التداعي للدعاء الجماعي
فهد بن يحيى العماري
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد:
فإنه لا يخفى على الجميع ما حلّ اليوم بالعالم كله بما يسمى (فيروس كورونا).
وقد حصل فيه عدد من المسائل والنوازل المتعلقة بأحكام الشريعة، وقد قام عدد من أهل العلم بدورهم في تنزيل الأحكام الفقهية، والقواعد الشرعية على هذه النوازل، - وهذا دليل أيضاً على إبطال الفرية بأن الإسلام عاجز عن حل مشكلات العالم -، وشاهد على أن الشرع وأهله ليسوا بجامدين، ولا عاجزين عن الحكم فيها، وفق قواعد الشرع وأدلته، وإيجاد مخرج شرعي للأمة، وبيان ما يحل بها من النوازل، في كل مجالات الحياة، وكما قيل: الشريعة صالحة لكل مكان وزمان، وظهر رجوع أهل التخصصات في العلوم الأخرى لأهل الشريعة في ذلك، طلباً لتبيين الحكم الشرعي، واحتراماً لأهل العلم، وإنزال الناس منازلههم، وعدم الافتيات عليهم؛ لأن الناس مازالوا على فطرتهم إلا من تغيرت فطرهم، وشذوا عن ذلك، ردهم الله إليه رداً جميلاً.
وليس الحال كما يقال: (هم رجال ونحن رجال)، وقول بعض الناس: قد انتهى دور علماء الشريعة ووصايتهم على الناس ودين الله، والدين ليس له حمى، وإنما هو مستباح لكل متكلم، ولذا لم نسمع أحداً يقول ذلك في تشخيص الوباء، ، ومسائل الطب ونحوها، أو يأتي بعلاج كيميائي، ولم يتجرؤوا القول، وإن تجرأ أحد، فسيبادر الناس بسؤاله؟ ما تخصصك، وماذا يقول أهل الطب فيه؟بل يجرّم فعله ويعاقب وفق الأنظمة المرعية في البلدان.
ولكنه الكيل بمكيالين، والكبر والجهل والهوى وردود الأفعال، واسترخاص القول في الدين، والسماع للعابثين بالشريعة وأهل الأهواء، ومن ليس من أهل العلم وصناعته، وإنما هو أجنبي رويبضة من الرويبضات.
روى أبو هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- (ستأتي على الناس سنون خدّاعة، يُصدّق فيها الكاذب، ويُكذّب فيها الصادق، ويؤتمن فيها الخائن، ويخوّن فيها الأمين، ويَنطق فيها الرويبضة، قيل: وما الرويبضة؟ قال: "السفيه يتكلم في أمر العامة")(1)، وفي رواية: (السفيه)(2)، وفي رواية: (الفويسق يتكلم في أمر العامة)(3) ، وفي رواية: (الفويسقة)(4)، وفي رواية: (من لا يؤبه له)(5).
وبيان النازلة في الشريعة والحكم على المسألة قد يحتاج إلى الاستعانة بأهل التخصص في مجالات أخرى، وهو ما يسمى بقول أهل الخبرة في الشريعة وكلام الفقهاء، وكلامهم معتبر في الحكم الشرعي.
والحذر كل الحذر من الجرأة على القول في دين الله بغير علم، وتتبع الفتاوى الشاذة والآراء الفاسدة، وأجرؤكم على الفتيا أجرؤكم على النار، ولو كانت في عهد عمر رضي الله عنه لجمع لها أهل بدر، والعجب ممن يتصدر ذلك، وهو في سلامة وعافية، ومن عوفي فليحمد الله، فإن السلامة لا يعدلها شيء.
ولنعلم: أن بعض العالم اليوم ممن كانوا منكرين وجود الله أو أعرضوا عنه إعراضاً كلياً أيقنوا-وفي عصر الماديات وانتشار الإلحاد واللادينية-بأن إلهاً يدبر الكون، ويُفزع إليه عند الشدائد والمصائب، وقد قام قائمهم في دعوة أمام العالم إلى أن يقول: (العلاج في السماء)، فهَبُّوا إلى إله السماء، بالتضرع والدعاء، وقاموا برفع صوت القرآن في متاجرهم ومشافيهم، وأذنوا برفع الأذان في أرجاء السماء بعد أن منع قرابة خمسمائة عام، واستشهدوا بآيات القرآن في كتاباتهم، ليحطم كل شعار غير شعار التوحيد، ويبطل كل معبود سوى الله، وكل كتاب إلا القرآن، {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْ هَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا، فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ}.
