المقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله بارئ النَسَم، الذي علم بالقلم، و شفى من سقم، فضله سابغ منذ القدم، خير الحاكمين و أحكم الحاكمين و أعدل من حكم، تسبح الملائكة عنده بالليل و النهار بلا سأم، يغفر الذنوب جميعاً سواء الكبائر منها و اللمم، ذل لكبريائه العرب و العجم، عَظَّم الكعبة و المسجد الحرام و الحَرم، هدانا لدين الإسلام القِيَم، فصرنا به خير الأمم، حبانا بالقرآن العظيم أحسن الحديث فسمونا إلى أعلى القمم، حثنا على علو الهمم، و زيننا بمكارم الأخلاق و محاسن الشيم، بعث فينا رسول الله و خاتم النبيين فأنقذنا من دياجير العمى و براثن الظُلَم، ما أقسم الله بحياة أحد في القرآن الكريم إلا بحياته فلنعم القَسَم، آتاه الله جوامع الكلم ففاضت على لسانه الشريف ينابيع العلوم و الحكم، و فاح عطر هديه الكريم الدال على أسمى القيم.
أحمد الله أزكى حمد و أنماه و أشرفه و أسماه على جميل رزقه و جميع النعم، سبحانه لا أحصي ثناء عليه هو أهل الكمال و الجمال و الجلال و الكرم، و أشهد ألا إله إلا الله و حده لا شريك له، و أشهد أن محمداً عبده و رسوله شهادة أدخرها لكشف الغمم، و النجاة من الجحيم و الفوز بجنة النعيم يوم لا ينفع الندم.
اللهم يا من يُعبد لكماله، و يُحَب لجماله، و يُخشى لجلاله، و يُدعى لنواله، صل على محمد و آله، و صحبه و من نسج على منواله.
اللهم إني أستنزل فضلك العظيم، و جودك العميم، و توفيقك الكريم.
اللهم إني أستوهب فتحك الكافي، و البيان الصافي، و العلم الشافي.
اللهم إني أستزيد من واسع رحمتك، و عظيم نعمتك، و بديع حكمتك.
و أسألك الثبات على الإسلام، و فيوض الإنعام، يا ذا الجلال و الإكرام.
و أسألك إخلاص العمل، و إتقان العمل، و إحسان العمل.
و أسألك زيادة العلم، و سعة الحلم، و سربال السِلْم.
و أسألك لفظاً هنيئاً مريئاً، و معنى رائقاً فائقاً.
اللهم إني أعوذ بك من الشيطان الرجيم، و العقل السقيم، و المنطق الذميم.
و أعوذ بك من شر نفسي، و ضيق رمسي، حين أفول شمسي.
و أعوذ بك من الشرك الخفي، و القول الغوي، و الفعل الشقي.
اللهم اصرف عني السهو و الزهو و اللهو و اللغو.
اللهم اصرف عن كلامي الخطل، و عن رأيي الخلل، و عن عملي الزلل.
اللهم اصرف عني عثرات الكلام، و هفوات الكرام، و القصور عن بلوغ المرام.
إلهي، ألفيت كرمك موروداً، فلا تردني عن بابك مطروداً، (إن ربي لسميع الدعاء)، و هو الله العظيم الكريم أهل المجد و الثناء.
أما بعد:
فإن الأدب أنفس من الذهب عند الألباء الحكماء، و لله در القاسم الحريري أسكنه الله الجنة إذ يقول في المقامة النجرانية: (إلا أني لم أكن أقطع وادياً، و لا أشهد نادياً، إلا لاقتباس الأدب المسلي عن الأشجان، المغلي قيمة الإنسان) [1].
و الاستزادة من العلم عامة و الأدب خاصة هي دأب ذوي الهمة العالية و النفوس الغالية، قال الله تعالى في القرآن العظيم: (و قل رب زدني علماً) [سورة طه - آية 114]. و لا أنسى قول بديع الزمان الهمذاني أسكنه الله الجنة إذ يقول في المقامة المكفوفية: (و قصاراي لفظة شرود أصيدها، و كلمة بليغة أستزيدها) [2]، و كذلك قال القاسم الحريري رحمه الله في المقامة المغربية: (فرغبت في محادثتهم لكلمة تستفاد، أو أدب يستزاد) [1].
