قال الشيخ صالح آل الشيخ فى شرح كشف الشبهات
قال الامام محمد ابن عبد الوهاب رحمه الله: (وهذا التوحيد هو معنى قولك: لا إله إلا الله) هذا التوحيد الذي سبق بيانه: وهو إفراد الله -جلّ وعلا- بالقصد، بالذبح، بالنذر، بالاستغاثة، بجميع أنواع العبادة،
هذا هو التوحيد، وهو معنى: (لا إله إلا الله).
لأن كلمة (لا إله إلا الله) مشتملة على نفي وعلى إثبات،
فالنفي (بلا) والإثبات (بإلا).
والذي نفي (بلا)هو استحقاق العبادة، أو أن يكون ثم إله حق غير الله جل وعلا،
فلا إله إلا الله معناها:لا معبود حق إلا الله.
لأن كلمة (إله) هذه معناها معبود، وهذا هو المعروف في العربية، وهو المعروف في حال العرب أيضاً؛ لأن (إله) هذه فعال بمعنى (مفعول) مثل: فراش بمعنى مفروش، وأشباه ذلك، وبناء بمعنى مبني.
فإله:بمعنى (مألوه) وأَلَه يأَله إلاهة، معناها: عبد يعبد عبادةً مع الحب والتعظيم.
فإذاً: يكون معنى الألوهية: العبودية، ومعنى توحيد الألوهية: توحيد العبودية.
توحيد الإلهية:توحيد العبادة، ويكون معنى الإله: المعبود.
ولهذا اسم (الله) الذي ترجع إليه، أو تجتمع فيه صفات الكمال (الله) هذا معناه: المعبود الحق؛
قال بعضهم: (الله) علم على المعبود بحق.
فـ(الله) أصلها (الإله) على الصحيح في أنها مشتقة وإنما أطلق عليها، يعني: خففت الهمزة في (الإله) فصارت (الله) لكثرة دعائه ورجائه والتوسل إليه باسمه هذا، ونحو ذلك.
المقصود: أن كلمة (لا إله) هذه فيها العبودية،
وهذا هو المتقرر في العربية وفي القرآن، كما قال -جل وعلا- في سورة النمل - فيما ذكرنا - {أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ}يعني: أمعبود مع الله؟!
لأنهم إنما جعلوا معبوداً مع الله ولم يجعلوا رباً مع الله جل جلاله، ومن ذلك ما جاء في قراءة ابن عباس المشهورة، في سورة الأعراف: {أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَالِهَتَكَ} يعني: وعبادتك، ومنه أيضاً قول الراجز في شعر ذكرناه مرارا:
لله در الغانيات المدّه ................. سبحن واسترجعن من تألهي
يعني: من عبادتي.
فالتأله، وأله يأله، والإلهة، والألوهة، إلى ما يشتق من هذا المصدر،
هذا كله راجع إلى معنى التعبد، العبادة.
فإذاً:هذه المادة: مادة العبادة، وليست مادة للسيادة والتصرف في الأمر.
وهذا هو المعروف عند العرب، وهو المعروف عند الصحابة والتابعين، إلى أن ترجمت كتب اليونان وصار هناك خلط بين ما جاءت به الشريعة وما في علوم اليونان.
فالذين ترجموا هذه الكتب قرأها من قرأها، وجعلوا القصد الأعظم أن ينظر المرء في هذا الملكوت، ويثبت ربوبية الله جل وعلا، لهذا قالوا: المقصود الأول هو الربوبية، فإذا أثبت المرء بالنظر أن الله -جل وعلا- هو الموجد لهذا الملكوت صار مقرا ومؤمنا.
فالمتكلمون حين تأثروا باليونان في مدارسهم في النظر وفي الفلسفة جعلوا معنى الإله راجعاً للربوبية، والمتكلمون في ذلك على قولين:
منهم من يقول: الإله هو القادر على الاختراع، وهذا في كثير من كتب المتكلمين.
ومنهم من يقول: الإله هو المستغني عما سواه المفتقر إليه كل ما عداه.
والأول والثاني وكل منهما قول لطائفة من المتكلمين والأشاعرة والماتريدية إلى غير هذه الفئات،
فعلى كل قولٍ منها يكون الإله مفسراً بالربوبية؛ لأن القادر على الاختراع، القدرة على الخلق هذه ربوبية، والمستغني عما سواه المفتقر إليه كل ما عداه، هذه أيضاً ربوبية، فهي من صفات الربوبية لا من صفات الألوهية.
لمّا حصل هذا في المسلمين، وتُدُووِل هذا القول، صار معلم الإيمان عند أولئك ألا يقر بوجود ربين،
ويعبرون عن ذلك ألا يقر بوجود إلهين، ولهذا في آية سورة الأنبياء: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا}.يجعلون هذه الآية دليلاً على إثبات تفرد الله -جل وعلا- بالربوبية،ويقولون: هذه الآية هي دليل التمانع.