وبعد هذه المقدمة، فقد حان الشروع في المقصود، وهو الله سبحانه خير معبود وأكرم محمود.
ومن تلك المسائل:
ما لوحظ مؤخراً من انتشار الدعوة، والتداعي للدعاء الجماعي، فدعت الحاجة للبحث والبيان في: حكم الدعاء الجماعي والتكبير والتهليل وقراءة القرآن لرفع وباء (كورونا) من قبل بعض المسلمين، ونشرهم التداعي للقيام بذلك مباشرة على أسطح المنازل والشرفات أو في الطرقات أو المساجد أو وضع ذلك من خلال هواتف الجوال.
فكان السؤال المطروح هل هذا الفعل مشروع؟
هذه المسألة حصل فيها جدل بين المعاصرين في هذه الأيام، ما بين مجيز، ومانع، وقد تكررت هذه الفعال في أماكن شتى من العالم، وسأعرض لها بإيجاز في هذه المقالة، وبلغة سهلة يسيرة قريبة حتى تتضح للجميع، وموضوع البدعة من المواضيع الحساسة والشائكة في التقعيد والتطبيق، وأساله السداد والتوفيق.
وقبل الشروع في المسألة أقدم بمقدمة من شقين:
الشق الأول: أنواع البدعة:
قسّم العلامة أبو إسحاق الشاطبي المالكي رحمه الله البدعة إلى قسمين: حقيقية، وإضافية(6):
الأولى: البدعة الحقيقية: وهي ما لم يدل عليها دليل شرعي لا من كتاب، ولا من سنة، ولا من إجماع، ولا استدلال معتبر عند أهل العلم لا في الجملة ولا في التفصيل، وإن ادعى مبتدعها ومن تابعه أنها داخلة فيما استنبط من الأدلة، لأن ما استند إليه شبه واهية لا قيمة لها.
ومن أمثلتها: تحريم الحلال، أو تحليل الحرام، استناداً إلى شبه واهية، وبدون عذر شرعي، أو قصد صحيح.
الثانية: البدعة الإضافية فقد عرفها الشاطبي بأنها ما لها شائبتان:
إحداهما: ما كان لها من الأدلة متعلق، فلا تكون من تلك الجهة بدعة.
والأخرى: ما ليس لها متعلق إلا مثل ما للبدعة الحقيقية، أي أنها بالنسبة لإحدى الجهتين سنة لاستنادها إلى دليل، وبالنسبة للجهة الأخرى تكون بدعة، لأنها مستندة إلى شبهة لا إلى دليل، أو لأنها غير مستندة إلى شيء.
وسميت إضافية لأنها لم تخلص لأحد الطرفين، لا بالمخالفة الصريحة، ولا بالموافقة الصريحة(7).
والفرق بين البدعة الحقيقية والإضافية من جهة المعنى أن الدليل على الإضافية من جهة الأصل قائم، ومن جهة الكيفيات، أو الأحوال، أو التفاصيل لم يقم عليها، مع أنها محتاجة إليه، لأن الغالب وقوعها في التعبديات-لا في العاديات المحضة.
ومن أمثلتها: ذكر الله تبارك وتعالى على هيئة الاجتماع بصوت واحد، فالذكر مشروع بل يكون واجباً ومستحباً، لكن أداؤه على هذه الكيفية غير مشروع، بل هو بدعة مخالفة للسنة، وعليه يحمل قول ابن مسعود رضي الله عنه للجماعة الذين كانوا يجتمعون في المسجد وفي أيديهم حصى، فيسبحون ويكبرون بأعداد معينة حيث قال لهم: (والله لقد جئتم ببدعة ظلماً، أو فضلّتم أصحاب نبيكم علماً).
ومن أمثلته أيضاً: تخصيص يوم النصف من شعبان بصيام، وليلته بقيام، وإفراد شهر رجب بالصوم أو عبادة أخرى.