و كلام العرب على نوعين: النثر و الشعر، و العرب في قول النثر و الشعر على أربعة أقسام: القسم الأول لم يُفتح له باب النثر و لا باب الشعر، و القسم الثاني فُتح له باب النثر دون باب الشعر، و القسم الثالث فُتح له باب الشعر دون باب النثر، و القسم الرابع فُتح له باب النثر و باب الشعر.
فإذا اجتمع لامرئ بهاء النثر و سناء الشعر فقد ملك زمام البيان، و امتلك ناصية التبيان، و أجمِل بقول بديع الزمان الهمذاني رحمه الله في المقامة الجاحظية: (و البليغ من لم يُقَصِّر نظمه عن نثره، و لم يُزْرِ كلامه بشعره) [2]، و قد قال الإمام محمد عبده أسكنه الله الجنة في معرض ثنائه على بديع الزمان الهمذاني رحمه الله: (فقد عرف الناظرون في كلام العرب، و شهد السالكون على مناهج الأدب، أن الشيخ أبا الفضل أحمد بن الحسين بن يحيى بن سعيد الهمذاني المعروف ببديع الزمان قد طبق الآفاق ذكره، و سار مثلاً بين الناس نظمه و نثره) [2]، و أَحسِن بقول القاسم الحريري رحمه الله في المقامة الزبيدية [1]:
و طالما أبدع فيما صنعا *** و فاق في النثر و في النظم معا
و الإبداع و التجديد في الأدب مقدم على الجمود و التقليد، قال القاسم الحريري رحمه الله في المقامة الكوفية [1]:
و إنما لي فنون سحر *** أبدعت فيها و ما اقتديت
و من أبرز المبدعين في الأدب العربي بديع الزمان الهمذاني رحمه الله مبتكر فن المقامات [2]، و قد تبعه في هذا الفن الجميل القاسم الحريري رحمه الله [1] من المتقدمين و ناصيف اليازجي من المتأخرين [3] و غيرهم.
و قد أردت الاقتداء ببديع الزمان الهمذاني رحمه الله في ابتكار فن جديد عند العرب، يكون عقداً فريداً في جِيْد الأدب، و سميت هذا الفن: فن الحديقة.
و فن الحديقة يعتبر مثالاً حياً و تطبيقاً واقعياً لوصية عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (علموا أولادكم العوم و الفروسية، و رووهم ما سار من المثل، و حسن من الشعر) [4]، فهذا الفن يجمع بين صبيح النثر و مليح الشعر.
تعريف فن الحديقة:
الأصل أن تتكون الحديقة من مئة زهرة و الأصل أن تتكون الزهرة من ثلاث حِكَم نثر تتلوها ثلاثة أبيات من الشعر، و تعريف الحكمة التي أقصدها: (الكلام الذي يقل لفظه و يجل معناه) [6].
قد تكون الحديقة ذات مواضيع مختلفة (منوعة) أو ذات موضوع واحد (مركزة) مثل الحديقة الإسلامية أو الحديقة السياسية أو الحديقة الاجتماعية أو حديقة الحب و هلم جراً.
قد تتناول الزهرة موضوعاً واحداً (مركزة) أو مواضيع شتى (منوعة)، اخترت أن أسمي الزهور المنوعة التي تتناول مواضيع شتى: (قوس قزح).
شروط فن الحديقة:
الأصل في الحديقة أن تستوفي جميع الشروط الأربعة التالية:
الشرط الأول: أن تكون الحديقة بجميع زهورها من تأليف الأديب الشاعر نفسه و ليست كلاماً منقولاً عن أدباء و شعراء آخرين، إذا تحقق هذا الشرط فإن الحديقة توصف بأنها (شمسية) لأن الشمس تشع ضوءها الذاتي، أما إذا اختل هذا الشرط بأن جمع كاتب ما كلام أدباء و شعراء آخرين فإن الحديقة توصف بأنها (قمرية) لأن القمر لا يشع ضوءه الذاتي و إنما يعكس ضوء الشمس.
