هذه كلمات للشيخ خالد السبت حفظه الله في موضوع مهم للغاية وهو تتبع الرخص الذي عم وطم عند بعض من ينتسب للعلم والعلماء فضلا عن طلبة العلم وهي من موقع الشيخ حفظه الله :
الحلقة الأولى :
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
لقد عشنا برهة من الزمن والناس يرجعون إلى أقوال علمائهم ويستفتونهم فيما وقع لهم من المسائل العارضة والمستجِدة، ثم يأخذون بما أفتوهم به، على اختلاف طبقات هؤلاء السائلين والمستفتين، فمنهم من يأخذ المسألة بدليلها، ويتمكن من معرفة شيء من ذلك، وله نوع من البصر في هذه القضايا، وكان الناس في خير كثير، وفي عافية مع وجود الأهواء، وهذا شيء لا ينكر في كل زمان وفي كل مكان، إلا أنه قد فُتح على الناس باب لربما يكون ضرره عليهم أعظم من النفع الذي يجنونه، وذلك أنه لما تطورت وسائل الاتصال وصار الناس في العالم أجمع يسمعون قول القائل، ويتعرفون على فتوى المفتي في مشارق الأرض وفي مغاربها، فصار الناس يتناقلون هذه الأمور، وصار السابق في نشر فتياه وما يعتقده وما يقرره من المسائل صار السابق في ذلك والأوسع انتشاراً من سبق إلى هذه الوسائل الإعلامية التي يراها الصغير والكبير، الرجل والمرأة على حد سواء، ولما كانت الأهواء غلابة وجدت طائفة ممن يتصدر للكلام في مسائل العلم والدين والفتيا والحلال والحرام، فوجدت طائفة تفتي الناس بحسب أهوائهم وأمزجتهم، وبحسب ما يروق لهم بدعوى التسهيل والتيسير، فأعجب فئام من الناس بمثل هؤلاء، وصاروا أتباعاً لهم، يدافعون عنهم أشد المدافعة، بل لربما تنقصوا العلماء الذين لزموا كتاب الله وسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم-، واستمروا على الجادة الصحيحة التي تنضبط بها الفتيا.
الحاصل لما كانت الأهواء غلابة، ووجد من يفتي الناس بحسب أهوائهم، وصارت هذه الفتاوى تصل إلى جميع الناس عن طريق هذه الوسائل في الفضائيات وفي غيرها، صار خطر ذلك على الناس عظيماً كبيراً، مهدداً بانسلاخ من الدين وصاحَب ذلك ظن كثير من الجهال أن الإنسان يخرج سالماً من المسألة إذا جعل بينه وبين النار عالماً، وأنه ليس عليه كي يخرج من الحرج إلا أن يعلق هذه المسألة برقبة مفتٍ من المفتين، وإن لم يكن أهلاً للفتيا، فيكون بذلك بريء الساحة، لا يلحقه ذم ولا عتاب ولا مؤاخذة، والذي أريد أن أنبه عليه وهي مسألة أصلية مهمة وكل إنسان ينبغي أن يهتم بدينة، وبسلامة اعتقاده ومسلكه إلى الله -تبارك وتعالى-، أقول: نصيحة لنفسي ونصيحة لإخواني:
ينبغي أن نعلم أولاً: أن الحق واحد في المسائل المختلف فيها، وأعني بالخلاف هنا خلاف التضاد، هذا يقول: حرام، وهذا يقول: حلال، هذا يقول: يجوز، وهذا يقول: لا يجوز، هذا يقول: واجب، وهذا يقول: مباح، الحق في ذلك واحد عند الله -تبارك وتعالى-، فمهما أفتاك الناس، ومهما قالوا في هذه المسألة من التحليل، وأوردوا على قولهم من الأدلة فإن ذلك لا يغير من حقيقة الحكم شيئاً، هذه قضية ينبغي أن نعرفها أن الحكم عند الله ثابت، ففتوى المفتي لا تقلب الحكم عند الله -عز وجل-، فهذا الذي قيل لك: إنه حلال قد لا يكون الأمر كذلك عند الله -تبارك وتعالى-، ولذلك وجب على الإنسان أن يتحرى الصواب، وأن يعرف من يسأل ليقع على الصواب، أو ليخرج من التبعة، وذلك إن كان مقلداً بأن يسأل من هو أهلٌ للفتيا، ومن هو أهلٌ لأن يرجع إليه ويسال، وتؤخذ عنه هذه المسائل والأحكام والقضايا المتعلقة بالشريعة، فإذا عرفت أن الحق واحد فينبغي أن تبحث عن هذا الحق فإن أصبته فالحمد لله، وإن أخطأته فالله -عز وجل- غفور رحيم، فإن سألت من هو أهلٌ للفتيا فأفتاك ولم يقع على الصواب فأنت معذور عند الله -تبارك وتعالى-، ولكن البلية حقاً هي أن يفعل الإنسان ذلك بأن يسأل من ليس أهلاً للفتيا، أو بأن يسأل من يعلم أنه يوافق هواه في هذه المسألة فيكون متتبعاً للرخص.
