تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


النتائج 1 إلى 11 من 11

الموضوع: الإمام الطبري

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,594

    افتراضي الإمام الطبري

    (1) عصر ابن جرير الطبري سياسيا واجتماعيا


    عبد العزيز بن إبراهيم الشبل


    عاش الإمام ابن جريرٍ ما بين سنة 224 إلى 310 هـ، وهو عصر الدولة العباسية، في آخر قوتها، وبدء ضعفها وجورها، وتسلُّط الموالي والشعوبية عليها.

    فقد عاصَرَ أحدَ عشرَ خليفةً، هم:
    1- المعتصم.
    2- والواثق.
    3- والمتوكل.
    4- والمنتصر.
    5- والمستعين.
    6- والمعتز.
    7- والمهتدي.
    8- والمعتمد.
    9- والمقتصد.
    10- والمكتفي.
    11- والمقتدر.

    تسلَّط فيها الأتراك على السلطة، كما زامَن بداية حركات الانفصال عن الدولة الواحدة إلى دُوَيْلات متفرِّقة من بعد عهد المتوكل (232 - 247هـ).

    كما كان في أول حياته تسلط المعتزلة وتنفُّذهم في القيادة العباسية في عهدَي: المعتصم، والواثق (218 – 227هـ، 227 – 232هـ)، ثم عزة أهل السنة والجماعة في أثناء عهد المتوكِّل وكَبْتِه للمعتزلة، ونشره لمقالة أهل الحديث، وإكرامه للإمام المبجل أحمدَ بن حنبل، ورفعِ المحنة عن الناس.

    وخلال هذه المدة لم تخلُ طبرستانُ - وما حولها - من تلك الانقسامات والحركات السياسية.

    إلا أنه مما يلاحظ - والحمد لله - ضعف تأثير الأحوال السياسية المتقلِّبة في الناحية العلمية والدينية؛ ولذا ترَوْنَ عصور الضعف السياسي، لا سيما في الدولة العباسية، يصاحبُه عكسيًّا ازدهارٌ علميٌّ، وتطورٌ فيه وانتشار له.

    أما من الناحية الاجتماعية، فهي امتداد لما قبل عصره، إلا أنه ُيلاحَظ في هذا العصر انتشارُ الجنس التركي في العراق وفارس؛ بسبب مصاهرة الخلفاء لهم.

    كما نلاحظ انتشارَ الأعاجم في بلاد العرب؛ لدخولهم أصلاً تحت لواء الخلافة الإسلامية.

    وأهم ميزة تميز العرب عن الموالي والأعاجم مسألة النِّسْبة، فالعربي ينتسب إلى قبيلته، والموالي إلى بلادهم وصناعاتهم وأعمالهم؛ فقد قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لأبناء العرب بالمدينة: "انتسبوا إلى آبائكم، ولا تنتسبوا إلى بلادهم كأهل السَّواد"، ولا يعني هذا بحال: التفريقَ والتمييزَ العنصريَّ بين الشعوب والقبائل؛ فالمعيار هو التقوى والعمل الصالح لخدمة الدين ورفعته.

    إلا أنه لا بد من الإشارة إلى أن الناحية الدينية في بلده مركبةٌ ومضطربة من أهل الأهواء من طوائف البدع مع أهل السنة.


    ففي طبرستان: المعتزلة والجهمية والرافضة بطوائفها.

    وبشمالها: الباطنيُّون بجبال الديلم، وكذا المرجئةُ، والخوارج، ولهذه الفرق جماعات وانقسامات داخلية مبسوطةٌ في كتب المِلَل والفِرَق.

    أما الكُلاَّبيَّة وبعدها الأشعرية والماتريدية، فلمَّا تنتشرْ بعدُ في عصر الطبري؛ وإنما كانت في بدئها محدودة الانتشار.









    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,594

    افتراضي رد: الإمام الطبري

    (2) الإمام الطبري: اسمه ونسبه


    عبد العزيز بن إبراهيم الشبل


    هو:
    أبو جعفرٍ محمدُ بن جرير بن يزيد الطبريُّ الآملي، هذا ولما سئل عن الاستزادة في نسبه، أنشد قولَ الشاعر:
    قد رفَعَ العجَّاجُ ذِكْري فادْعُني بِاسْمِي إذا الأنسابُ طالتْ يَكْفِني
    وألقابه كثيرة:
    فهو: الإمام، المجتهد، المفسر، المحدِّث، الحافظ، الفقيه، المؤرِّخ، العلامة، اللُّغوي، الثقة، الثَّبَتُ، المقرئ... المشهود له بذلك كله، وهذه الألقاب تَشْرُف به.

    وكنيتُه:
    أبو جعفر - بالاتِّفاق – وهو ما يكني به نفسه دائمًا، ويُنسَب الشيخ إلى أبيه فيقال: ابن جرير، أو إلى بلده فيقال: الطبري.

    ولادته ونشأته:
    ولد أبو جعفر بمدينة آمل طبرستان في آخر سنة 224 هـ، ونشأ بهذه المدينة، وكان أبوه موسرًا، أنفق عليه ليتعلم العلمَ؛ لرؤيا رأى فيها النبيَّ صلى الله عليه وسلم وهو بين يديه، ومعه مِخلاة مملوءة حجارة، ومحمد بن جرير يرمي بها بين يديه، فعُبِّرت له: بأن ابنك إن كَبِرَ، نصح في دينه، وذبَّ عن شريعته صلى الله عليه وسلم[1].

    فكانت سببًا في تبكيره في طلب العلم، فحفظ القرآن وعمره سبعُ سنين، وأمَّ الناس في الصلاة وعمره ثمان سنين، وبدأ يكتب الحديث وعمره تسعُ سنين من مشايخ طبرستانَ وما حولها؛ كالري وأعمالها، فحصَّل بها مبادئَ العلوم وأَساسَها ليشتدَّ عُودُه، ويستمر على الجادَّة، فينافس أقرانَه؛ بل بزَّهم كثيرًا حتى شهدوا له بالتقدُّم عليهم، وبالحفظ والتحصيل؛ مما جعله محظيًّا عند شيوخه منذ صغر سنه.

    ويَذكر عن نفسه هذه النشأة الجادة في التحصيل؛ حيث يقول: كنا نمضي إلى محمد بن أحمد الدُّولابيِّ ندرُسُ عليه التاريخ، وكان في قرية من قرَى الري، ثم نرجع نعدو مُسرعين كالمجانين لنلحَقَ بدرس محمد بن حميد الرازيِّ في إملاء الحديث، حتى ذكر أنه كتب عنه أكثر من مائة ألف حديث، ودرس عليه كذلك التفسير، ودرس الفقه على أبي مقاتل فقيه الري.

    هذا، وقد لبث ابنُ جرير في بلاده حتى جاوَزَ البلوغ بقليل؛ حيث بلغ عمره نحوًا من ست عشرة سنة، حيث شغفت نفسه للقاء أحمدَ بنِ حنبل فرحل إليه.

    وفي ذلك كله كان أبوه ينفق عليه ليتفرغ في طلب العلم والسفر لأجله، فكان أبوه في ذلك كله يمدُّه بالمال حتى وهو في سفراته في البلدان، حتى قال مرةً - وهو في رحلاته -: أبطَأَتْ عني نفقةُ والدي، واضطررت إلى أن فتقت كُمَّيْ قميصِي فبعتُهما.

    وكان أبوه بعد موته خلَّف له مزرعةً يرسل له نصيبه منها في كل سنة.


    [1] هذه الرؤيا الصالحة من المبشِّرات، كما فسَّرها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: ((الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءًا من النبوة، وقرأ قوله تعالى: {لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} [يونس: 64]))؛ أخرجاه في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه.









    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  3. #3
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,594

    افتراضي رد: الإمام الطبري

    (3) أهم شيوخ الطبري الذين أخذ عنهم


    عبد العزيز بن إبراهيم الشبل


    لقي الإمام ابن جرير علماءَ كُثُرًا، وسمع من شيوخ صعب حصرُهم، حتى قال الذهبي لما عدَّد أهم شيوخه: "وأُممًا سواهم".

    في حين يقول في غيره من العلماء: ولقي كثيرًا غيرهم، لكن ابن جرير لقي أممًا، وتدل على الكثرة الكاثرة، وللدَّلالة على كثرتهم انظر أسانيدَه في التفسير والتهذيب.

    ومن أهم شيوخه:
    1- محمد بن حُمَيْد الرازي التميمي أبو عبدالله (ت 248)، وهو أول شيوخه في الري، أخذ عنه الحديثَ والتفسير، حتى ذكروا أن ما أخذه عنه من الحديث مائةُ ألف.

    والإمام ابن حميد من حفَّاظ الحديث، وقد روى عنه الإمام أحمد بن حنبل، وقد ضعَّفه الحافظ في التقريب، وقال: كان ابن معين حسنَ الرأي فيه.

    2- عمران بن موسى الليثي البصري (240)، وقد لقيه بها في أول دخوله العراق، كان - رحمه الله - حافظًا صدوقًا ويعرف بالقزاز، وهو أول شيوخه وفاةً.

    3- أبو همام الوليد بن شجاع السكوني (243)، لَقِيه في الكوفة، وهو إمام حافظ ثقةٌ من رجال صحيح مسلم والسنن، لقيه ابن جرير بالكوفة.