الشرط الثاني: أن تتكون الحديقة من مئة زهرة حصراً.
الشرط الثالث: في كل زهرة عدد حكم النثر يساوي عدد أبيات الشعر.
الشرط الرابع: جميع الأزهار متساوية في الحجم من حيث عدد حكم النثر و عدد أبيات الشعر.
إذا اختل شرط أو أكثر من الشروط الأربعة توصف الحديقة بأنها (ناقصة) أما إذا استوفت الحديقة الشروط الأربعة فتوصف بأنها (كاملة).
الحديقة الأولى:
في هذا الموضوع سأنشر حديقتي الأولى و التي سميتها: (زهرة الحِكَم و سدرة القِيَم) و المكونة من مئة زهرة.
حجم الزهرة الذي اخترته لحديقتي الأولى هو ثلاثي لأني رأيت أن الرقم ثلاثة وسط بين الطول و القصر، و يمكن لأديب شاعر آخر أن يجعل حجم زهر حديقته أحادياً أو ثنائياً أو رباعياً أو خماسياً و هلم جراً.
سمات زهرة الحكم و سدرة القيم - الحديقة الأولى:
نوع الحديقة: شمسية (من تأليفي) كاملة (تستوفي الشروط الأربعة).
مواضيع الحديقة: منوعة.
مواضيع الزهور: غالبها مركزة (موضوع واحد) و بعضها منوعة (مواضيع شتى تسمى قوس قزح).
حجم الزهرة: ثلاثي (ثلاث حكم من النثر و ثلاثة أبيات من الشعر).
و قد اخترت التنويع في مواضيع الحديقة و أحياناً في مواضيع الزهور عملاً بقول بديع الزمان الهمذاني رحمه الله في المقامة العراقية: (بأي العلوم تتحلى؟ فقال: لي في كل كنانة سهم) [2]، و في هذه الحديقة الأولى أتناول هذه المواضيع:
الفصل الأول: الله عز و جل.
الفصل الثاني: النبي عليه الصلاة و السلام.
الفصل الثالث: الإسلام.
الفصل الرابع: الأخلاق.
الفصل الخامس: العلم.
الفصل السادس: الشعر.
الفصل السابع: النهضة.
الفصل الثامن: الحياة.
الفصل التاسع: قضايا اجتماعية.
الفصل العاشر: قوس قزح.
الفصل الحادي عشر: الحب.
الفصل الثاني عشر: الآخرة.
و سأنشر إن شاء الله كل يوم زهرة واحدة (على مدار مئة يوم) في تعليق مستقل على هذا الموضوع ما لم يعقني عن ذلك عائق، أو أرى أولوية عدم النشر لمناسبة معينة.
و أرجو أن يجد القارئ في هذه الحديقة روضاً بهيجاً و مسكاً أريجاً و ذهباً نسيجاً [7]، و أن تكون هذه الحديقة مصدر فائدة و متعة للقراء.
سرقة الأفكار:
من آفات العلماء أو الأدباء أو الشعراء سرقة الأفكار حيث يسرق شخص ما جهد شخص آخر و ينسبه إلى نفسه دون عزو (نسبة أو إسناد [6]) إلى القائل الأول أو إحالة (الإشارة بالرجوع إلى مصدر [6])، و هذه الآفة يترفع عنها النبلاء من العلماء و الأدباء و الشعراء.
و رحم الله الإمام الشافعي فقد قال مقولة تكتب بماء الذهب و أنا أعمل بها قدر الإمكان: (الحر من راعى وداد لحظة، و انتمى لمن أفاده لفظة) [5].
