أهل العلم حريصون على ما ينفعهم في دينهم ودنياهم:
فقد أخرج البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: قيل: يا رسول الله، من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لقد ظننت يا أبا هريرة ألا يسألني عن هذا الحديث أحد أول منك، لما رأيت من حرصك على الحديث: أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة: من قال لا إله إلا الله خالصا من قلبه أو نفسه"[1].
أهل العلم ورثة الأنبياء:
فقد أخرج الإمام أحمد وأهل السنن وابن حبان عن كثير بن قيس، قال: كنت مع أبي الدرداء رضي الله عنه في مسجد دمشق، فجاء رجل، فقال: يا أبا الدرداء، إني جئتك من مدينة الرسول عليه السلام في حديث بلغني أنك تحدِّث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ما كانت لك حاجةٌ غيره؟ قال: لا، قال: ولا جئتَ لتجارة؟ قال: لا، قال: ولا جئت إلا فيه؟ قال: نعم، قال: فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا، سهل الله له طريقًا إلى الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضا بما يصنع، وإن العالم ليستغفر له من في السماوات والأرض، حتى الحيتان[2] في الماء، وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثة الأنبياء، إن الأنبياء لم يُوَرِّثُوا دينارًا ولا درهمًا، إنما ورَّثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظٍّ[3] وافرٍ"؛ (صحيح الجامع: 6297).
وأخرج الطبراني في الأوسط عن أبي هريرة رضي الله عنه "أنه مر بسوق المدينة فوقف عليها فقال: يا أهل السوق، ما أعجزكم؟ قالوا: وما ذاك يا أبا هريرة؟ قال: ذاك ميراث رسول الله صلى الله عليه وسلم يقَسِّم، وأنتم ها هنا، ألا تذهبون فتأخذون نصيبكم منه؟ قالوا: وأين هو؟ قال: في المسجد، فخرجوا سراعًا، ووقف أبو هريرة رضي الله عنه لهم حتى رجعوا، فقال لهم: ما لكم؟ فقالوا: يا أبا هريرة، قد أتينا المسجد فدخلنا فيه، فلم نر فيه شيئًا يُقسَّم، فقال لهم أبو هريرة رضي الله عنه: وما رأيتم في المسجد أحدًا؟ فقالوا: بلى، رأينا قومًا يصلون، وقومًا يقرؤون القرآن، وقومًا يتذاكرون الحلال والحرام، فقال لهم أبو هريرة رضي الله عنه: ويحكم! فذاك ميراث محمد صلى الله عليه وسلم"؛ (حسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب: 83).
وذكر الخطيب البغدادي في كتابه "شرف أصحاب الحديث" عن سليمان بن مهران قال: "بينما ابن مسعود يومًا، مع نفر من أصحابه إذ مر أعرابي، فقال: على ما اجتمع هؤلاء؟ قال ابن مسعود: على ميراث محمد صلى الله عليه وسلم، يقسمونه".
قال ابن جماعة رحمه الله في كتابه "تذكرة السامع والمتكلم، ص 43" عند هذا الحديث:
"وحسبك بهذه الدرجة مجدًا وفخرًا، وبهذه الرتبة شرفًا وذكرًا، فكما لا رتبة فوق رتبة النبوة، فلا شرف فوق شرف وارث تلك الرتبة"؛ ا.هـ.
وقال ابن حبان في كتابه "الإحسان: 1 /290": في هذا الحديث بيانٌ واضح أن العلماءَ الذين لهم الفضل الذي ذكرنا، هم الذين يُعَلَمون علم النبي صلى الله عليه وسلم، دون غيره، ألا تراه يقول: "العلماء ورثه الأنبياء" والأنبياء لم يورثوا إلا العلم، وعلمُ نبينا سنته، فمن تعرى عن معرفتها، لم يكن من ورثة الأنبياء"؛ ا.هـ.
ويقول ابن القيم رحمه الله؛ كما في كتابه مفتاح دار السعادة: 255-264: وفي قول النبي صلى الله عليه وسلم: "من سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا، سهل الله له طريقًا إلى الجنة"، والطريق الذي يسلكه إلى الجنة جزاءٌ على سلوكه في الدنيا طريق العلم الموصل إلى ربه"؛ ا.هـ.
ووضع الملائكة أجنحتها لطالب العلم تواضعًا، وتوقيرًا، وإكرامًا لما يحمله من ميراث النبوة ويطلبه، وهذا يدل على المحبة والتعظيم، فمن محبة الملائكة له وتعظيمه أنها تضع أجنحتها تواضعًا له؛ (شرح السنة: 1 /275).