فهذه العبادات مشروعة، ومنها الصوم، لكن يأتي الابتداع من تخصيص الزمان، أو المكان، إذا لم يأت تخصيص ذلك في كتاب الله تعالى، أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
والبدعة الإضافية أشد خطورة من الحقيقية من حيث الشبه التي يستند إليها المبتدع في فعلها، فإنك إذا سألته عن دليل ذلك قال: إنه يذكر الله، ويصوم لله، فهل الذكر والصيام محرمان؟ ومن ثم يستمرئها، ويداوم عليها، وقد لا يتوب منها في الغالب، ذلك أن الشبهات أخطر الأمور على الدين، فهي أخطر من الشهوات وإن كان الجميع خطيراً، لأن إبليس لما يئس من تضليل المسلمين بالمعاصي دخل عليهم من باب العبادة، فزين لهم البدع بحجة التقرب إلى الله. وهنا مكمن الخطر(8).
الشق الثاني: هل في الدين بدعة حسنة وسيئة؟
الخلاف في هذا مشهور، وهو واقع عند المـتأخرين، وليس هذا التقسيم محل اتفاق، وليس عند المتقدمين من الصحابة والتابعين، والحق أن الكثرة الكاثرة من العلماء والأئمة والسلف المتقدمين على القول بأن كل بدعة ضلالة، وأن البدع كلها مذمومة، وليس هناك بدعة حسنة إلا ما يصدق عليه وصف البدعة من جهة اللغة فقط، وأما من جهة الشرع، فلا توجد بدعة حسنة إطلاقاً، وما ورد من ذلك مما يستشهد به إنما ورد في أمور شرعية دلت عليها نصوص الأدلة إما بالنص أو بالعمومات أو بالتمثيل؛ فهي داخلة في الشرع، وهي منه، وليست بدعة خارجة عنه، وإن سميت بالبدعة؛ لكونها حديثة في العمل لم تكن من قبل.
وهذه بعض أقوال السلف في ذم البدعة، وأن الحديث على عمومه:
قال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: (كل بدعة ضلالة، وإن رآها الناس حسنة)(9).
وقال الإمام مالك: (من ابتدع في الإسلام بدعة يراها حسنة، فقد زعم بأن محمداً خان الرسالة...)(10).
وقال الإمام الشافعي: (من استحسن فقد شرع)(11).
وقال الإمام أبو عبيد القاسم بن سلّام: (البدع والأهواء كلها نوع واحد في الضلال).
وقال محمد عبد الحي اللكنوي الحنفي: (اختلف العلماء في هذا الباب على قولين:
الأول: أن حديث "كل بدعة ضلالة" عام مخصوص، والمراد به البدعة السيئة، وقسموا البدعة إلى واجبة، ومندوبة، ومكروهة، ومحرمة، ومباحة.
والقول الثاني، وهو الأصح بالنظر الدقيق: أن حديث "كل بدعة ضلالة" باق على عمومه، وأن المراد به البدعة الشرعية).
وغيرها من كثير من النقولات التي يطول المقام بذكرها(12).
قال الشّافعيّ – رحمه اللّه -: (البدعة بدعتان: بدعة خالفت كتابًا وسنّةً وإجماعًا وأثرًا عن بعض أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فهذه بدعة ضلالةٍ. وبدعة لم تخالف شيئًا من ذلك فهذه قد تكون حسنةً لقول عمر: نعمت البدعة هذه هذا الكلام أو نحوه رواه البيهقي بإسناده الصّحيح في المدخل).
وقال ابن تيمية: (ومعلوم أن كل ما لم يسنه ولا استحبه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أحد من هؤلاء الذين يقتدي بهم المسلمون في دينهم فإنه يكون من البدع المنكرات ولا يقول أحد في مثل هذا إنه بدعة حسنة؛ إذ البدعة الحسنة - عند من يقسم البدع إلى حسنة وسيئة - لا بد أن يستحبها أحد من أهل العلم الذين يقتدى بهم ويقوم دليل شرعي على استحبابها وكذلك من يقول: البدعة الشرعية كلها مذمومة لقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: "كل بدعة ضلالة"(13).