    4- أحمد بن منيع البَغوِي البغدادي أبو جعفر (244) صاحب المسند، الإمام الحافظ الثقة من أقران الإمام أحمد، ومن زهَّاد العلماء، روى عنه ببغداد؛ لما فاته الأخذ عن الإمام أحمد.

    5- محمد بن العلاء الهمدانيُّ أبو كريب الكوفي (247)، لقيه في الكوفة، وهو حافظُها الثقة المتقن، الذي روى له أصحاب الكتب الستة، وبلغ ما تلقَّاه عنه ابن جرير مائةَ ألف حديث.

    وكانت لابن جرير مع الإمام أبي كريب قصةٌ، إذ كان أبو كريب فيه شدةٌ وشراسة مع إمامته وحفظه؛ حيث قال ابن جرير: حضرت مرةً إلى داره مع طلاب الحديث، فاطَّلع علينا من خوخة له، والطلاب يلتمسون الدخول عليه ويصيحون لذلك، فقال لهم: أيُّكم يحفظ ما كتبه عني؟ فالتفت الطلاب بعضهم إلى بعض، ثم نظروا إليَّ فقالوا: أنت تحفظ ما كتبتَ عنه؟ قلت: نعم، قالوا: هذا؛ فاسأله، فقلت: حدثتنا في كذا وكذا، وفي يوم كذا وكذا، فأخذ أبو كريب يسألني إلى أن عَظُمْتُ في نفسه، فقال لي: ادخل إليَّ، فدخلت فمكَّنني من حديثه.

    6- هنَّاد بن السُّري التميمي الكوفي (243) الإمام الحافظ الثقة، لقيه ابن جرير بالكوفة، والإمام هنَّاد من رجال أصحاب السنن.

    7- محمد بن عبدالملك بن أبي الشوارب البصري الأموي (244)، لقيه بها، وهو الإمام الحافظ الصدوق، من رجال الإمام مسلم وبعض أهل السنن.

    8- محمد بن بشار العبدي البصري (252) المعروف ببُنْدار، الإمام الحافظ الثقة، الذي أخرج له جماعة أصحاب الأمهات، لقيه بالبصرة وأكثَرَ عنه، وهو - رحمه الله - من أوعية الحفظ، ومشاهير رواة الحديث.

    9- الإمام الحافظ يعقوب بن إبراهيم الدورقي (252) صاحب المسند، وهو من رجال الكتب الستة.

    10- بشر بن معاذ العقدي البصري (245) الضرير، لقيه بالبصرة.

    11- محمد بن عبد الأعلى الصنعاني البصري (245)، لقيه بالبصرة، وهو أحد الحفاظ الثقات الكبار، روى له الإمام مسلم وبقية أصحاب السنن.

    هؤلاء الحفاظ اخترتهم؛ لأنهم من طبقة الإمام أحمد الذين علا إسنادُ ابن جرير بهم، وسمع عنهم في آخر حياتهم، وأول حياته العلمية.

    12- الربيع بن سليمان الأزدي (256)، لقيه في دخوله مصر للمرة الثانية، وأخذ عنه فقه الإمام الشافعي ومرويَّاته.

    13- الحسن بن محمد الزعفراني البغدادي الشافعي (260)، لقيه بها فأخذ عنه فقه الشافعي، كما أخذه بها عن محتسب بغداد المجتهد الشافعي أبي سعيد الإصطخري.

    14- إسماعيل بن يحيى المزني (264) صاحب الشافعي، لقيه بالقاهرة، وأخذ عنه الفقه ومرويَّاته.

    15- محمد بن عبدالله بن عبدالحكم المالكي المؤرخ (268)، أخذ عنه فقه مالك، والتاريخ، كما أخذ فقه مالك عن أخوَيْه سعد وعبدالرحمن، وكان محمد هذا ممن حمل من مصر في الفتنة بخلق القرآن، لكنه ثبت ولم يجب إليها، ثم رد إلى مصر.

    16- يونس بن عبدالأعلى الصدفي (264)، أخذ عنه بمصر قراءةَ حمزة وورش، من طريقه عن علي بن كبسة عن سليم بن عيسى عن حمزة، كما أخذ عنه الفقه الشافعي، ومرويَّاته في الحديث والأخبار.

    17- سليمان بن عبدالرحمن بن خلاد الطلحي (252)، أخذ عنه القراءات من طريق جدِّه خلاَّد عن شيوخه.

    18- علي بن سراج المصري أبو الحسن (308) لقيه بمصر، فأخذ عنه اللغة والأدب، أخذه عنه بدخول مصر الأول في الفُسطاط، وقد أعجب به جدًّا بحفظه وذكائه وسَعَة اطلاعه؛ حيث إن ابن جرير كان يحفظ شعرَ ابن الطرماح، ولم يكن بمصر من يحفظُه غيره، وكان ابن سراج حافظًا محدِّثًا، عالمًا بأيام الناس وأخبارهم.

    19- كما أخذ علمَ النحو والعربية وأدبها عن أحمد بن يحيى ثعلب الكوفي (291) إمام الكوفيين في عصره، وقد أثنى على ابن جرير ثناء جيدًا، مع شدته في مدح الناس جدًّا.

    20- كما أخذ الفقه الحنفي عن أبي مقاتل في بلده الري، فتجمع له الفقه على المذاهب الثلاثة المشتهرة بزمنه، مع فقه الظاهرية؛ حيث أخذه عن إمامهم: داود بن علي الأصبهاني الظاهري (270)، لقيه بها فأخذ عنه، وكتب عنه من كتبه كثيرًا، إلا أنه رد عليه بكتاب سماه (الرد على ذي الأسفار)، وما الناس إلا رادٌّ ومردود عليه، وهذا شأن العلم، فليَفطِنْ لهذا طلاَّبُه.

    21- الشيخ العباس بن الوليد البيروتي (270هـ)، وأخذ عنه القراءات ببلده بيروت في بلاد الشام لما رحل إليها من العراق.

    هذا، وإن كان ابن جرير قد تلقَّى أكثر العلوم عن أهلها المشايخ، فهو - رحمه الله - قد تولَّى تعليم نفسه بنفسه في بعض الفنون، والتوسُّع في بقيتها، فعلم العَروض علَّمه نفسَه بنفسه، كما ذكره هو عن نفسه لما استعار من صديق له كتاب العروض للخليل الفراهيدي، فأمسى غيرَ عروضيٍّ وأصبح عروضيًّا، إذ أحاط به في ليلة على نفسه، كذلك شعر الطرماح بن حكيم استظهره على نفسه... وغيرها.


    وهذا أمر لا يستطيعه كلُّ أحد إلا النوابغ من الطلاب، وهو مشاهَد في كل زمان في هؤلاء خاصة، لا كما يظنه بعضهم استغناء عن الشيوخ اكتفاءً بذكائهم، فإن من كان إمامه كتابه، كان خطؤه أكثرَ من صوابه.

    وهذا ابن جرير وغيره - ممن بلغوا من الذكاء والنبوغ مبلغًا قلَّ أن يوصل إليه - كان شيوخهم بالكثرة بما يصعب حصرهم والإحاطة بهم.

    وهو نموذج لطلاب العلم في زمننا وما بعده للإفادة من هذا المنهج في طلب العلم وتحصيله، والذي عزف عنه كثير من المتعلِّمين، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وهي سنةٌ مَن أحياها كان له أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، من غير أن ينقص من أجورهم شيئًا.








    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  4. #4
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,594

    افتراضي رد: الإمام الطبري

    (4) رحلات الإمام الطبري


    عبد العزيز بن إبراهيم الشبل


    لما حصَّل الإمام الطبري مبادئَ العلوم في بلده، وسمع من شيوخها، همت نفسه بالاستزادة والرحلة لملاقاة الشيوخ والسماع منهم، فقد كانت الرحلة في طلب العلم ولُقْيَا العلماء، والسماع والرواية عن الأكابر - ميزةَ علماء ذلك العهد، فلا تجد عالمـًا بقي في بلده مكتفيًا بما سمعه من علمائها في الغالب الأعم، خصوصًا والعصر لم يزل عصرَ رواية وسماع وتحديث، كما أن الأخذ عن العلماء - غير مروياتهم - سببٌ مهم يسعى إليه طلاب العلم في ذلك الوقت من فقههم وأدبهم وسمتهم وعبادتهم.

    وإمامُنا ابن جرير ممن سار على هذه الجادَّة، فرحل إلى بلاد الرَّي، ثم يـمَّمَ وجهه شطر العراق لبغداد ممنِّيًا نفسَه لقيا الإمام أحمد بن حنبل، ولكنه قبل وصوله إليها بقليل بلغَه نبأُ وفاته، فواصل عزمه في الرحلة ولقيا بقيَّة حفاظ العلماء في بغداد والبصرة والكوفة، فأدرك فيها محمدَ بن بشار المعروف ببُنْدار، وإسماعيل بن محمد السدي، وهنَّاد بن السري، ومحمد بن المثنى، ومحمد بن عبدالأعلى الصنعاني، وأحمد بن منيع، ويعقوب بن إبراهيم الدورقي، ومحمد بن العلاء الهمدَاني أبا كريب، وفي الفقه الحسن بن محمد بن الزعفراني.

    ثم يـمَّمَ نحو الشام فلقي في بيروت الإمامَ المقرئَ العبَّاس بن الوليد البيروتي، فأخذ عنه القراءة برواية الشاميين.