وقوله صلى الله عليه وسلم: "إن العالم ليستغفرُ له من في السماوات ومن في الأرض، حتى الحيتانُ في الماء"؛ فإنه لما كان العالم سببًا في حصول العلم الذي به نجاة النفوس من أنواع المهلكات، وكان سعيه مقصورًا على هذا، وكانت نجاة العباد على يديه، جُوزِيَ من جنس عمله، وجعل من في السماواتِ والأرض ساعيًا في نجاتِهِ من أسباب المهلكات باستغفارهم له، وإذا كانت الملائكة تستغفر للمؤمنين، فكيف لا تستغفر لخاصتهم وخلاصتهم.
وقوله: "وفضلُ العالِمِ على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب"، تشبيه مطابق لحال القمر والكواكب، فإن القمر يضيء الآفاق، ويمتد نوره إلى العالَمِ، وهذه حال العالِمِ، وأمَّا الكوكبُ فنوره لا يجاوز نفسه، أو ما قرب منه، وهذه حال العابد الذي يضيء نور عبادته عليه دون غيره، وإن جاوز نور عبادته غيره، فإنما يجاوز غير بعيد، كما يجاوز ضوء الكوكب له مجاوزة يسيرة.
وفي التشبيه المذكور لطيفة أخرى: وهي أن الجهل كالليل في ظلمته وحِندسِه[4]، والعلماء والعباد بمنزلة القمر والكواكب الطالعة في تلك الظُّلْمة، وفضل نور العالِمِ فيها على نور العابد كفضل نور القمر على الكواكب.
وأيضًا، فالدين قوامُه وزينته وأمنَتُهُ بعلمائه وعُبَّادِهِ، فإذا ذهب علماؤه وعُبَّادُهُ ذهب الدين، كما أن السماء أمنتها وزينتها بقمرها وكواكبها؛ فإذا خسف قمرها وانتثرت كواكبها، أتاها ما توعد، وفضل علماء الدين على العباد كفضل ما بين القمر والكواكب، فإن قيل: كيف وقع تشبيه العالم على القمر دون الشمس، وهي أعظم نورًا؟ قيل: فيه فائدتان:
إحداهما: أن نور القمر لما كان مستفادًا من غيره، كان تشبيه العالِمِ الذي نوره مستفاد من شمس الرسالة بالقمر أولى من تشبيهه بالشمس.
الثانية: أن الشمس لا يختلف حالها في نورها، ولا يلحقها مُحَاقٌ[5]، ولا تفاوت في الإضاءة، وأما القمر فإنه يقل نوره ويكثر، ويمتلئ وينقص، كما أن العلماء في العلم على مراتبهم من كثرته وقلته، فيفضل كل منهم في علمه بحسب كثرته وقلته وظهوره وخفائه، كما يكون القمر كذلك، فعالِمٌ كالبدر ليلة تمامه، وآخر دونه بليلة ثانية وثالثة، وما بعدها إلى آخر مراتبه، وهم درجات عند الله، وقوله صلى الله عليه وسلم: "إن العلماء ورثة الأنبياء"؛ هذا من أعظم المناقب لأهل العلم، فإن الأنبياء خير خلق الله، فورثتهم خير الخلق بعدهم، ولما كان كل موروث ينتقل ميراثه إلى ورثته - إذ هم الذين يقومون مقامه من بعده - لم يكن بعد الرسل من يقوم مقامهم في تبليغ ما أرسلوا به إلا العلماء كانوا أحق الناس بميراثهم.
وفي هذا تنبيه على أنهم أقربُ الناس إليه، فإن الميراثَ يكون لأقرب الناس إلى الموروث، وهذا كما أنه ثابت في ميراث الدينار والدرهم، فكذلك هو في ميراث النبوة، والله يختص برحمته من يشاء، وفيه: إرشادٌ وأمرٌ للأمة بطاعتهم، واحترامهم، وتعزيزهم، وتوقيرهم، وإجلالهم، فإنهم ورثة من هذه بعض حقوقهم على الأمة، وخلفاؤهم فيهم، وفيه: تنبيهٌ على أن محبتهم من الدين، وبغضهم مناف للدين، كما هو ثابت لموروثهم، وكذلك معاداتهم ومحاربتهم معاداة ومحاربة لله كما هو في موروثهم.