فابن تيمية جعل للبدعة الحسنة قيدين عند القائلين بها:
1- لا بد أن يستحبها أحد من أهل العلم الذين يقتدى بهم.
2- يقوم دليل شرعي على استحبابها.
ومقتضى كلامه أن تخلف الشرطين أو أحدهما يعد بدعة سيئة وليست حسنة.
والكلام يطول في هذا، وليس المقام لبسطه، وصار فيها تحريرات ومناقشات يمكن الرجوع إليها.
• نرجع إلى الجواب عن حكم التداعي للدعاء، وألخصه بما يناسب الحال والمقال بما يلي:
أن هذا العمل ليس له أصل في الشرع يعتمد عليه، ولا من كلام السلف، ولا أفعالهم، والأصل في العبادات التوقيف.
والدعاء الجماعي ورد في مواضع معينة في السنة، ولم يرد ذلك حال وقوع الأوبئة ونحوها.
وقد حدثت الأوبئة في أزمان وأماكن متعددة، كما حصل الطاعون في عهد عمر رضي الله عنه وغيره، والطاعون جاء ذكره في السنة، في عدة أحاديث، وآثاره، وعِظَم أمره، ولم يرد منه صلى الله عليه وسلم الحث على الدعاء الجماعي أو القنوت والفزع لذلك كما في الكسوف، وقد وجد في عهد عمر رضي الله عنه طاعون عمواس، وقتل فيه مئات الصحابة رضوان الله عليهم، وتألم عمر وأبو عبيدة وعمرو بن العاص رضي الله عنهم وخافوا على الصحابة، وقيل لهم تفرقوا في الجبال، وخرج عمر من المدينة إلى الشام ليتفقد الناس، ومع هذا كله لم يقم أحد منهم بفعل الدعاء الجماعي أو القنوت أو الحث عليه، أفلا يسعنا ما وسعهم؟
قال صلى الله عليه وسلم: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)رواه البخاري.
وقال صلى الله عليه وسلم: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي وعضوا عليها بالنواجذ) رواه أبو داود وابن ماجه وصححه غير واحد.
ورجح ابن حجر الهيتمي كون الاجتماع للدعاء بسبب الطاعون ونحوه بدعة، وقال: لو قيل: بتحريمه لكان ظاهراً؛ لأنه إحداث كيفية يظن الجهال أنها سنة، وكذا السيوطي منع ذلك(14).
قال أبو العباس الحنفي في غمز عيون البصائر: (وصرح ابن حجر بأن الاجتماع للدعاء برفعه بدعة إلخ أقول: ما قاله ابن حجر هو الحق الذي لا مرية فيه، فإن تعريف البدعة صادق عليه)(15).
وذهب الحنفية إلى جواز ذلك، وحمل بعضهم كلام ابن حجر على البدعة الحسنة، ومنهم من حمله على البدعة غير المشروعة، كما تقدم.
ثم اعلموا رحمكم الله: أن الفعل الذي لم يفعله السلف مع قيام المقتضي له، وعدم المانع منه، ولم يقوموا بفعله، فهو دليل على عدم مشروعيته، ولو كان الفعل مشروعاً لكان السلف رضي الله عنهم ورحمهم أحق به منا فعلاً وقولاً ودعوة الناس إليه، وكل ما لم يشرع من العبادات مع قيام المقتضي لفعله من غير مانع فإنه من باب المنهي عنه.
يقول الإمام الشاطبي المالكي وغيره ما مضمونه: إذا قام سبب لفعل، والمقتضي له، ولم يوجد مانع من فعله، ولم يفعله الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا الصحابة، فهو دليل على أنه بدعة(16).
• فإن قال قائل: ألا يقاس ذلك على الخروج للاستسقاء طلباً للتضرع لكشف القحط وتوقف المطر؟
فالجواب بما يلي:
أجاب ابن حجر رحمه الله عن هذا القياس بجوابين أختصرهما بشيء من الإضافة والتوضيح، وهما:
1-أن ذلك لو كان مشروعاً، ما خفي على السلف، ثم على فقهاء الأمصار، وأتباعهم في الأعصار الماضية، فلم يبلغنا في ذلك خبرٌ ولا أثرٌ عن المحدِّثين، ولا فرعٌ مسطورٌ عن أحدٍ من الفقهاء، في سائر الحوادث الكونية العامة، كالكسوف الذي حصل في زمن النبوة والصحابة (مع وجود الأمر النبوي بالدعاء في ذلك الحدث -الكسوف- صريحاً في الأحاديث، ووجود الاجتماع للصلاة إلا أن نفس الدعاء لم يكن على جهة الاجتماع).