ومعنى ذلك عندهم:أن وجود إلهين يقتضي أن يتصرف هذا في ملكوته، وأن يتصرف هذا في جزء من الملكوت، وهذا في جزء من الملكوت، ولابد أن يحصل تـمانع، لابد أن يحصل اضطراب؛ لأن هذا له إرادة وهذا له إرادة.
وجعلوا الإله هنا هو الرب في نفسه؛ ولهذا جعلوها دليلاً على توحيد الربوبية الذي هو الغاية عندهم.
فدخل هذا في المسلمين،
ولما دخل وتوسع الناس في اتباع مذهب الأشاعرة، والماتريدية، والمعتزلة، وطرق المتكلمين؛ صارت الغاية عندهم هي توحيد الربوبية، ولهذالم يصر أولئك عندهم مشركين،
وهذه أعظم فتنة حصلت في الصد عن لا إله إلا الله، وهو تفسيرها بتوحيد الربوبية،
لهذا تجد في عقائد الأشاعرة كما في (السنوسية الكبرى) المسماة عندهم (بـأم البراهين) يقول فيها ما ذكرته لكم قبل ذلك، يقول: (الإله هو المستغني عما سواه المفتقر إليه كل ما عداه).
فمعنى (لا إله إلا الله): لا مستغنياً عما سواه ولا مفتقراً إليه كل ما عداه إلا الله.
هذا التفسير وهذه الكلمة على هذا النحو ليست هي كلمة (لا إله إلا الله) إنما هي كلمة لا رب في الوجود إلا الله، والإله غير الرب.
الألوهية مادة، والربوبية مادة؛ ولهذا ساغ نعت اسم (الله) بـ(رب العالمين) في قوله جلّ وعلا: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} ولو كانت الربوبية هي الألوهية، أو كانت الألوهية هي الربوبية؛ لكان نعتاً للشيء بنفسه، وهذا زيادة في الكلام ينزه عنها في القرآن.
المقصود من ذلك: أن معنى الإلهية عند المتكلمين ومن نحا نحوهم هو الربوبية،
ولهذا دعا المشركون وعلماء المشركين إلى التوسط بهؤلاء الأموات؛ لأن هذا لا يقدح التوحيد؛ لأن التوحيد عندهم هو الربوبية.
فالقاعدة التي بُني عليها استحسان الشرك والتساهل فيه
هو الخلاف في تفسير كلمة التوحيد، وذلك لأنهم جعلوا كلمة التوحيد معناها القدرة على الاختراع، وأنه لا قادر على الاختراع وعلى الخلق إلا الله جل وعلا، وهذا يؤمن به أبو جهل وأبو لهب وكل من قاتلهم النبي عليه الصلاة والسلام.
لهذا قال هنا الشيخ رحمه الله: (وهذا التوحيد هو معنى قولك لا إله إلا الله - يعني الذي سبق ذكره قبل ذلك - فإن الإله عندهم - يعني عند العرب - هو الذي يقصد لأجل هذه الأمور، سواء كان ملكاً، أو نبياً، أو ولياً، أو شجرةً، أو قبراً، أو جنياً، لم يريدوا أن الإله هو الخالق الرازق المدبر، فإنهم يعلمون أن ذلك لله وحده) وهذا بيقين؛ لأن الله -جل وعلا- قال:{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ}.
-وقال: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} الآية.
-وقال:{قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ}.
فإذاً: جل مفردات الربوبية نسبوها لله -جل وعلا- وحده ولم يجعلوا لآلهتهم منها شيئاً، ولهذا إذا ركبوا في الفلك دعوا الله وحده؛ لأنهم يعلمون أن هذا المطلب العظيم إنما يستقل به الله وحده، ولا يحب إلا أن يكون الإقبال عليه وحده فيه، ولأن آلهتهم بعدت عنهم.وهذا مخالف لقول المتكلمين ومن نحا نحوهم: إن (لا إله إلا الله) هي لا قادر على الاختراع إلا اللهلأن العرب لم يشكوا في أن هذه الكلمة - إنما جاءت للألوهية، لا للقدرة على الاختراع، وإلا لقالوا:نحن نؤمن بهذا، ولكن قالوا: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً} وهذا بيقين.قال الشيخ رحمه الله: (لم يريدوا أن الإله هو الخالق الرازق المدبر، فإنهم يعلمون أن ذلك لله وحده كما قدمت لك، وإنما يعنون بالإله ما يعني المشركون في زماننا بلفظ السيد) السيد في لغة العرب: هو المتصرف المطاع في ملكه، والسيادة تختلف مثل (الرب) فتكون إضافة، هذا سيد فلان، سيد البيت، وهذا سيد القبيلة، وهذا رب الإبل، وهذا رب المال، وأشباه ذلك. لفظ (السيد) هو بمعنى لفظ (الرب) مع اختلاف بينهما.فمعنى السيد في لغة العرب: المتصرف الذي يدبر الأمر ويرجع إليه تدبير ما يملك، هذا هو السيد، له السيادة في الملكوت، له السيادة في ملكه، لكن في العرف الذي عليه الناس في زمن الشيخ وما قبله إلى وقتنا هذا، أطلق لفظ السيد على خلاف معناه في العربية، ويراد بالسيد: الذي بيده التوسط، أو بيده الإعطاء والمنع، أو الذي فيه السر.