    ثم توجه إلى مصر في سنة 253هـ، ودخل الفسطاط ثم رجع إلى الشام مرة أخرى، عاد بعدها إلى مصر سنة 256، فدخل القاهرة، وأخذ الفقه الشافعي عن الربيع بن سليمان المرادي، وإسماعيل بن إبراهيم المزني، ولقي فيها محمد بن عبدالحكم المؤرخ المشهور، وأخذ عن أصحاب عبدالله بن وهب القرشي الفهري تلميذِ مالكِ بن أنس إمام دار الهجرة، ولقي يونسَ بنَ عبدالأعلى الصدفي، وابن سراج الأديب، ولقي بها جماعة غيرهم.

    ثم رجع بعدها إلى بغداد، ثم بلاده طبرستان؛ ليعود بعد زيارته الأولى لبلده إلى بغدادَ مرةً أخرى، ثم رجع إلى بلده للمرة الثانية.

    حتى رجع إلى بغداد، فاستقر بها من سنة 290هـ - وعمره ست وستون سنة - إلى أن توفاه ربه في سنة 310 هـ.

    وكان هروبه من بلده في المرة الأخيرة بسبب تأليفه: فضائل الشيخين، وسيأتي في مؤلفاته.

    هذا، ولم أر في رحلاته سفرَه إلى الحرمين الشريفين لطلب العلم، ولكنه سافر للحج، ثم رجع ولم يمكُثْ فيهما للتحصيل،. كما ذكره في شرح حديث "الهميان" وسيأتي في مؤلفاته برقم 18.

    وعليه، فكانت رحلته - رحمه الله - مركَّزة بين قرى الري والعراق ومصر، وبها اجتمع بأكابر العلماء والحفَّاظ فأسند عنهم، وأخذ من علومهم ما تأهَّل به لمكانته التي وصل إليها.

    وبالمناسبة أُشيدُ بأهمية الرحلة لله بسبب طلب العلم، هذه السُّنة التي لا بد أن يذيعها وينشرَها أهل العلم وطلابه؛ ففيها همَّة وتجرد للعلم، واجتماع بأكابر أهله، ولو لم يكن فيها إلا إتعاب النفس بسبب ذلك، ونيل أجره من الله تعالى، لكفى حافزًا؛ فإنه جهاد وصبر على طاعة الله.

    ومن العجائب في رحلة ابن جرير ما رواه الخطيب البغدادي في تاريخه بسنده، عن أبي العباس البكري قال: جمَعت الرحلةُ بين ابن جرير وابن خزيمة ومحمد بن نصر المروزي ومحمد بن هارون الروياني بمصر، فأرملوا ولم يبق عندَهم ما يقوتهم، وأضرَّ بهم الجوع، فاجتمعوا ليلةً في منزل كانوا يأوون إليه، فاتفق رأيُهم على أن يستهموا ويضربوا القرعة، فمن خرجت عليه سأل لأصحابه الطعام - أي: شحذ واستعطى - فخرجت القرعة على ابن خزيمة، فقال لأصحابه: أمهلوني حتى أصلي ركعتين صلاةَ الخيرة - أي: الاستخارة - قال: فاندفع في الصلاة، فإذا هم بالشموع، وخصي من قبل الوالي يدق الباب، ففتحوا.

    فقال: أيكم محمد بن نصر؟ فقيل له: هو ذا، فأخرج صُرَّةً فيها خمسون دينارًا فدفعها إليه، ثم قال: أيكم محمد بن جرير؟ فأعطاه خمسين دينارًا، وكذلك الروياني وابن خزيمة.

    ثم قال: إن الأمير كان قائلاً - نائمًا في القائلة، وهي نصف النهار - بالأمس، فرأى في المنام أن المحامد جِياعٌ قد طووا كشحهم، فأنفذ إليكم هذه الصرر، وأقسم عليكم إذا نفدت فابعثوا إليَّ أحدَكم.

    وهؤلاء كلهم اسمهم محمد، وهم أئمة زمانهم، فهذا ابن جرير صاحبنا، وأبو بكر محمد بن خزيمة صاحب (الصحيح) و(التوحيد)، ومحمد بن نصر صاحب (تعظيم قدر الصلاة) و(المسند) وغيرهما، ومحمد بن هارون الروياني صاحب (المسند) العالي سندًا ورتبة.

    وفي الجملة: فإنه من المشهور على مر التاريخ أن أهل العلم فقراء مساكين، ومتقللون من الدنيا.









    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  5. #5
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,594

    افتراضي رد: الإمام الطبري

    (5) ثناء العلماء على الإمام الطبري


    عبد العزيز بن إبراهيم الشبل


    حَظِي الشيخ ابن جرير بثناء العلماء في القديم والحديث، وما نال ذلك إلا بتوفيق الله - سبحانه وتعالى - له، ثم جِدِّه وحرصه على العلم بما هيَّأ الله له بذاته من أسباب النبوغ والذكاء، وما تميز به من الإخلاص لله في الطلب، وبذل الأسباب الممكنة في التحصيل، حتى فاق أقرانَه، بل تميَّز واشتهر على مشايخه، فكان - رحمه الله - من أفراد العلماء في الزمان، ولا تزال تلهج الألسنة بالثناء عليه، والدعاء له، والترحُّم والاستغفار، ومعرفة قدره في الفنون الشرعية، وإمامته فيها.

    ومِن أجمع ما قيل في الثناء عليه ما ذكره الخطيب البغدادي في (تاريخ بغداد )، إذ قال:
    "محمد بن جرير بن يزيد بن كثير بن غالب، كان أحدَ أئمة العلماء، يُحكَمُ بقوله، ويُرجَعُ إلى رأيه؛ لمعرفته وفضله، وكان قد جمع من العلوم ما لم يشاركه فيه أحد من أهل عصره؛ فكان حافظًا للكتاب، عارفًا بالقراءات، بصيرًا بالمعاني، فقيهًا في أحكام القرآن، عالمـًا بالسُّنة وطرقها، صحيحِها وسقيمها، وناسخها ومنسوخها، عارفًا بأقوال الصحابة والتابعين، عارفًا بأيام الناس وأخبارهم، وله الكتاب المشهور في أخبار الأمم وتاريخهم، وله كتاب (التفسير) لم يُصنَّف مثله، وكتاب سمَّاه (تهذيب الآثار) لم أرَ سواه في معناه، لكنه لم يُتمَّه، وله في أصول الفقه وفروعه كتب كثيرة، واختيار من أقاويل الفقهاء، وتفرد بمسائل حُفِظت عنه".

    وأثنى عليه الحافظ الذهبي بعد كلام الخطيب المتقدم، فقال عنه: كان ثقة، صادقًا، حافظًا، رأسًا في التفسير، إمامًا في الفقه والإجماع والاختلاف، علاَّمةً في التاريخ وأيام الناس، عارفًا بالقراءات وباللغة، وغير ذلك.

    ولشيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية ثناء كثير عليه، لو جُمِع لكان في جزء لطيف، وما ذاك إلا لما عرفه من مؤلفاته وتراجمه السؤدد في العلم والحفظ والدين، فقد وصفه بأنه من العلماء الكبار، وعدَّه في عِداد أئمة الإسلام العِظَام؛ كمالك وأحمد والشافعي وأبي حنيفة والأوزاعي والليث بن سعد وأمثالهم، في المنهاج (7 /13، 286، 179).

    وقال في المنهاج أيضًا (6 /52 - 53):
    "... وهؤلاء أهل العلم الذين يبحثون الليل والنهار عن العلم، وليس لهم غرض مع أحد؛ بل يرجِّحون قول هذا الصاحب تارة، وقولَ هذا الصاحب تارة، بحسب ما يرونه من أدلة الشرع؛ كسعيد بن المسيب - وذكر طبقته -...، ومَن بعدَهم كابن شهاب الزهري - وذكر طبقته -...، إلى سفيان الثوري، إلى وكيع بن الجراح، ثم الشافعي وأحمد بن حنبل، ومحمد بن جرير الطبري وأبي بكر بن المنذر..."؛ فجعله في آخر العلماء المجتهدين المشهورين بذلك في القرون الثلاثة المشهود لهم بالخيرية على الناس من أمَّة النبي صلى الله عليه وسلم.

    وقال فيه ابن حجر الحافظ في (الميزان) كلمةً أَجمَلت فضائله، وأنصفته من خصومه (5 /100):
    " محمد بن جرير بن يزيد الطبري الإمام الجليل المفسر أبو جعفر صاحب التصانيف الباهرة، مات سنةَ عشر وثلاثمائة، ثقة، صادق، فيه تَشيُّعٌ يسير، وموالاةٌ لا تضر...".

    و لئلا أطيلَ بذكر ثنائه من أقوال العلماء - وهو كثير جدًّا - أختم بما قدَّمه بترجمته الشيخ الفقيه عبدالله بن حميد لكتابه (تهذيب الآثار) حيث قال:
    (... فكان من أثر ذلك تأليفُ المؤلَّفات الضخمة العديدة التي حوت على تراث نبيِّنا محمد صلى الله عليه وسلم، من هؤلاء الجهابذة الأفذاذ الإمام أبو جعفر محمدُ بن جريرٍ الطبريُّ، فقد أجمع المسلمون على إمامته وجلالة قدره وسَعَة علمه، وألف في ذلك المؤلفات الكثيرة النافعة التي أثنى عليها أئمة العلماء، وذكروها ومؤلِّفَها بما هو أهل...، والإمام ابن جرير أشهر من أن يُذكَر وأَعرَفُ من أن يُنكَر (ثم شرع في نبذة يسيرة مختصرة عن حياته، ومما قال فيها):... ما زال العلماء في زمانه وبعده يُثْنون عليه ويذكرون فضله وعلمه وزهده وتُقَاه، فقد كان - رحمه الله - عالمـًا بتفسير القرآن، والحلال والحرام، وعالمـًا بأخبار الناس وأيامهم، وهو من فضلاء الصالحين المتقين، شهد له أهل العلم بالفضل والتقَى؛ فقد كان إمامًا في التفسير والحديث والجرح والتعديل، وعالمـًا بالأحكام وأصولها، وله أقوال واختيارات جيدة انفرد بها"[1].