قال القاسم الحريري رحمه الله في المقامة الشعرية: (و استراق الشعر عند الشعراء، أفظع من سرقة البيضاء و الصفراء (الفضة و الذهب)، و غيرتهم على بنات الأفكار، كغيرتهم على البنات الأبكار)، و ذكر أيضاً ثلاث صور لسرقة الأفكار في المقامة الشعرية: النسخ (سرقة فكرة بلا تغيير اللفظ و لا المعنى) و السلخ (سرقة فكرة بتغيير اللفظ دون المعنى) و المسخ (سرقة فكرة بتغيير اللفظ و المعنى) [1].
قلت:
ما أنا بالسارق من غيري *** أعزو و أحيل بـلا ضَـيْر
تعساً لأناس قد سرقوا *** من جهد الغير قد استرقوا
توارد الأفكار:
قد يظن بعض الناس أن كل قولين أو فكرتين بينهما تطابق أو تشابه لشخصين مختلفين يقتضي أن القائل اللاحق قد سرق أقوال أو أفكار القائل السابق، و هذا الظن أحياناً فيه إثم و رمي الناس بالتهم جزافاً.
إن تشابه قولين أو فكرتين لا يقتضي دائماً سرقة الأفكار لأن هنالك مفهوماً يعرف بتوارد الأفكار قد يكون سبب التطابق أو التشابه بين الأقوال أو الأفكار، فينزه الشخص اللاحق عن سرقة أقوال أو أفكار الشخص السابق بسبب توارد الأفكار.
يعرف توارد الأفكار بأنه: (اتفاق الأفكار من غير نقل أو سماع) [6].
إذاً قد يحصل التطابق أو التشابه بين الأقوال أو الأفكار من قبيل توارد الأفكار صدفة و ليس من قبيل سرقة الأفكار عمداً.
و قد ذكر القاسم الحريري رحمه الله في المقامة الشعرية مفهوم توارد الأفكار فقال: (و إنما اتفق توارد الخواطر، كما قد يقع الحافر على الحافر) [1].
إذا ثبت أن أحد الناس قد سبقني إلى قول حكم النثر أو أبيات الشعر التي سأعرضها في (زهرة الحكم و سدرة القيم - الحديقة الأولى) فإن هذا التطابق أو التشابه في الأقوال هو من قبيل (توارد الأفكار) و ليس من قبيل (سرقة الأفكار)، فأنا أربأ بنفسي عن سرقة الأفكار و ليس في وسعي الاطلاع الكامل على جميع ما قاله العرب نثراً و شعراً سواء كان منطوقاً أو مكتوباً، لأني بشر محدود العلم و محدود القدرة و محدود الوقت.
قلت:
أما الأفكار فتتفق *** لا تسئ الظن بأن سرقوا
تتوارد أفكار شتى *** إن قربوا أو بعدوا حتى
الشروع في (زهرة الحكم و سدرة القيم - الحديقة الأولى):
و الآن أبدأ عرض أزاهير حديقتي الأولى راجياً من الله التوفيق و السداد، و أن يجعل حديقتي رفيعة العماد، خالية من القتاد، و ذخراً لي في المعاد، و أن يقيني عذابه و يدخلني جنته التي قال فيها مالك الملك و ملك الملوك :(إن هذا لرزقنا ما له من نفاد) [سورة ص - آية 54].
=========================
المصادر:
[1] مقامات الحريري.
[2] مقامات بديع الزمان الهمذاني - تقديم و شرح الإمام محمد عبده.
[3] مجمع البحرين - ناصيف اليازجي.
[4] البيان و التبيين - الجاحظ.
[5] قيمة الزمن عند العلماء – عبد الفتاح أبو غدة.
[6] قاموس المعاني - ( www.almaany.com ).
[7] عبارات: (الروض البهيج و المسك الأريج و الذهب النسيج) مقتبسة من قصيدة الحكم بن أبي الصلت رحمه الله التي يقول في مطلعها:
للفظك يهجر الروض البهيج *** و دون ثيابك المسك الأريج