2-أن ألفاظ الدعاء وصفات الداعي لها خواصٌّ وأسرارٌ، يختص بها كل حادثٍ بما يليق به، والمُعتَمَدُ في ذلك الاتِّباع، ولا مَدْخَلَ للقياس في ذلك....ومثال ذلك: أن ما ورد في التخويف بالكسوفين له هيئة تغاير ما ورد في التخويف بالجدب وما ورد في النازلة كالقحط والوباء على رأي من رأى القنوت في ذلك يغاير ما ورد في الكسوف والاستسقاء فالذي يأتي بهذا لهذا، ولهذا بهذا يلتحق بمن أحدث في أمر الدين ما ليس به فيرد عليه، وقد نص الشافعي رحمه الله على أنه لا قنوت في الاستسقاء(17).
• ولا يصح قياس حال الحوادث الكونية على حال الاستسقاء، لما يلي:
1-أن القياس على الاستسقاء بفعل صلاة ودعاء أو دعاء فقط لرفع الوباء لا يصح، ولو صح لفعله كبار الصحابة، والدليل ما ورد في طبقات ابن سعد أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كتب إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنه: (أن العرب هلكت فابعث إلي بطعام. فبعث إليه بطعام وكتب إليه: إني قد بعثت إليك بكذا وكذا من الطعام فإن رأيت يا أمير المؤمنين أن تكتب إلى أهل الأمصار فيجتمعون في يوم فيخرجون فيه فيستسقون. فكتب عمر إلى أهل الأمصار. فخرج أبو موسى فاستسقى ولم يصل)، وكان هذا في عام الرمادة كما في تاريخ المدينة لابن شبة: (أن عمر رضي الله عنه كتب عام الرمادة إلى يزيد بن أبي سفيان، وإلى أبي موسى الأشعري).
وجهه: أن عمر رضي الله عنه خاف خوفاً شديداً في طاعون عمواس على الصحابة، وقد مات المئات منهم وكذا التابعون، وخرج إلى الشام، ولم يأمر هو ولا الصحابة بالتداعي للدعاء الجماعي أو القنوت في الصلوات، والقياس حاضر عند الصحابة رضي الله عنهم، ويعملوه في كثير من الوقائع والفتاوى، فلما امتنع إعماله هنا، والحاجة إليه ملحة، كان ذلك دليلاً على عدم صحة القياس، ولا قياس على الاستسقاء، لأن الاستسقاء له أحكام خاصة به.
والاستسقاء له ثلاث صفات كما نص على ذلك الشافعية والحنابلة:
أ-استسقاء يكون بالصلاة والخطبة ويعقبها الدعاء الفردي.
ب-استسقاء الإمام يوم الجمعة على المنبر.
ج-أن يخرج ويدعو بغير صلاة.
2-يلزم القائل بالقياس توضيح أركان القياس في هذه المسألة وعلته الجامعة في ذلك، فإن قال التخويف فيقال هل الاستسقاء دعاء رغبة أو خوف أو كلاهما؟ وهل العلة محصورة في هذا الأمر؟
وهل هي منصوصة أو مستنبطة؟ ثم ما هو الخوف الذي يمكن أن نقيس عليه؟
ثم الوصف الجامع لابد أن يكون مما عهد من الشارع الالتفات إلى مثله في جنس الحكم، ولم يعهد من الشرع أن الخوف يقتضي الاجتماع للصلاة، والدعاء بعده على وجه الانفراد إلا في صلاة الكسوف، وهذا يقتضي أن لذلك خصوصية ومعنى أراده الشارع، لا يمكن القياس عليه.
ثم إن صحت العلة، فهناك فرق بين الأمرين في كون الشيء يكون على وجه التبعية أو على وجه الانفراد كما سيأتي في المناقشة للمستدل بفعل عمر بن عبد العزيز رحمه الله.