    وهذا في الحقيقة تطواف في التاريخ مما أُثنِي به على الإمام ابن جرير، وما ترك من الثناء لا يقاس بما قيل هنا، من ثناء أقرانه كابن خزيمة وعموم تلاميذه، ومترجمو الشافعية يذكرونه في طبقاتهم كابن كثير وابن السبكي، والفرغاني عبدالله، وابن رجب الحنبلي وغيرهم كثير، وهو - رحمه الله - أهل لهذا، وليس بكثير عليه.


    [1] مقدمة الشيخ ابن حميد تلك على اختصارها، إلا أنها حافلة ومركزة عن الإمام ابن جرير وحياته العلمية - رحم الله الجميع.


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  6. #6
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,594

    افتراضي رد: الإمام الطبري

    (6) أشهر تلاميذ الإمام الطبري


    عبد العزيز بن إبراهيم الشبل


    مر علينا أن الإمام الطبريَّ سَمِع من أمم من العلماء، وحاز على علو السند روايةً وفقهًا، وقد عُمِّر نحوًا من ست وثمانين سنةً؛ فلذا ولغيره حرص طلاب كثيرون على أن يأخذوا عنه علمَه الذي حازه عن الأكابر من العلماء.

    وكان من أشهر طلابه في التاريخ عند أهل العلم:
    1- أبو شعيب عبدالله بن الحسن الحرَّاني، وكان أكبر من ابن جرير.
    روى عنه الحديث خاصة، ولد رحمه الله سنةَ 205 وتوفي سنة 295، بقي من آثاره جزء من الفوائد في الحديث في ثماني ورقاتٍ بآخرها سماعات، موجودة بجامعة الرياض.

    2- الإمام الحافظ أبو القاسم سليمان بن أحمد الطبراني (360)؛ صاحب المعاجم والسنن والتصانيف، والعالم بأحوال الرجال جرحًا وتعديلاً، أخذ عنه الحديث والتفسير خاصة.

    3- الشيخ القاضي أبو بكر أحمد بن كامل (350) قاضي الكوفة، صاحب التصانيف في الفقه كـ(الشروط الكبير)، و(جامع الفقه)، وفي القراءات، وغريب القرآن، والتاريخ، وعمل كتابًا في ترجمة شيخه ابن جرير، نقل منه ياقوت في معجمه، وكان على مذهب شيخه في الفقه.

    4- الإمام أبو أحمد عبدالله بن عدي (365)، صاحب الكتاب الحافل: (الكامل في ضعفاء الرجال)، و(علل الحديث)، و(أسماء الصحابة)، و(أسامي من روى عنهم البخاري في صحيحه)[1]، كتب معجمًا لشيوخه بلغوا أكثرَ من ألف شيخ، من أشهرهم الإمام ابن جرير.

    5- القاضي أبو الفرج المعافى بن زكريا النهرواني المعروف بابن طرار (390)، كان من أشهر علماء وقته حفظًا وذكاء، وأبرز تلاميذ ابن جرير في حفظ كتبه؛ حيث حفظ مذهبَه، وشرح كتاب ابن جرير الخفيف في أحكام شرائع الإسلام، وغيرها.

    له تفسير في ستة مجلدات اسمه: (البيان الموجز عن علوم القرآن المعجز)، وكان سمع من ابن جرير وهو صغير، وأعجب به وبمذهبه في الفقه.

    وله غيرهم خلق كثير لا يشتهر بهم الإمام ابن جرير، إنما هم يشتهرون به، رحم الله الجميع.

    ومما نقله مترجموه عنه: عنايتُه بالطلبة، فكان يعود مريضَهم، ويواسي فقيرَهم، ويكثر الإحسان إليهم حتى أحبوه لخُلقه وأدبه وكريم نفسه مع علمه وحفظه، فمن ذلك: أنه ربما أجَّل درسَه لغياب أحد مقرئيه حتى يعود؛ لئلا يخصَّهم بشيء من دونه، هذا إذا رتَّب عليه جماعة القراءة في كتاب معين خلا مجالس الإملاء والتحديث.

    وكان يشاور طلابه في نوع ما يملي عليهم وكثرته، كما شاورهم في إملاء التفسير والتاريخ ورأى عجزَهم عن تحمل التطويل فيهما، فأملي مختصرَهما، وهما الموجودان المطبوعان الآن.

    ومما نقل عن معاملته لتلاميذه: أن تلميذه القاضي ابنَ كامل وجد إهانة من بعض طلاب ابن جرير في مجلسه، فانقطع عن ذلك المجلس زمانًا حتى لَقِيه ابن جرير واعتذر منه، كأن الإهانة جاءت منه هو، حتى أرضاه، وأعاده لمجلسه.

    وهذا وأمثاله أسلوب واقعي يوجب ارتباط التلميذ بشيخه ومحبته له وتعظيمه إياه؛ بل وإقباله على الأخذ عنه، والحرص على العلم الذي لأجله عَظُمَ في نفس شيخه، والشيخ في نفس تلميذه.

    وقد عُنِي طلابه بتاريخ حياته وجمع نوادره وترجمته، فممن ألف في ذلك: تلميذه القاضي أبو بكر أحمد بن كامل (350)، وأبو محمد بن عبدالعزيز بن محمد الطبري، وأبو إسحاق بن إبراهيم بن حبيب الطبري، وأبو الحسن أحمد بن يحيى بن علم الدين المتكلم، ولا أدري أهو كتاب (المدخل إلى مذهب الطبري ونصرته) أو كتاب آخر مستقل، وأبو محمد الفرغاني، ونقل جملاً منها الذهبيُّ في ترجمته في السير، كل هؤلاء نقل عن كتبهم ياقوتُ في ترجمته المطولة للإمام ابن جرير في معجم الأدباء، ومنهم القفطي صاحب (إنباه الرواة) ألف كتابًا مستقلاًّ سماه: (التحرير في أخبار محمد بن جرير) وصفه فيه بأنه: كتاب ممتع.

    وكان أبو جعفر يحب الرائحة الطيبة، فكان في الصيف - وهو فصل انبعاث روائح الجسم من الحرارة والأنفاس - يكثر من الرياحين بأنواعها والأطياب.

    وكان برنامجه اليومي المعهود في درسه وتعليمه كما وصفوه: أنه كان إذا أكل طعامه في الصباح نام في ثياب تشبه الكتَّان، في قميص قصير الأكمام مصبوغ بالصندل وماء الورد، ثم يقوم يتوضأ لصلاته، فيصلي الظهرَ، ثم يجلس يكتب ويؤلف إلى صلاة العصر، ثم يصليها ويجلس للطلاب يملي عليهم أو يقرؤون عليه، ويشرح لهم حتى المغرب، ثم بعد صلاة المغرب يجلس لدرس الفقه إلى صلاة العشاء، ثم يقوم إلى داره، ويقسِّم ليلته بين حزبه ونومه وحاجته.


    ولهذا أكثر التصنيف، حتى حُزِرَ ما يكتبه كل يوم - بالمتوسط - بأربعين ورقةً أو نحوها، فلله درُّ العالم الرباني.


    [1] هذا الكتاب والذي قبله مخطوطان، الأول بإحدى مكتبات المدينة وإستنبول، والثاني بظاهرية دمشق برقم 389.










    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  7. #7
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,594

    افتراضي رد: الإمام الطبري

    (7) خلق الإمام الطبري وذكاؤه وحفظه


    علي بن عبد العزيز الشبل



    إن الصفات الخَلْقِيَّة في الواقع لا يتوجه بها أو منها إلى مدح المخلوق والثناء عليه بها، إلا إظهارًا لمدح خالقه وموجده، الذي خلقه على هذه الصورة، وأبدعه عليها، وهو وغيره من صنع الله الذي أتقن كل شيء.

    ويذكر - بالمناسبة - أن الإمام عبدالعزيز بن يحيى الكناني (240) صاحب (الحيدة والاعتذار) في مناظرة المرِّيسي، والمعتزلة بحضرة المأمون، وكان دميمَ الخَلْقِ والصورة، فلما حضر مجلس المأمون لعقد المناظرة أول مرة، سَخِرَ مِن خَلْقِه جلساؤُه من أهل الاعتزال، وهو ساكت، ثم باسطه المأمون وطلب منه مناظرة خصومه، فقال قبل البَدْء بمقصود حضوره، لما قال فيه واصفه: يا أمير المؤمنين، يكفيك من كلام هذا قُبْحُ وجهه، لا والله ما رأيت خلَقَ اللهُ قطُّ أقبحَ منه وجهًا!

    ثم ذكر أن المأمون نظر إلى جَصٍّ قد انتفخ في إيوانه، فقال لأحد جلسائه: أما ترى هذا الذي انتفخ من هذا النقش، وإنه سيقع فبادر إليه، فقال له صاحبه: قطَعَ الله يدَ صانعه؛ فإنه قد استحق العقوبة على عمله هذا.

