله ، ومعلوم أيضاً أن الصحابة لن يفعلوا مثل هذا الأمر إلا بإقرار من النبي لهم ، فإثبات هذه السنة وهذا الفعل من هذا الطريق الفرد الغريب فيه نظر.
كما أن التابعي قال عنه الحافظ ابن حجر: (ذَكره البُخَارِيّ وَ ابن أبي حَاتِم وَلم يذكرَا فِيهِ جرحا وَذكره بن حبَان فِي ثِقَات التَّابِعين فَقَالُوا السدُوسِي وكنوه أَبى مَدِينَة.)
فيمكن القول أنه مستور الحال ، ولكن لا يقبل تفرده بهذا الأثر.
الخلاف على حماد بن سلمة:
قال البيهقي عقب الحديث: وَرَوَاهُ غَيْرُهُ عَنْ حَمَّادٍ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَبْدِ الْغَافِرِ، قَالَ: كَانَ الرَّجُلَانِ: فَذَكَرَهُ
وتحرف عقبة إلى عتبة فى الطبعة القديمة فلم يعرفه الألباني ، وعقبة بن عبد الغافر ثقة من رجال الصحيحين ، ولكن البيهقي لم يذكر من الذي رواه عن حماد ، ولم أقف على احد رواه عن حماد بهذا الإسناد ، فعلى هذا يكون المحفوظ هو رواية الجماعة (عبيد الله ، ويحيي ، وموسى) ، لاسيما وجميعهم ثقات.