ولا شك أن تتبع هذه الرخص يؤذن بالانسلاخ من الدين، وذلك أن الله -عز وجل- حينما وضع هذه الأحكام الشرعية، وطالبنا بالعمل بها، وكلفنا بالقيام بها وتحقيقها في واقع الحياة، وأن نجري على مقتضاها لما أمرنا الله -عز وجل- بذلك إنما أمرنا به لحكمة؛ لأن هذه الأحكام التي يأمرنا الشارع بها مشتملة على حكم عظيمة فإذا تتبعنا الرخص وقعنا في عملية مسخ، وخرجنا من هذه الحكمة التي وضع الله -عز وجل- الأحكام لتثبيتها وتقريرها فصار فعلنا بذلك نوعاً من الانفلات من حكم الشريعة، وصار الإنسان بهذا العمل متتبعاً للرخص، أي متتبعاً لهواه هذه واحدة.
وأمر آخر: وهو أن الشريعة من حيث العموم والإجمال قد وضعت على خلاف داعية الهوى، فإذا التبس عليك أمر فانظر إلى الهوى أين يتجه؟ فغالباً تجد أن حكم الشريعة مخالف لداعية الهوى؛ لأن الشريعة إنما وضعت لانتشال المكلف وانتزاعه ورفعه من داعية هواه ليتخلص من رق الهوى، ومن عبادة النفس والشيطان إلى عبادة الملك الديان -جل جلاله-.
فأقول: هذه قضية أصلية، فإذا كان الإنسان متتبعاً للرخص فهو في الواقع يدور مع هواه حيث دار، وصار مخالفاً لقصد الشارع بوضع الشريعة، وبتكليفه بها، أي أن الشارع قصد انتشال المكلف من داعية الهوى، فإذا تتبع الإنسان الرخص صار دائراً مع هواه حيث دار.
وأمر آخر: أن تتبع الرخص مؤذن بسقوط التكاليف، فهذا الإنسان الذي يتبع الرخص ينظر في كل مسألة ما هو الأخف؟ وما هو الأيسر؟ وما هو الذي أيسر في العمل؟ وما هي الفتيا التي ترخص له في مقارفة هذا الحرام؟ فيفعل هذه الأشياء فيكون ذلك سبباً في سقوط التكليف أصلاً، فمثلاً الآن لو جاءنا إنسان وأخذ برخصة بعض أهل العلم في أن الأغاني حلال بالمعازف هذه واحدة، ثم جاء إلى مسائل العورات فقال: الفخذ ليس بعورة كما قال بعض أهل العلم، فصار الفخذ ليس بعورة، فلبس سراويلات قصيرة، وصار يسمع الأغاني، وجاء إلى فتوى من أفتى بأن اللحية لا يجب إعفائها، وإنما هي سنة فأخذ بهذا القول، وجاء إلى من قال: بأن التدخين حلال، وصار يدخن، وجاء إلى فتيا من أفتى بأن القات -وهو نوع من المخدر- أنه زاد الصالحين، كما يقول بعضهم، فصار يأكل من هذا القات، أو كما يقال: خزن من هذا القات، وجاء إلى فتيا مفتٍ آخر يعلل لنفسه وهو يدرس أصول الفقه، يقول: تعليمي لكم الأصول واجب، ولا أتمكن إلا بالتدخين، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، فيجوز للإنسان أن يدخن بهذا الاعتبار، فصار يرخص لنفسه أن يفعل ذلك، وأخذ بقول من قال: بأن صلاة الجماعة ليست بواجبة، وأخذ بقول من قال: بأن المتعة أن يتفق مع امرأة -على خلافٍ في التفاصيل- فيتزوجها ساعة، عقد لمدة ساعة أو يوم أو نصف يوم أو ساعتين بحسب الحاجة، ثم ينفسخ العقد تلقائياً بعد انتهاء المدة، نكاح المتعة المعروف، فأخذ بقول من أجازه من العلماء، ثم جاء إلى قول أهل الكوفة في مسألة النبيذ المسكر فأخذ به فصار يشرب المسكرات من غير عصير العنب بزعمه أن ذلك يجوز، وأنه أفتى به بعض السلف، فصار الرجل يخرج سكران، وعليه