    فقال الكناني: يا أمير المؤمنين، قد سمعت بعضَ من هنا يقول لك: يكفيك من كلامه قُبْحُ وجهه، فما يضرني قبحُ وجهي مع ما رزقني الله عز وجل من فهمِ كتابه، والعلم بسنة نبيه صلى الله عليه وسلم! فتبسم المأمون حتى وضع يده على فيه، ثم قلت: يا أمير المؤمنين، أطال الله بقاءَك، فقد رأيتك تنظر هذا النقش وانتفاخ الجص وتذكره، وسمعت فلانًا يعيب ذلك، ويدعو على صانعه، ولا يعيب الجص ولا يدعو عليه؟!

    فقال المأمون: العيب لا يقع على الشيء المصنوع، وإنما يقع على الصانع! قلت: صدقتَ يا أمير المؤمنين، ولكن هذا يعيب ربي لمَ خلقني قبيحًا، فازداد تبسم المأمون حتى ظهرت ثناياه [1].

    ولم أقصد من هذه العبرة سوى التأكيد على أنه لا عَلاقة بين فضل العالم أو نقصه وصفته الخلقية، وما تعرضت لوصف - ما ذكره المترجمون على قلته - من خلق ابن جرير إلا ليتصور في الذهن لا لمدحه به.

    فمن ذلك أنهم وصفوه بأنه طويلُ القَامة، نحيفُ البدن، لونه أسمر، كان واسع العينين كبيرَهما، كثير اللحية، إلا أن السواد عليها هو الغالب، ومات ولم يمتلئ رأسه شيبًا، وقد كُفَّ بصره في آخر حياته، بل قبل موته بمدة، وبعد موت شيخه داود الظاهري سنة (270هـ).

    وكان ابن جرير له ذوق في أكله وطعامه، فكان لا يحب التمر ولا العسل[2]، كما كان طبيبًا يطبِّب نفسه لا غيره، فيجعل لنفسه الأدوية المتنوعة.

    فقد اتفق أنه مَرِض مرةً فأرسل إليه الوزير علي بن عيسى طبيبًا، فسأله عن حاله، فعرَّفه ابن جرير بما يشكو منه وأخبره بما تعاطاه من الأدوية والطعام، وما يعتزم عليه مستقبلاً، فقال له الطبيب: ليس عندي شيء فوق ما وصفتَه لنفسك! والله لو كنت في ملَّتنا لعُدِدتَ من الحواريين - لعله يقصد ملة الأطباء، أو هو نصراني -، ثم عاد الطبيب إلى الوزير فقصَّ عليه أمر الطبري، فأعجبه.

    وكان أبو جعفر مريضًا بذات الجنب، فكان يعتاده ويتردد عليه وجعه.

    ومما ظهر على ابن جرير ذكاؤه المفرط، وهو نعمة من الله على عبده، وفَّقه الله إلى استغلالها في نفعه الدنيوي والأخروي؛ بتسخيرها في خدمة دينه بالعلم والتعليم.

    والذكاء لا شك أنه من أهم مقوِّمات وأسباب التحصيل التام للعلم، كما قال الشافعي - رحمه الله -:
    أخي لن تنال العلمَ إلا بستةٍ
    سأُنْبيك عن تفصيلها ببيانِ
    ذكاءٌ وحرصٌ واجتهادٌ وبُلغةٌ
    وصحبةُ أستاذٍ وطولُ زمانِ

    وابن جرير - رحمه الله - وفِّق لهذه الأسباب الستة كلها.

    ويربط كثير من الباحثين بين الذكاء والحفظ على أن الحفظ لازمٌ للذكاء، وهذا صحيح في الجملة، لكنه لا يلزم من الذكاء الحفظ، ولا من الحفظ الذكاء؛ إذ يوجد حفَّاظ لكنهم بضد ذلك في الذكاء، وربما يكون ذكيًّا لكنه في الحفظ بليد.

    لكنه في الغالب الأعم أن الذكي إذا وَظَّف ذكاءه في حفظه وما ينفعه، فإنه ينتفع به.

    والإمام ابن جرير ممن تكاملت عنده هاتان الصفتان، ومثله ممن بعده شيخ الإسلام ابن تيمية.

    ومن شواهد هذا أنه - رحمه الله -: حفظ القرآن وعمره سبع سنين، وأمَّ الناس وعمره ثمان، وكتب الحديث وعمره تسع، وهذا في العرف العام يعد طفلاً صغيرًا، وهو في زمننا هذا لا يخرج من بيته.

    ومن قوة حفظه أيضًا قصته وأقرانه مع شيخهم الحافظ أبي كريب الهمداني الكوفي حيث اختبرهم في حفظ ما ألقاه عليهم، ولم يجد فيهم من يحفظه إلا الحافظ ابن جرير؛ فكان أن قرَّبه وأدخله داره من بينهم، وكان عمره آنذاك في حدود العشرين سنة.

    كذا لما دخل ابن جرير مصر ولقي الشيخ أبا الحسن عليَّ بن سراج المصري، لم يجد ابن سراج في مصر من يحفظ شعر الطرماح بن حكيم (135هـ) سواه، فأملاه الطبري عليه وفسَّر غريبَه.

    وهو - رحمه الله - لم يدخل مصر ويلقى ابن السراج إلا بعد سنة 256هـ، وكان عمره حينئذٍ ثنتين وثلاثين سنة.

    وذكر عن نفسه أنه طلب من صديقه العَروضَ للخليل بن أحمد الفراهيدي -الإمام المشهور بالعربية وفنونها - قال: فجاء به، فنظرت فيه ليلتي، فأمسيت غيرَ عروضيٍّ وأصبحت عَروضيًّا! وذلك لما دخل مصر ومساءلة العلماء كلٌّ في فنه الذي يجيده، فكان يجيبهم كلهم، حتى جاءه رجل فسأله عن العروض، فواعده غدًا ثم أتقنه في ليلة.

    وفي هذا يقول تلميذه عبدالعزيز بن محمد الطبري - في كتابه الذي جمع فيه أخبار شيخه، ونقل منه ياقوت في معجمه -: كان أبو جعفر من الفضل والعلم والذكاء والحفظ على ما لا يجهله أحد عرفه؛ لأنه جمع من علوم الإسلام ما لا نعلمه اجتمع لأحد من هذه الأمة، ولا ظهر من كتب المصنفين، وانتشر من كتب المؤلفين ما انتشر له.

    ومن شواهد فطنته وذكائه - مع ما تقدم - ما روي بالإسناد أن رجلاً تزوج جارية، فأحبها وأبغضته حتى ضجرت منه[3]! فقال لها: لا تخاطبيني بشيء إلا قلت لك مثله، فكم أحتملُك؟

    فقالت المرأة في الحال: أنت طالق ثلاثًا. قال: فأبلستُ! فدُلِلْتُ على محمد بن جرير، فقال لي: أقم معها بعد أن تقول لها: أنت طالق ثلاثًا إن طلقتُك، فاستحسن هذا الجواب.

    والمقصود من هذا توضيح نماذج من نباهة ابن جرير، وأمثالها مبثوثة في مطولات تراجمه.


    [1] هذا الخبر مطولًا في مقدمة الحيدة والاعتذار للكناني (ص/ 27 - 31).
    [2] هذان وإن كان ابن جرير لا يحبهما إلا أن فضلهما على الطعام معلوم في الشرع والحس والتجربة، ففي صحيح مسلم من حديث عائشة مرفوعًا: ((بيت لا تمرَ فيه: جِياعٌ أهله)) مرتين، وفي الصحيحين قوله عليه الصلاة والسلام: ((إن يكن الشفاء ففي ثلاث: لعقةِ عسل، وشرطة حجَّام، وكيَّة نار))، ولكن النفس ربما تكره محبوبًا؛ لأنها تعافُه خَلْقًا أو طعمًا، وربما ضرَّها ولم ينفعها.
    [3] ذكر الشيخ صالح العثمان القاضي في فوائده ص51، أنه أحبها حبًّا شديدًا، وأبغضته بغضًا شديدًا، وكانت تواجهه بالشتم والدعاء.

    ونقل في الجواب عن الحال قولاً لابن القيم من بدائعه؛ وصفه بأنه أحسن من الوجوه المذكورة، وهو جارٍ على أصول المذهب، وهو تخصيص اللفظ العام بالنية؛ أي: نية المطلق. وراجعه فيه.









    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  8. #8
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,594

    افتراضي رد: الإمام الطبري

    (8) عقيدة الإمام الطبري


    علي بن عبد العزيز الشبل


    الإمام محمد بن جرير الطبري من كبار أئمة أهل السنة والجماعة المتَّبِعين منهجَ وعقيدة السلف الصالح في أنواع توحيد الله سبحانه وبقية أصول الإيمان وما يَتْبَعُه من مسائله والصحابة والإمامة.

    فهو في الكل على مذهب أهل الحديث، مذهب الطائفة الناجية والفرقة المنصورة، لم يُعرَفْ عنه غيرُ هذا، وتفسيره مليء بكل ما ذكرت؛ بل هو مصدر تفسير أهل السنة والجماعة.