ولهذا يستعملون في السادة الذين يُقصدون لأجل العبادات والتوسط، يقولون فيهم: قدس الله سر فلان، فلان قدس الله سره؛ لأنهم يجعلون لروحه سراً، ويطلقون على هؤلاء لفظ (السيد)فمثلاً: تجد: السيدالبدوي، السيدة زينب، السيد الحسين،السيد العيدروس،السيد الميرغني، السيد فلان، السيد فلان، السيد عبد القادر الجيلاني، وأشباه هذا؛ فيطلقون على (الإله) لفظ (السيد).(الإله) - في العربية الذي ذكرنا - عند الناس في هذا الزمان وزمن الشيخ هو ما يسمونه بـ(السيد).
ومن المتقرر أن العبرة بالحقائق لا بالألفاظ،
العبرة كما حرره وقرره -وهو معروف، لكن أطال عليه في هذا الموضع- الشوكاني والصنعاني،
قالوا: (إن تغير الأسماء ومدلولاتها لا يغير الحقائق).
فإنهم إذا سموا هؤلاء بالسيد، وعنوا بالسيد (الإله) فإنهم يحاسبون على ما قصدوا، لا على أصل اللفظ الذي لم يخطر لهم على بال أو لم يعنوه.
فإذاً: كلمة (السيد) يراد منها (الإله) يراد منها ما يفهم من معنى كلمة (الإله) عند أهل العربية؛
لهذا قال هنا: (وإنما يعنون بالإله ما يعني المشركون في زماننا بلفظ السيد) من هو السيد؟ الذي يقصد لأجل التوسط عند الله، بل زاد بعضهم وجعل لهؤلاء السادة نصيباً في الملك من جهة التفويض، فيقولون: هناك أوتاد في الأرض أُعطوا بعض التصرف في الملك، وبعد الأوتاد هناك أقطاب لهم تصرف هؤلاء يرجعون إليهم، والأقطاب ترجع إلى الغوث الأكبر في البلد، والأرض قسموها قسمة رباعية، وجعلوا لها أربعة أشخاص، هم الملاذ والغوث الأعظم: ففي قسم البدوي، وفي قسم عبد القادر، وفي قسم فلان وفلان، يعني: أنهم زادوا على شرك العرب في أن جعلوا لهؤلاء تصرفاً في الملك، وهذا شرك في الربوبية مع كونه شركاً في الإلهية.
قال: (فأتاهم النبي -صلى الله عليه وسلم- يدعوهم إلى كلمة التوحيد وهي: لا إله إلا الله، والمراد من هذه الكلمة معناها لا مجرد لفظها) قوله: (المراد من هذه الكلمة معناها لا مجرد لفظها)
لأن الإجماع منعقد على أن من بلغ مجنوناً فقال (لا إله إلا الله) فإنه لا يحكم له بالإسلام،
يعني: إذا كان مشركاً قبل ذلك، أو من ولد مجنوناً ثم استمر وقال (لا إله إلا الله) فإنه لا يحكم له بالإسلام بهذه الكلمة،
وإنما يكون تبعاً لأبويه في تفصيل معروف.
فالمشرك الذي كان على الشرك ثم جن وقال (لا إله إلا الله) في جنونه مائة مرة، أو أكثر، بالإجماع عند أولئك المخالفين وعند أهل الحق أنه لا يدخل في الإسلام؛ لأنه تكلم بكلام لم يقصد معناه؛ لأنه لا يعقل المعنى.
لهذا: فالعبرة فيما تُعبد فيه من الألفاظ؛ العبرة بالإقرار بالمعنى لا بمجرد اللفظ ؛
وذلك لأن المنافقين قالوا هذه الكلمة ظاهراً وهم بنص القرآن والسنة هم كفار، في الدرك الأسفل من النار؛ فلم ينفعهم قول (لا إله إلا الله) لأنهم لم يقصدوا معناها، أو لأنهم خالفوا مادلت عليه.
إذاً: فهذه الكلمة دليلها أنواع من الإجماع،
وهي قوله: (والمراد من هذه الكلمة معناها لا مجرد لفظها).
وهذه الإشارة منه -رحمه الله- لأجل أن كثيرين قالوا: هؤلاء الذين كفرتموهم، أوقلتم هم مشركون يشهدون أو يقولون: (لا إله إلا الله) ويتكلمون بذلك، ويذكرون الله في اليوم ألف مرة بلا إله إلا الله، فكيف تقولون ذلك والنبي -صلى الله عليه وسلم- أمر بالكف عمن قال: (لا إله إلا الله) وقال: ((أقتلته بعد ما قال لا إله إلا الله)) إلى آخر ذلك.
فيقال:إن قول الكلمة مع مخالفة المعنى هذا غير نافع بالإجماع فيما ذكرنا في المنافقين، وفي حال من بلغ مجنوناً.