سراويلات قصيرة، ويسمع الأغاني، ويحلق لحيته، ويأخذ في مسألة الربا -في باب الصرف- بقول طائفة السلف في هذه المسألة، ثم هو يدخن، ويأكل القات، ويبيع المخدرات على غير المسلمين، يأخذ بقول من قال: إنه لا بأس ببيع الخمور والمخدرات والسموم ونحوها لغير المسلمين ممن يتعاطونها ويأكلونها ولا يرون بها بأساً، لا مانع من الاتجار بها، وجمّع المليارات من هذه التجارة، ما تقولون في هذا الإنسان؟ هذا خرج من التكليف تماماً، هل هذا إنسان مكلف؟! هذا إنسان غير مكلف.
فأقول: تتبع الرخص هو في الواقع تمرد على التكليف، تمرد على الشريعة، خروج عنها، وهذا الخروج بزعمه أنه بفتاوى، وهذه الفتاوى لا تنفعه عند الله -تبارك وتعالى-، وإنما هو أراد أن يبرر لنفسه أمراً، والله -عز وجل- الموعد.
وأمر آخر: أن العلماء قد أجمعوا على أن من تتبع الرخص فهو فاسق، من تتبع رخص الفقهاء فهو فاسق، والشارع قصد إثبات العدالة للمسلم، ونهاه عن كل موجب للفسق، فالفسق إنما يجر إليه فعل المحرمات، وترك الواجبات، فتتبع الرخص نقل غير واحد من العلماء أنه أمر يوجب فسق من فعله، وقد قال ذلك الإمام أحمد -رحمه الله- والمروزي، ونقل الإجماع على فسقه ابن حزم وابن عبد البر وأبو الوليد الباجي من المالكية، وقال الأوزاعي -رحمه الله -: "من أخذ بنوادر العلماء خرج من الإسلام".
وأمر آخر: وهو أن الواجب على المسلم في حال الاختلاف أن يرجع إلى من؟ أن يرجع إلى الله وإلى رسوله -صلى الله عليه وسلم-، فالله يقول: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ}[(10) سورة الشورى] ويقول: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ}[(65) سورة النساء] يعني: فيما اختلفوا فيه: {ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا}[(65) سورة النساء] فالواجب في حال الاختلاف أن يرجع الإنسان إلى الله وإلى رسوله -صلى الله عليه وسلم-، والرجوع إلى الله رجوع إلى كتابه، والرجوع إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- رجوع إلى سنته -عليه الصلاة والسلام-، هذا هو الواجب على المسلم، وهذا هو الذي أمر الله به، فإذا تتبع الإنسان الرخص فهو في الواقع قد رجع إلى أين؟ يكون قد رجع إلى هوى النفس وشهوتها ومطلوباتها ومحبوباتها، ولم يكن محتكماً إلى الله -عز وجل- وإلى رسوله -صلى الله عليه وسلم-، وبالتالي لم يكن مستجيباً لنداء الله -تبارك وتعالى- وأمره وتوجيهه في مثل هذه المقامات.
فالحاصل أن من أخذ أحد هذين القولين لمجرد التشهي فهو متبع للهوى، وليس متبعاً للكتاب والسنة، وإن زعم أنه متبع لكتاب الله وسنة رسول -صلى الله عليه وسلم-.
ثم إن أتباع هذه الرخص سبب لذهاب هيبة الدين، والتهاون بحرمات الشرع، ولو حدثتكم عن هذا لحدثتكم طويلاً عن أمثلة يتلاعب فيها الناس بالشريعة، المثال الذي ذكرته آنفاً هذا الرجل الذي يدخن وهو يدرس أصول الفقه ويقول: تدريسي واجب وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، أليس ذلك يكون سبباً لذهاب هيبة الشرع؟ لا شك أنه كذلك.