    وقد لقي ابنُ جرير بعضَ التُّهم في مسألة أو مسألتين يأتي الكلام عليها، وقد اشتهرت عقيدته التي كتبها في مقامه الأخير في بغداد - وهي من آخر ما كتبه - وقد تلقاها العلماء والأئمة بعده بالقَبول والاستحسان[1]، وتسمى هذه العقيدة (صريح السنة) أو (شرح السنة) أو (عقيدة ابن جرير)، ويأتي الكلام عليها في آثاره ومؤلفاته.

    وقد أشار إليها الشيخ ابن تيمية في قاعدة الاسم والمسمَّى من مجموع الفتاوى (6 /187) فقال:
    (... وكما ذكره أبو جعفر الطبري في الجزء الذي سماه (صريح السنة)؛ ذكر مذهبَ أهل السنة المشهور في القرآن والرؤية والإيمان والقدر والصحابة وغير ذلك...).

    ومجمل عقيدته رواها اللالكائيُّ في (شرح أصول السنة) (2 /183) قال: (أخبرنا عُبيدُالله بن محمد بن أحمد - قراءة عليه - قال: أخبرنا القاضي أبو بكر أحمد بن كامل، قال: قال أبو جعفر محمد بن جرير:
    "فأول ما نبدأ فيه القول من ذلك كلامُ الله عز وجل وتنزيله، إذ كان من معاني توحيده؛ فالصواب من القول في ذلك عندنا: أنه كلام الله عز وجل غيرُ مخلوق، كيف كُتب، وكيف تلي، وفي أي موضع قرئ، في السماء وجد أو في الأرض، حيث حُفِظَ في اللوح المحفوظ كان مكتوبًا، أو في ألواح صبيان الكتاتيب مرسومًا، في حجر نقش، أو في ورق خط، في القلب حفظ أو باللسان لفظ.

    فمن قال غير ذلك، أو ادَّعى أن قرآنًا في الأرض أو في السماء سوى القرآن الذي نتلو بألسنتنا ونكتبه في مصاحفنا، أو اعتقد غير ذلك بقلبه، أو أضمر في نفسه، أو قال بلسانه وأنيابه، فهو بالله كافرٌ حلالُ الدم، بريء من الله والله بريء منه؛ لقول الله - جل ثناؤه -: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} [البروج: 21، 22]، وقال - وقولُه الحق -: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} [التوبة: 6]. فأخبرنا - جل ثناؤه - أنه في اللوح المحفوظ مكتوب، وأنه من لسان محمد صلى الله عليه وسلم مسموع، وهو قرآن واحد من محمد مسموع، وفي اللوح المحفوظ مكتوب، وكذلك في الصدور محفوظ، وبألسن الشيوخ والشبان متلو.

    فمن روى عنَّا، أو حكى عنَّا، أو تقوَّل علينا، أو ادَّعى علينا: أنا قلنا غير ذلك، فعليه لعنة الله وغضبه، ولعنة اللاعنين والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفًا ولا عدلاً، وهتَك سترَه، وفضحه على رؤوس الأشهاد، يوم لا ينفع الظالمين معذرتُهم، ولهم اللعنة، ولهم سوء الدار.

    وأما الصواب من القول لدينا في رؤية المؤمنين ربَّهم يوم القيامة، وهو ديننا الذي ندين لله به، وأدركنا عليه أهل السنة والجماعة، فهو أن أهل الجنة يرونه على ما صحت به الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    والصواب لدينا في القول فيما اختلف فيه من أفعال العباد، وحسناتهم وسيئاتهم: أن جميع ذلك من عند الله، والله مقدِّره ومدبِّره، لا يكون شيء إلا بإرادته، ولا يحدث شيء إلا بمشيئته، له الخلق والأمر.

    والصواب لدينا من القول: أن الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص، وبه الخبر عن جماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعليه مضى أهل الدين والفضل.

    والقول في ألفاظ العباد بالقرآن: فلا أثر فيه أعلمه عن صحابي مضى، ولا من تابعي قَفَا، إلا عمن في قوله الشفاء والغنا، رحمة الله عليه ورضوانه، وفي أتباعه الرشد والهدى، ومن يقوم لدينا مقام الأئمة الأولى: أبو عبدالله أحمد بن محمد بن حنبل، فإن أبا إسماعيل الترمذي[2] حدثني قال: سمعت أبا عبدالله أحمد بن محمد بن حنبل يقول: اللفظية جهمية؛ لقول الله - عز وجل {حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} [التوبة: 6] ممن يسمع؟!

    وأما القول في الاسم أهو المسمَّى (أو) غير المسمى، فإنه من الحَمَاقات الحادثة التي لا أثر فيها فيتَّبع، ولا قول عن إمام فيستمع، والخوض فيه شين، والصمت عنه زين، وحسب امرئ من العلم به والقول فيه أن ينتهي إلى قول الصادق عز وجل، وهو قوله: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الإسراء: 110]، وقوله: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف: 180]، ويعلم أن ربه هو الذي ﴿ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى * لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى ﴾ [طه: 5، 6]، فمن تجاوز ذلك فقد خاب وخسر.

    فليُبلِّغ الشاهد منكم أيها الناس من بَعُدَ منَّا فنأَى، أو قرُب فدنا:
    أن الدين الذي ندين به في الأشياء التي ذكرناها ما بيَّناه لكم على ما وضعناه، فمن روى خلاف ذلك، أو أضاف إلينا سواه، أو نحلنا في ذلك قولاً غيره، فهو كاذب (مفترٍ) مُعْتَدٍ متخرص، يبوء بإثم الله وسخطه، وعليه غضب الله ولعنته في الدارين، وحق عليه أن يورده المورد الذي وعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرباءه، وأن يحلَّه المحل الذي أخبر نبيُّ الله صلى الله عليه وسلم أن الله يحله أمثاله[3].


    [1] من هؤلاء: اللالكائيُّ في (شرح أصول السنة)، وقوام السنة في (الحجة في بيان المحجة)، وابن تيمية في (الحموية الكبرى)، وأبو يعلى في (إبطال التأويلات)، وابن القيم في (اجتماع الجيوش الإسلامية)، والذهبي في (العلو للعلي الغفار)، وغيرهم ممن لم يحضرني ذكرهم.
    [2] هو الإمام الثقة الحافظ محمد بن إسماعيل بن يوسف السلمي الترمذي (190- 280هـ)، وهو غير الإمام أبي عيسى الترمذي صاحب السنن. روى عنه أهل السنن وغيرهم، ومدحه الأئمة ووثَّقوه حتى قال الذهبي: انبرم الحال على توثيقه وإمامته. انظر التهذيب 9 /62 وتهذيب الكمال 1174 وطبقات الحنابلة 1 /279 والسير 13 /242 وتاريخ بغداد 2 /42 وغيرها.
    [3] هذه قطعة من عقيدته رواها عنه اللالكائي بالإسناد الصحيح، وبقيتها مطبوعة في صريح السنة، مبثوثة في مواطنها من تفسيره الزاخر بمثل هذا وأكثر منه جدًّا: (جامع البيان).








    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  9. #9
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,594

    افتراضي رد: الإمام الطبري

    (9) مذهب الإمام الطبري الفقهي وعبادته وتدينه


    علي بن عبد العزيز الشبل


    درَس الإمام ابن جرير الفقه - وهو علم فروع الشرع وتفاصيل الأحكام - على أئمة المذاهب في زمنه، حيث تلقَّاه عن أصحاب الإمام الشافعي في بغداد ومصر كالحسن بن محمد الزعفراني، وأبي سعيد الإصطخري في بغداد، والربيع بن سليمان الأزدي، وإسماعيل بن يحيى المزني.

    ولذا أظهرَ رحمه الله في أول حياته التمذهب بالمذهب الشافعي مدة من الزمن، مع دراسته للمذهب المالكي في مصر على أبناء عبدالله بن عبدالحكم تلاميذِ ابن وهب صاحب مالك، وتلقى فقهَ الظاهرية على يد مؤسس المذهب الظاهري: داود بن علي الأصبهاني ببغداد، وقبل ذلك تلقَّى مبادئ الفقه الحنفي على أبي مقاتل بالري[1].

    لكنه - رحمه الله - مع ما أوتي من استعداد وتحصيل وبلوغ في العلم، لم يستمر طويلاً في اتباع مذهب الشافعي بل ذهب إلى الاجتهاد، فكان من الأئمة المجتهدين اجتهادًا مطلقًا، ولم يلتزم مذهبًا معينًا.

    قال الفرغاني أبو محمد: حدثني هارون بن عبدالعزيز، قال لي أبو جعفر الطبري: أظهرت مذهب الشافعيَّ، واقتديت به ببغداد عشر سنين، وتلقَّاه مني ابن بشار الأول أستاذ ابن سُرَيْج، قال هارون: فلما اتَّسع علمه أداه اجتهاده وبحثُه إلى ما اختاره في كتبه، وكان مذهبه هذا المختار لديه عند تلميذه ابن طرار المعافى بن زكريا بعد ابن جرير.

    ولذا نلاحظ وجود ترجمة ابن جرير في طبقات الشافعية؛ لأنه كان في مبتدئه على مذهب الإمام الشافعي، ثم انتقل منه إلى الاجتهاد المطلق - على اصطلاح الأصوليين - بعد اتساع العلم والتجرد لمدلول النصوص، فلم يقلِّد أحدًا.

    وكان الشيخ تقي الدين بن تيمية يعده في عداد المجتهدين الكبار من أئمة المسلمين.
    •••

    عبادته وتدينه:
    إن الميزة الواضحة للعلماء في كل عصر هي التدين، بالتمسك بما علِموه من أحكام الشريعة وسلوكها ظاهرًا وباطنًا.