ثم الكسوف والزلزلة من آيات الله الكونية فهل الوباء والأمراض آية من آيات الله؟.
ولنعلم أن العلة هي أعظم ركن في القياس، لأن القياس مبني عليها، وهي مناط الإلحاق في القياس وعدمه، ولذا جعل أهل العلم للقياس شروطاً وضوابط حفاظاً له وصيانة لقدره، وبناء الأحكام على العلل والأوصاف المؤثرة مما تستقيم به الأحكام وتسير على سنن واحدة وإلا حصل الاضطراب والتناقض.
3-أن دلالة الترك وأثرها مقدمة على دلالة عموم النص، ودليل القياس، وهي أقوى، لما تقدم، وأشار لذلك ابن تيمية رحمه الله في الاقتضاء(18)، ولأن الترك سنة كالفعل، فيكون دليلاً من السنة، وهي مقدمة على دليل القياس في مراتب الأدلة، ولأنه قد وجدت المخاوف في الأزمان الفاضلة، ولم يحصل التداعي للدعاء الجماعي.
ودلالة الترك معيار وكاشف دقيق في الجملة في موضوع البدعة، واستخدمه الفقهاء بعبارات متنوعة من أشهرها عدم النقل، وعدم الفعل، وعدم الاشتهار، والترك، ونحوها.
4-إذا أردنا أن نقيس فكذلك الحكم يكون على جواز فعل الصلاة، فلماذا جعلتم القياس في حكم من أحكام الاستسقاء، ولم تطردوه في جميع أحكام الاستسقاء؟ والتفريق يحتاج إلى دليل.
5-علينا كذلك في كل نازلة من المخاوف أن نفعل ذلك طرداً مع القياس الذي ذكرتموه.
وحينئذ تحدث في الدين البدع، مما حذر منه الرسول صلى الله عليه وسلم، والشريعة جاءت بقاعدة سد الذرائع، فما بال الإنسان في زمن يحصل فيه كثير من الجهل والابتداع في الأصول والفروع.
وواجب أهل العلم حماية الدين وصيانته، لا حماية الأقوال وصيانتها، ولا البحث للناس عن المخارج والرخص، والاستدلال بالأدلة الضعيفة والمشكوك فيها، والضعيف من أقوال الفقهاء، بل رد الناس إلى جادة الصواب، وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم، وفيها الخير الكثير والنفع العميم، وبها الصلاح والفلاح والنجاة من الشرور الخاصة والعامة، {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ}.
وقد ورد عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خطب احمرت عيناه، وعلا صوته، واشتد غضبه، حتى كأنه منذر جيش يقول: «صبّحكم ومسّاكم»، ويقول: «بعثت أنا والساعة كهاتين»، ويقرن بين إصبعيه السبابة، والوسطى، ويقول: «أما بعد، فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدى هدى محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة» رواه مسلم.
وورد في حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة) رواه أبو داود.
قال ابن دقيق العيد: (وقد منعنا إحداث ما هو شعار في الدين. ومثاله: ما أحدثته الروافض من عيد ثالث، سموه عيد الغدير. وكذلك الاجتماع وإقامة شعاره في وقت مخصوص على شيء مخصوص، لم يثبت شرعاً. وقريب من ذلك: أن تكون العبادة من جهة الشرع مرتبة على وجه مخصوص. فيريد بعض الناس: أن يحدث فيها أمراً آخر لم يرد به الشرع، زاعماً أنه يدرجه تحت عموم، فهذا لا يستقيم؛ لأن الغالب على العبادات التعبد، ومأخذها التوقيف)(19).
وقال ابن العطار: (ثم المحدَث في الدين قد يكونُ زيادةَ وصفٍ في العبادة المشروعة لم تثبت في السنة؛ كاجتماع في موضع الانفراد، ويزعم من يفعل ذلك أن يدخل تحت عموم السنة؛ كما يفعل في ليلة النصف، والتعريف بغير عرفة، وهذا لا يستقيم؛ فإن الغالب على العبادات التعبد، ومأخذُها التوقيف، فإن دلَّ الدليل على كراهة المحدث بخصوصيته، كان أقوى في منعه وأظهر)(20).
يتبع