جاء رجل لبعض الفقهاء وقد استأجر أرضاً إجارة مشاعة، واستأجر رجل آخر جزءً آخر من هذه الأرض ومسألة الشفعة إنما هي فيما يملك الإنسان، وقد اختلف العلماء في المستأجر هل فيه شفعه أو لا؟ فالحاصل أن هذا الرجل سافر إلى بلد أو كان في ناحية فذهب الرجل الذي استأجر الناحية الأخرى إلى قاضيٍ أو عالم أو فقيه ممن يفتي بالرخص فذهب إليه فحكم له بأنه لا شفعه، لما سمع أن ذلك الرجل المسافر يريد أن يستصدر حكماً بالقول بالشفعة في هذه الأرض، ذهب واستصدر حكماً من فقيه بأنه لا شفعة في الإجارة، فلما قدم هذا الرجل من السفر ذهب إلى هذا الفقيه وعرض عليه المسألة فقال: هو أنت؟ لو علمت أنه أنت لقلت بقول أشهب، يقول: إنما أفتيته بقول الإمام مالك أنه لا شفعه في الإجارة، ولو علمت أنه أنت -يعني صاحب الشق الآخر من الأرض- لأفتيته بقول أشهب حيث أن أشهب -رحمه الله- من علماء المالكية- يقول بجواز الشفعة في الإجارة في المؤجَر واضح؟ فهو لما عرفه وكان صاحباً له، وكان بينه وبينه مودة قال: لو علمت أنه أنت لقلت في المسألة بقولٍ آخر.
ولها أمثلة كثيرة جداً، ومن ذلك أن أحد الكبراء كان له قصر، وكان هذا القصر يشرف على مستشفى فيه المرضى، ولربما بعض المجانين، فكان هذا الرجل الكبير يتأذى من رؤية المرضى كلما أطل من هذا القصر، وهذه الأرض التي فيها المستشفى كانت موقوفة وقفاً، وكان المذهب في ذلك البلد تجري الفتوى فيه على قول المالكية، فالحاصل أن هذا الرجل الكبير عرض هذه المسألة على طائفة من الفقهاء، فأفتوا بقول الإمام مالك -رحمه الله-، وأن الموقوفات من العقارات والأراضي لا يجوز نقلها بحال من الأحوال، فجاء رجل من الفقهاء وقال: المشارقة يقولون بجواز نقل الأوقاف، أراد أن يتقرب إلى هذا الكبير بفتوى لا يدين الله بها، وإنما أراد أن يتقرب إليه، فجاء بهذا القول، وبهذه الفتيا التي لا يعمل بها في بلده من أجل التقرب إلى هذا الإنسان، وكتب بهذه الفتيا، وخالف جميع الفقهاء في بلده، ثم كان ذلك سبباً لحظوته وتقديمه وأشياء أخرى لا حاجة لذكرها، فعلى كل حال هذا الرجل إنما أفتى بهواه.
فأقول: هذا الإنسان إنما هو متبع للهوى، قد تمرد على الشريعة، ثم أيضاً هو متناقض مع نفسه، الناس الآن الذين يتبعون الرخص إذا جئت في مسائل فيها حيل على الربا قالوا: فلان أفتى بها، وإذا جئت في مسائل المسح على الخفين قالوا: العالم الفلاني الكبير الفقيه الزاهد العابد الورع يفتي بأن الخف المخرق لا حرج بالمسح عليه، لماذا تأخذون بفتياه في مسألة المسح على الخفين ولا تأخذون بفتياه في مسائل أخرى لكم فيها هوى؟ ما الذي حلّل لكم هذا؟ هذا لا يسقط التبعة عند الله -تبارك وتعالى-، فينبغي للإنسان أن يحترز.
والكلام في هذه المسألة بقي فيه بقية، لا أطيل عليكم، أتركها في مرة قادمة، وأسأل الله -عز وجل- أن يفقهنا وإياكم في الدين، وأن يجعلنا وإياكم هداةً مهتدين، وأن يرينا وإياكم الحق حقاً وأن يرزقنا إتباعه، وأن يرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
يتبع إن شاء الله