    ومن هؤلاء: الإمام ابن جرير الطبري - مع ملاحظة النسبة والتناسب بين تدينه وحال عموم أهل عصره، وهم أحسن تدينًا ممن بعدهم - فداوَمَ على التمسك والعبادة حتى في الأوقات الحرجة في المرض، أو الكبر وبلوغ الأجل.

    ويروي أبو بكر الدينوري صاحبه: أنه في يوم الاثنين الذي تُوفِّي فيه ابن جرير طلب ماءً ليتوضأ أو ليجدد وضوءه، فقيل له: تُؤخِّرُ صلاة الظهر - التي كان يستعد لها - وتجمع بينها وبين العصر؛ لأن الله سبحانه رخص الجمعَ بين الصلاتين للمريض وأهل الأعذار في حديث ابن عباس وأبي هريرة وغيرهما، لكنه رحمه الله أبى، وصلى الظهر مفردة، والعصر في وقتها، صلاهما أتمَّ صلاةٍ وأحسنها، ثم توفي في آخر اليوم.

    وابن جرير من العلماء العُزَّاب فلم يتزوج ولم يتسرَّ، وكان من عفافه أنه قال: ما حللت سراويلي في حرام ولا حلال قطُّ.

    وكان رحمه الله يؤم الناس في رمضان، وله صوت شجيٌّ مجوَّد حسن، كان يسعى إلى سماع قراءته العلماء، قال أبو علي الطوماري: كنت أُحمَل إلى بغداد في شهر رمضان بين يدي أبي بكر بن مجاهد[2] إلى المسجد لصلاة التراويح، فخرج ليلة من ليالي العشر الأواخر من داره، واجتاز على مسجده فلم يدخله وأنا معه، وسار حتى انتهى إلى آخر سوق العطش، فوقف على باب مسجد محمد بن جرير، وابن جرير يقرأ سورة الرحمن، فاستمع قراءته طويلاً ثم انصرف، فقلت له: يا أستاذ، تركت الناس ينتظرونك؛ وجئت تسمع قراءة هذا؟ فقال: يا أبا علي، دَعْ هذا عنك، ما ظننت أن الله خلق بشرًا يحسن أن يقرأ هذه القراءة، أو كما قال.

    فهذا شيخ المقرئين في زمنه ببغداد يثني على قراءة ابن جرير هذا الثناء، ولعمري فإن القراءة إن صدرت من قلب خاشع خاضع منيب كان لها وَقْعٌ في النفوس وأثر عليها، والواقع يشهد لهذا.

    ومما يدل على عبادته ما ذكره مترجموه مما أودعه في كتابه "أدب النفوس الشريفة" من معالم وآثار التدين في التوكل والورع والإخلاص والتواضع ومراعاة النفوس وأحوالها.

    وهو مع ما كان فيه من الاشتغال بالتدريس والتأليف والتصنيف والإملاء والإقراء... كان مع كل هذا لا يدع حزبَه من القرآن، بل ذُكر أنه يقرأ كل ليلة ربع القرآن فيختم في أربع ليالٍ.

    وهذا لا شك أنه من توفيق الله له ومباركته لوقته وعمره، وإلا فما الوقت الذي يسع بعض هذا، فضلاً عن كله؟!

    وإذا نظرت إلى التَّقِيِّ وجدته
    رجلاً يُصدِّقُ قولَه بفعالِ
    وإذا تناسبتِ الرجال فما أرَى
    نسبًا يُقاس بصالح الأعمالِ


    [1] ومما يتبادر هنا إلى الذهن: لمَ لم يدرس ابن جرير المذهب الحنبلي؟
    وجوابه: أن ابن جرير كان معاصرًا لأحمد بن حنبل ولم يدركه مشاهدةً، بل أدرك أبناءه وتلاميذه، ولم يكن حينئذٍ المذهب الحنبلي الفقهي قد قُعِّد ودُوِّن - كما عليه فيما بعد القرن الرابع - بل كان مذهب أحمد المشهور عند تلاميذه هو مذهب كبار المحدثين الاستنباطي، هذا من جهة، ومن جهة أخرى أن ابن جرير كان يميل إلى أن الإمام أحمد كان محدِّثًا ولم يكن فقيهًا، فأهمل ذكر مذهبه في (اختلاف الفقهاء)، مع ذكر مذاهب المجتهدين كأبي حنيفة ومالك والشافعي والأوزاعي والليث بن سعد مما أشغب به عليه من جهته.
    [2] هو الإمام المقرئ المحدث النحوي، بل شيخ المقرئين أحمد بن موسى بن العباس بن مجاهد البغدادي (245 - 324)، مؤلف كتاب (السبعة في القراءات ). انظر: السير (15/ 273)، وتاريخ بغداد (5/ 144)، ومعرفة القراء (1/ 216)، ومعجم الأدباء (5/ 65)، وغاية النهاية (9/ 139).


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  10. #10
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,594

    افتراضي رد: الإمام الطبري

    (10) جرأة الإمام الطبري في إظهار الحق


    علي بن عبد العزيز الشبل





    لما عاش الإمام الطبري في زمن الفتن، وانتشار أهل الأهواء والبدع من الجهمية والمعتزلة والرافضة والخوارج - لم يبالِ بهم، فصدع مبيِّنًا الحق، مقتصدًا للرد عليهم ومناظرتهم في كتبه، فالتفسير مليء بالمحاجة لهم، والمخاصمة بطرقهم العقلية، ومسائلهم الكلامية.

    وكتابه هذا (التبصير في معالم الدين) [1] تدور قضاياه الأصلية على الرد على المعتزلة خصوصًا، وبقية المبتدعة ضمنًا، وكذا تفسيره الحافل النفيس مليء بالنقض على أهل البدع، وهدم أصولهم وفصولهم.

    وبالجملة فقد كان رحمه الله قويًّا في الحق، لا تأخذه في الله لومة لائم، والشيء من معدنه لا يستغرب، فإذا لم يكن العلماء - الذين امتلأت قلوبهم نورًا ومعرفة بالله وصفاته وحقوقه، ومآلهم وما عند ربهم - يَصْدعون بالحق ويمتثلون ما علموا؛ فمن يكون كذلك؟!

    فقد وصفه الذهبي: بأنه كان ممن لا تأخذه في الله لومة لائم، مع عظيم ما يلحقه من الأذى والشَّناعات من جاهل، وحاسد، وملحد، فأما أهل الدين والعلم فغيرُ منكرين علمه وزهده في الدنيا، ورفضه لها وقناعته - رحمه الله - بما كان يرد عليه من حصة من ضَيْعة خلَّفها له أبوه بطبرستان يسيرة.

    وفي جرأته وعدم مبالاته بابن الكبير والأمير في مجلس العلم: ما رواه ابن عساكر بسنده عن تلميذه عثمان الدينوري قال: حضرتُ مجلس محمد بن جرير، وحضر الفضل بن جعفر بن الفرات - وهو ابن الوزير - وكان قد سبقه رجل، فقال الطبري للرجل: ألا تقرأ - يعني الدرس - فأشار الرجل إلى ابن الوزير؛ تقديمًا له على نفسه بالقراءة، وإن كان الطالب سبقه في الحضور، فقال له الطبري: إذا كانت النَّوْبةُ لك، فلا تَكتَرِثْ بدجلة ولا الفرات.

    قال الدينوري: وهذه من لطائفه وبلاغته وعدم التفاته لأبناء الدنيا؛ حيث شبَّه ابن الوزير بالنهر الكبير.

    كما كان سريعًا في إنكار المنكر، والتغليظ على صاحبه إن كان من أهل الأهواء، خصوصًا إذا كان المنكر في العقيدة...

    والمقصود من هذا أنه - رحمه الله - كان قويًّا في الحق، جريئًا في إحقاقه وإثباته، وإن خالف الناس.

    وفي حديث عائشة بنت الصديق - رضي الله عنهما - في الصحيح في الكتاب الذي بعثته إلى معاوية، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «من ابتغى رضا الله بسخط الناس، رضي الله عنه وأرضى عنه الناس، ومن ابتغى رضا الناس بسخط الله، سخط الله عليه وأسخط عليه الناس».


    وفي حديث سهل بن سعد مرفوعًا أن النبي عليه السلام قال للرجل الذي ابتغى عملاً يحبه به الله والناس: «ازهَدْ في الدنيا يحبك الله، وازهد فيما عند الناس يحبك الناس»؛ حديث حسن خرجه النووي في الأربعين.


    [1] طبع هذا الكتاب أخيرًا في مجيليد بتحقيقي عن نسخة وحيدة، أصلها بمكتبة دير الإسكوريال بالأندلس، واسمه المعنون به على الخطية: (تبصير أولي النهى ومعالم الهدى).









    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  11. #11
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,594

    افتراضي رد: الإمام الطبري

    (11) زهد الإمام الطبري وورعه


    علي بن عبد العزيز الشبل


    الزهد والورع اختلفت عبارات العلماء في الفرق بينهما، وبيان حدِّهما، إلا أنه بينهما اشتراك، والورع أخص من الزهد؛ بل يتضمنه.

    فالزهد: ترك شهوات الدنيا إيثارًا لنعيم الآخرة، والزاهد: هو الذي ترك ملذات الدنيا بعد أن قدَر عليها.