وقال صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل: "من عادى لي وليًّا فقد بارزني بالمحاربة"[6]، وورثة الأنبياء سادات أولياء الله عز وجل.
وفيه: تنبيه للعلماء على سلوك هدي الأنبياء وطريقتهم في التبليغ؛ من الصبر، والاحتمال، ومقابلة إساءة الناس إليهم بالإحسان، والرفق بهم، واستجلابهم إلى الله بأحسن الطرق، وبذل ما يمكن من النصيحة لهم، فإنه بذلك يحصل لهم نصيبهم من هذا الميراث العظيم قدره، الجليل خطره.
وفيه: أيضًا تنبيهٌ لأهل العلم على تربية الأمة كما يربي الوالد ولده، فيربونهم بالتدريج والترقي من صغار العلم إلى كباره، وتحميلهم منه ما يطيقون، كما يفعل الأب بولده الطفل في إيصاله الغذاء إليه، وقوله صلى الله عليه وسلم: "إن الأنبياء لم يورثوا دينارًا ولا درهمًا، إنما ورثوا العلم"، فهذا من كمال الأنبياء وعِظَم نُصحهم للأمم، وتمام نعمة الله عليهم، وعلى أممهم، أن أزاح جميع العلل، وحسم جميع المواد التي توهم بعض النفوس أن الأنبياء من جنس الملوك الذين يريدون الدنيا وملكها، فحماهم سبحانه وتعالى من ذلك أتم الحماية.
ثم لما كان الغالب على الناس أن أحدهم يريد الدنيا لولده من بعده، ويسعى ويتعب ويحرم نفسه لولده، سد هذه الذريعة عن أنبيائه ورسله، وقطع هذا الوهم الذي عساه أن يخالط كثيرًا من النفوس التي تقول: فلعله إن لم يطلب الدنيا لنفسه، فهو يحصلها لولده، فقال: "نحن معاشر الأنبياء لا نُورَثُ، ما تركنا فهو صدقة"، فلم تورث الأنبياء دينارًا ولا درهمًا، وإنما ورثوا العلم؛ (رواه البخاري ومسلم).
وقوله صلى الله عليه وسلم: "فَمَنْ أخَذَهُ أخذ بحظٍّ وافرٍ"، أعظم الحظوظ وأجداها ما نفع العبد ودام نفعه له، وليس هذا إلا حظه من العلم والدين، فهو الحظ الدائم النافع الذي إذا انقطعت الحظوظ لأربابها، فهو موصول له أبد الآبدين، وذلك لأنه موصول بالحي الذي لا يموت، فلذلك لا ينقطع ولا يفوت، وسائر الحظوظ تعدم وتتلاشى بتلاشي مُتعلَّقاتها، كما قال تعالى: ﴿ وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنثُورًا ﴾ [الفرقان: 23]؛ فإن الغاية لما كانت منقطعةٍ زائلةٍ تبعتها أعمالُهُم، فانقطعت عنهم أحوج ما يكون العامل إلى عمله، وهذه هي المصيبة التي لا تجبر، عياذًا بالله، واستعانةً به وافتقارًا، وتوكلًا عليه، ولا حول ولا قوة إلا بالله"؛ ا.هـ؛ بتصرف واختصار؛ (مفتاح دار السعادة: 1 /255-264).
-------------------
[1] أو نفسه: شك من الراوي.
[2] الحيتان: جمع حوت، وهو العظيم من السمك، وهو مذكر، قال تعالى: ﴿ فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ ﴾ [الصافات: 142].
[3] الحظ: النصيب، والمعنى: أخذ نصيبًا وافرًا، أي: تامًا لا حظ أوفر منه.
[4] الحِنْدِسُ: الظُّلْمَةُ، وفي الصحاح: الليل الشديد الظلمة؛ [لسان العرب(حندس) صـ1020].
[5] المُحَاقُ والمِحَاقُ: آخر الشهر إذا امَّحَقَ الهلالُ فلم يُرَ، والمحاق أيضًا أن يستسر القمر ليلتين فلا يرى غدوة ولا عشية.
[6] والحديث أخرجه البخاري واللفظ له ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله تعالى قال: "من عادى لي وليًّا، فقد آذنته بالحرب، وما تقربإلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه، وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته، كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني، لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن نفس المؤمن، يكره الموت وأنا أكره مساءته".


رابط الموضوع: https://www.alukah.net/culture/0/141494/#ixzz6VTspG9PD