    أما حد الورع، فهو عزيز جدًّا، حتى سئل الإمام أحمد: هل للورع حدٌّ يعرف؟ فتبسم - رحمه الله - وقال: لا أعرفه.

    وقال تلميذه أبو بكر أحمد المَرْوَزيُّ: سمعت أبا عبدالله أحمد بن حنبل وذكر أخلاق الوَرِعِين، فقال: أسأل الله ألا يمقتَنا! أين نحن من هؤلاء؟! يقول هذا الإمامُ أحمد؛ فأين نحن منه؟ ومما يقوله عن نفسه؟ الله المستعان!

    والإمام ابن جرير لا ينزل عن مرتبة أولئك العلماء في هذا، فقد كان عفيفًا زاهدًا وَرِعًا تاركًا أهل الولايات، كارهًا التزلف للسلاطين والأمراء وقبول هداياهم ومنائحهم، قنوعًا بما يرد عليه من المزرعة التي تركها له أبوه بطبرستان؛ ولذا كثيرًا ما يقرأ - ويقال: إنه من شعره -:
    إذا أعسرتُ لم يعلم شقيقي
    و أستغني فيستغني صديقي
    حيائي حافظٌ لي ماءَ وجهي
    ورفقي في مطالبتي رفيقي
    ولو أني سمحت ببذل وجهي
    لكنت إلى الغنى سهل الطريق

    هذه نظرته - رحمه الله - للدنيا، ومضى على هذه النظرة في كل حياته، حتى إنه ربما أبطأت عنه نفقته، فيضطر إلى فَتْق قميصه وبيعه.

    وسبقت قصته مع محمد المروزي وابن خزيمة والروياني لما اجتمعوا في الطلب بمصر، وضاقت عليهم النفقة جدًّا، حتى طووا أيامًا لا يجدون ما يأكلون، فكانت كرامتهم نفقة الأمير عليهم وهم لم يسألوه، بل رأى منامًا بحال المحامد الأربعة هؤلاء.

    ومن شواهد زهده أن الخليفة المكتفي بالله (289 - 295) قال لوزيره الحسن بن عباس: أريد أن أوقف وقفًا تجتمع أقاويل العلماء على صحته ويسلم من الخلاف، قيل له: لا يقدر على ذلك إلا ابن جرير، فأحضر ابن جرير، فأملى عليهم كتابًا لذلك،

    فلما تم ذلك الكتاب، أعطي جائزة سنية (ثمينة)، فأبى رحمه الله قَبولَها فعزم عليه، أنه لا بد من قبول الجائزة أو تُقضَى لك حاجة، فقال: نعم، الحاجة، أسأل أمير المؤمنين أن يتقدَّم إلى الشُّرَط أن يمنعوا السُّؤَّال من دخول المقصورة يوم الجمعة للاستعطار، فعَظُم رحمه الله في نفوس الخليفة وأمرائه، وتقدَّم بذلك عندهم.

    فانظر إليه لم يتحرَّ شيئًا لنفسه، وإنما منع المسألة في المسجد يوم الجمعة، فهي مصلحة عامة.

    ومن نماذج زهده ما رواه الفرغاني في ذيله على تاريخ الطبري: أن ابن جرير لما دخل بغداد في أول أمره في الطلب، سرقت بضاعتُه التي يتقوت منها، فباع كمَّيْ قميصه.

    فقال له بعض إخوانه: تنشَّط لتأديب ولد الوزير أبي الحسن يحيى بن خاقان؟ قال أبو جعفر: نعم، فمضى ذلك الصديق وسهل هذا الأمر، وأعار ابن جرير ثوبًا، فقربه الوزير ابن خاقان ورفع مجلسه وأجرى عليه عشرة دنانير في الشهر للتأديب.

    فقبل أبو جعفر مشترطًا رخصة له في وقت طلبه العلم وللصلاة وللراحة، وسأله أن يسلفه رزق شهر ففعل الوزير.

    فلما دخل حجرة التأديب، وخرج إليه ابن الوزير وهو المشهور بعدئذٍ بأبي يحيى، أخذ يعلمه حتى كتب على اللوح، فأخذه خادمه فرحًا وأدخله على أهله وخدمه لتعلمه الكتابة، فلم تبق جارية في القصر إلا أهدت لابن جرير صينيةً فيها دراهم ودنانير، لكنه - رحمه الله - ردَّ الجميع، وقال: قد شورطت على شيء، فلا آخذ سواه، فعلم بذا الوزير فأدخله عليه واعتذر منه، وعظُم في نفسه.

    أقول هذا دلالة على عدم مبالاته لهذا الحطام وإن كَثُرَ، ولو أخذه لم يلحقه حرج؛ لأنه ليس مقابل تعليمه، بل هدية له زيادة على راتبه الذي رتبه مع الوزير واتفق معه عليه، ولكنه شأن الزهد وفراغ القلب من الدنيا.

    وثالثة أختم بها الكلام عن زهده: أن الوزير العباس بن الحسين أرسل إلى ابن جرير قائلاً: أحببت أن أنظر في الفقه، وطلب من ابن جرير أن يعمل له مختصرًا فيه، فكتب ابن جرير كتابه (اللطيف من الخفيف في أحكام شرائع الإسلام)، وهو مختصر عن كتابه الكبير (لطيف القول)، فلما تم المختصر أرسله للوزير فأعجبه وأرسل إليه بألف دينار هدية، لكنه - رحمه الله - لم يقبلها، ولما طلب منه أن يأخذها ويتصدق بها على من يرى، قال: لا، هم أعرف بمن يستحق عطاياهم، أو هم يرون أهلها.

    وهذه شبيهة بما سبقها من طلب الخليفة المكتفي، ويظهر أنها واقعة ثانية؛ لاختلاف السياقين، وربما تكون قصة واحدة لوحدة الموضوع والهدف.

    أما ورعه - رحمه الله - فشيء ليس بمستغرب على أمثاله، لكنه عزيز في منواله، وأكثر ما يعتري العلماء مما يبيِّن ورَعَهم عزوفُهم عن تولي القضاء، وهو ما وقع لشيخنا أبي جعفر الطبري.

    وذلك أن الوزير يحيى بن خاقان - في عهد المتوكل وبعده - لما تقدم في وزارته، بعث لأبي جعفر بمال كثير، فأبى رحمه الله أن يقبله، ثم عرض عليه القضاء فامتنع منه ابن جرير، ولكنَّ أصحابه ومحبِّيه عاتبوه على امتناعه، وقالوا له: لك في هذا ثواب، وتُحيي سنةً قد اندرست، وطمعوا أن يقبل ولاية المظالم، لكنه - رحمه الله - انتهرهم وقال: قد كنت أظن أني لو رغبت في ذلك لنهيتموني عنه، فاستحيوا من جوابه.

    ومن ورعه إباؤُه عن أخذ ما دفعته له الجواري لما أدب ابن الوزير وعلمه الكتابة؛ حيث أساء إليهن عدم أخذه لهداياهن، فبلغت الإساءة الوزير فقال له: يا أبا جعفر، سَرَرْتَ أمهات الأولاد في ولدهن فبَرَرْنَك، فغممتهن بردِّك الهدية، فأجابه ابن جرير: لا أريد غير ما وافقتني عليه.

    كانت هذه القصة وأبو جعفر شابًّا لم يصل الثلاثين من عمره، والدنيا حينئذٍ زهرة في حال مثله.

    وقد وصفه تلميذه عبدالعزيز بن محمد الطبري: بكونه شديد التوقِّي والحذر مما ينافي تدينه وورعه، خصوصًا مما يدخل عليه من زهرة الدنيا، وأنه كان على قسط عظيم من النزاهة والبعد عن المشتبهات، واقتصاره الشديد على ما يصله من إرثه بطبرستان، حتى إنه لما دخل مصر وعَظُم شأنه عند العلماء هناك، ونزل جوار شيخه الربيع بن سليمان الشافعي بأمره له، جاءه أصحاب الربيع فقالوا له: تحتاج إلى قصرية، وزير، وحمارين، وسدة (وهي السرير).

    فأجابهم ابن جرير: أما القصرية، فأنا لا ولد لي، وما حللت سراويلي على حرام ولا حلال قط.


    وأما الزير، فمن الملاهي، وليس هذا من شأني.

    وأما الحماران، فإن أبي وهب لي بضاعة، وأنا أستعين بها في طلب العلم، فإن صرفتها في ثمن الحمارين، فبأي شيء أطلب العلم؟!

    فتبسموا، فقلت: إلى كم يحتاج هذا؟ فقالوا: إلى درهمين وثلثين، فأخذوا ذلك مني، ثم علمت أنها أشياء متفقة.

    وجاؤوني بإجَّانة وحب للماء (وهما إناء لغسل الثياب، وزير) وأربع خشبات قد شدوا وسطها بشريط (وهي السرير)، وقالوا: الزير للماء، والقصرية للخبز، والحماران والسدة تنام عليها من البراغيث.

    قال: فنفعني ذلك، وكنت لما كثرت البراغيث ودخلت داري نزعت ثيابي وعلقتها على حبل قد شددته، واتزرت وصعدت إلى السدة خوفًا منها.

    هذه حال الإمام في داره، وهي غاية الزهد والتواضع وقلة ذات اليد، مع عفافه وإبائه عما عند الناس، ولو كان حقيرًا قليلاً، فما أدري لو دخلها سارق ما يجد فيها ليخرج إلا بحسرة الندامة، وربما التوبة والإنابة؟









    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •