قواعد التربية الناجحة
نادر محمد العريقي


إن الحكيم هو الذي يتعهد ولده بالتربية والرعاية في الصغر، رجاء أن يجني البر والإحسان في الكبر. وهناك كثير من النماذج التي حقق فيها الآباء نجاحاً ملحوظاً في تربية أبنائهم، ومن أفضل النماذج التي ننصح بها الآباء ليستخلصوا منها القواعد المثلى في التربية، هي وصايا لقمان الحكيم لولده؛ تلك الوصايا التي بلغ من قدرها عند الله - تعالى - أن خلَّد ذكرها في أعظم كتاب تلقَّته البشرية، وزاد من قدرها أن صاحبها لم يكن رجلاً عادياً؛ بل كان رجلاً شهد الله له بالحكمة، وهي شهادة عظيمة كونها من أحكم الحاكمين، وجعل اسم هذا الرجل عنواناً للسورة التي ذكرت فيها هذه الوصايا، والتي يتلوها ملايين الآباء في كل جيل من هذه الأمة لتكون لهم منهجاً في القيام بالمسؤولية التي أوكلتْ إليهم، والمتمثلة في إعداد الأجيال القادمة لتولِّي زمام الخلافة في الأرض.
ودراستنا لهذه الوصايا ليست شرحاً لها، فهذا جهد قد كفانا إياه المفسرون أجزل الله ثوابهم؛ وإنما دراستنا هي استخراج للقواعد التي قامت عليه هذه الوصايا، والتي - في رأينا - لا تقل أهمية عن شرح هذه الوصايا بل قد تزيد؛ اعتقاداً منَّا أن التربية الناجحة ليست مجرد وصايا ومواعظ لا تقوم على أساس، يتلقاها الآباء عن أبائهم ثم يلقنونها لأبنائهم؛ بل لا بد أن تكون وصايا قائمة على قواعَد صحيحةٍ ينتهجها الآباء في تنشئة أبنائهم عند الطفولة حتى تؤتي التربية ثمارها، وتتلاءم مع المستجدات والمتغيرات التي طرأت على زماننا وزادت فيها احتياجات أبنائنا إلى وصايا أخرى مناسبة تجعلهم قادرين على العيش في زمانهم بفاعلية، والقيام بواجب الخلافة التي خُلقوا لها. لكل ذلك كان لا بد من ذكر هذه القواعد الضابطة والموجِّهة لهذه الوصايا وكشفها؛ ليدرك الآباء الحكمة في وصايا لقمان فيضعوها في موضعها المناسب وفي الوقت المناسب بما يحقق الغاية المنشودة والأهداف المقصودة من التربية، وقد قيل عن الحكمة: إنها (وضع الشيء المناسب في المكان المناسب) ويمكن إجمال هذه القواعد في ما يلي:
أولاً: تعهُّد الأبِ ابنَه بالنصح والتوجيه، وهو ما يزال تحت كنفه؛ وبالأخص في المراحل الأولى من العمر التي يتهيأ فيها الأبناء لاكتساب القيم، وتبدأ فيها وضع البصمات الأولى في تكوين الشخصية؛ فالتربية الناجحة ليست نظراتٍ خاطفةً، ولقاءاتٍ عابرةً ينتظر الآباء أن يجنوا من ورائها ثماراً ناضجة؛ بل هي مراحل طويلة، ومجالس متعددة، يلتقي فيها الآباء بالأبناء ليُراجعوا الماضي فيصلحوا ما فسد، ويقوِّموا ما اعوجَّ، وينظروا في الحاضر والمستقبل فيضعوا لَبِنَاتٍ جديدةً من المعارف النافعة، والأخلاق الفاضلة بحسب حاجات أبنائهم، وهذا ما ذكره الله - تعالى - عن لقمان: (وَإذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ) [لقمان: 31] فجملة (يَعِظُهُ) جملة فعلية وهي دالة على الحدوث والتجدد؛ فقد كان لقمان يتعهد ابنه بتلك الوصايا بين حين وآخر بحسب الحاجة، وقد ذكر المفسرون في كتبهم بعض هذه المجالس.
ثانياً: انطلاق وصايا لقمان من الحكمة: فهي لم تكن اعتباطاً، بل كانت عن معرفة وخبرة. قال - تعالى -: (وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْـحِكْمَةَ) [لقمان: 12]. وترى في الآيات أن الله قد جعل الحكمة هي المقدمة التي ابتدأ بها قبل ذكر وصايا لقمان، وهي المقدمة المطلوبة من الآباء، قبل أن ينزلوا ميدان التربية، فعليهم أولاً أن يرحلوا إلى مصادر المعرفة المتاحة لتلقي أسس التربية الناجحة، وهي مصادر قد صارت في زماننا متعددة ومتنوعة نذكر منها (الدورات - والكتب - وسؤال أهل الاختصاص - والاستفادة من أصحاب التجارب..وغيرها).
ثالثاً: أن يستخدم فيها وسائل الإقناع المتنوعة: فلا يجعل توجيهاتِه لأبنائه أوامرَ جافةً غيرَ معللةٍ، بل يقرنها بما يغري بالالتزام بها، ومن هذه الوسائل تعليل الأمر وبيانُ سببه، وتقبيح المنكر وتعظيمُ خطره، وتحسين المعروف وذكرُ فضله، وربط هذه التوجيهات بالآخرة، وبمحبة الله ورضاه، وبرقابة الله وحسابه.
• تعليل الأمر وبيان سببه: فعندما أوصى لقمان ولده بالإحسان لوالديه علل الوصية، فقال: (حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ) [لقمان: 14] فَحَمْلُها لولدها تسعة أشهر عانت فيهما ألام الحمل والطلق، وإرضاعُها له عامين، كل ذلك يستوجب منه مكافأة الإحسان بالإحسان: (أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إلَيَّ الْـمَصِيرُ) [لقمان: 14].
• تقبيح المنكر وتعظيم خطره: وعندما نهاه عن الشرك بيَّن له خطره فقال: (يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) [لقمان: 13] وذكر له قباحة وشناعة رفع الصوت من غير حاجة فقال: (وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ إنَّ أَنكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْـحَمِيرِ) [لقمان: 19].
• تحسين المعروف وذكر فضله: وعندما أمر ولده بالصبر على مشاق الإصلاح والتغيير ومحاربة الفساد والمفسدين، ذكر له محاسن هذا السلوك وأنه من خلق ذوي العزم فقال: (وَأْمُرْ بِالْـمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْـمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ) [لقمان: 17].
• ربط هذه التوجيهات بالآخرة: فعندما أوصى ولده بشكر الله المنعم الأول، وشكر والديه (سبب النعمة) قرن كل ذلك بالآخرة: (أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إلَيَّ الْـمَصِيرُ) [لقمان: 14].
• ربط التوجهات برقابة الله وحسابه: فعندما طلب منه صحبة والديه بالمعروف - وإن كانا حريصين على شركهما بل ويجتهدان في رده عن دينه - قرن ذلك برقابة الله - سبحانه - وحسابه: (وَإن جَاهَدَاكَ عَلَى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إلَيَّ ثُمَّ إلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * يَا بُنَيَّ إنَّهَا إن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُن فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَوَاتِ أَوْ فِي الأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ) [لقمان: 15 - 16].
• ربط التوجهات بمحبة الله ورضاه: فعندما نهى ولده عن مظاهر الكبر قرن تَرْك ذلك بمحبة الله ورضاه: (وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ) [لقمان: 18].
ثالثاً: وصايا تسعى إلى بناء الشخصية المتوازنة بين الإفراط والتفريط، فلا تجنح إلى طرف على حساب الطرف الآخر فلا طاعة للوالدين في دعوتهما للشرك، وفي الوقت ذاته لا قطع لهذه العلاقة حفظاً للمعروف الذي كان منهما في صغره: (وَإن جَاهَدَاكَ عَلَى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا)، وإذا مشى فمشيته قصد (بين البطء والإسراع) (بين التبختر والتماوت) (وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ) [لقمان: 19]، وإذا تكلم فهو يغض من صوته ولا يرفعه إلا بقدر ما يحتاج إليه السامعين: (وَاغْضُضْ مِن صَوْتِك) و (من) للتبعيض؛ فأحياناً قد يحتاج الإنسان لرفع صوته لبعد السامع أو لثقل سمعه، وإذا فعل الخير فهو يقرن ذلك بالدعوة إليه: (يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْـمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْـمُنكَرِ) [لقمان: 17].
التربية بالقدوة الحسنة قبل الموعظة الحسنة، وبالحال قبل المقال، وبالسلوك الحسن قبل الكلام الحسن، وبإصلاح النفس قبل إصلاح الأبناء، كما قال أحد الحكماء لمربي أبنائه: (وليكن أول ما تبدأ به من إصلاح بنيك إصلاح نفسك، فإن أعينهم معقودة بعينك، فالحسن عندهم ما استحسنتَ والقبيح عندهم ما استقبحتَ).
وفي قصة لقمان افتتح تلك الوصايا بأمرين:
أولهما: وصفه بالحكمة وهي تعني العلمَ كما تعني العملَ بذلك على قدر الاستطاعة.
وثانيهما: أن الله وعظ لقمانَ قبل أن يعظ لقمانُ ولدَه وأمره ونهاه قبل أن يفعل ذلك مع ولده، ودعاه إلى شكر النعمة قبل أن يدعو إليها ولده: (وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْـحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَن يَشْكُرْ فَإنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ) [لقمان: 12]، وكل ذلك حتى يكونَ له قدم السبق في العمل بتلك الوصايا فيكون مثالاً للاقتداء فيوافق الحالُ المقالَ، ويكون أدعى للطاعة والامتثال، وكما قيل (حال رجل في ألف رجل خير من قول ألف رجل لرجل).
رابعاً: توجيهات تراعي الأولويات، وَفْق ميزان الشرع، فتقدم ما هو أَوْلى بالتقديم، وتؤخر ما حقه التأخير: فحق الله في التوحيد الخالص، وإفراده بالعبادة أَوْلى بالتقديم من حق الوالدين في الطاعة ولذلك بدأ بحق الله - تعالى - فقال: (يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) [لقمان: 13]، ثم ثنَّى بحق الوالدين فقال: (وَوَصَّيْنَا الإنسَانَ بِوَالِدَيْهِ) ثم أكد هذا المعنى فقال: (وَإن جَاهَدَاكَ عَلَى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا) [لقمان: 15].
وشُكْر الله لأنه المنعم الأول بتهيئة أسباب الرعاية، أَوْلى بالتقديم من شكر الوالدين الذين هما سبب الرعاية: (أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ ) [لقمان: 14].
وإصلاح النفس أَوْلى بالتقديم من إصلاح المجتمع ولذلك أوصى ولده بإقامة الصلاة التي هي وسيلة لإصلاح النفس قبل أن يوصيه بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر التي هي وسيلة إصلاح المجتمع: (يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْـمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْـمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ) [لقمان: 17].
خامساً: توجيهات لا تحذِّر من المساوئ إلا بقدر ما تعرِّف بالمحاسن، ولا تنهى عن المنكر إلا بقدر ما تأمر بالمعروف، ولا ترهِّب من الرذيلة إلا بقدر ما ترغِّب في الفضيلة، فهي ليست تربية سلبية تحذِّر من الشر ثم تترك الدلالة على الخير؛ فالتربية هي التنمية ومن يكتفي بالتحذير من المساوئ والنهي عن المنكر والترهيب من الرذيلة والتخويف من الشر، ثم لا نرى منه تعريفاً بالمحاسن ولا أمراً بالمعروف ولا ترغيباً في الفضيلة ولا دلالة على الخير، هو في الحقيقة يقتصر على الهدم دون البناء؛ والتربية الناجحة تقوم على الهدم والبناء، على التخلية والتحلية، على التطهير والتنمية؛ فهي إزالة وهدم للأخلاق السيئة وتنمية وبناء للأخلاق الحسنة، وهنا نرى لقمان يجمع بين الأمرين (فهو يحذِّر من الشرك ومظاهر الكبر وفي هذا هدم للمساوئ، وهو في الوقت ذاته يدعو إلى طاعة الوالدين وإقامة الصلاة وإصلاح المجتمع؛ وفي هذا تنمية للأخلاق الفاضلة).
سادساً: توجيهات تقوم على اقتراح البدائل وعلى كشف الداء ووصف الدواء؛ فهو يكشف المظاهر السيئة التي هي عنوان ودليل الرذائل، ويصف البديل عنها من المظاهر الحسنة المؤدية إلى اكتساب محاسن الأخلاق، وانظر معي قول لقمان وهو يشخِّص الداء من مظاهره الدالة عليه فيقول: (وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ) [لقمان: 18] وهذه كلها مظاهر تدل على أن صاحبها مصاب بداء الكبر، ثم انظر إليه وهو يضع الحلول والوسائل والدواء للشفاء من هذا المرض والظفر بنقيضه فيقول: (وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ) [لقمان: 19] فكما أن التبختر في المشيَ، وتصعيرَ الخد، ورفعَ الصوت طلباً للظهور ولفتاً للأنظار كلها دالة على الكبر ووسيلة إليه، فإن القصد في المشي وغضَّ الصوت وسيلة لاكتساب التواضع ودالة عليه.
سابعاً: استخدام كل الوسائل التوضيحية المتاحة التي تتقرب بها المعاني، وتتضح بها التوجيهات؛ وخاصة للناشئة الذين ما زالوا يحتاجون إلى الصور المشاهدَة المحسوسَة والمألوفة لتلقِّي المعرفة وإدراك المعاني أكثر من حاجتهم إلى المعرفة النظرية، ولقد استخدم لقمان عدة وسائل في تعليم هذه الوصايا، من ضرب الأمثال واستخدام الكنايات والتشبيهات، فكان مما قال: (يَا بُنَيَّ إنَّهَا إن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُن فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَوَاتِ أَوْ فِي الأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ) [لقمان: 16]، ومنها: (وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ) [لقمان: 18]. قال ابن كثير: (وأصل الصعر داء يأخذ الإبل في أعناقها أو رؤوسها حتى تلفت أعناقها عن رؤوسها فشبه به الرجل المتكبر)، ومنها: (وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ إنَّ أَنكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْـحَمِير) [لقمان: 19]. وهذه الوسائل التي استخدمها لقمان في وعظه لابنه (حبة خردل - صخرة - تصعر - صوت الحمير) كلها وسائل محسوسة ومشاهدَة ومألوفَة في ذلك الزمان، ولا شك أن المدنية الحديثة، والثورة التقنية، والحضـارة المعاصرة جاءتنا بكثير من الوسائل التي يمكن استخدامها في تقريب المفاهيم وتوضيح المعاني إلى عقول الناشئة.
ثامناً: وصايا شاملة لكل ما يحتاج إليه الأبناء، في حياتهم الفردية، والأسرية، والاجتماعية، بما يجعل كلاً منهم صالحاً في نفسه مصلحاً لغيره، فاعلاً للخير وحاضّاً عليه، متمسكاً بالقيم وطريقاً إليها، عارفاً بحق الله وحق نفسه وحقوق الناس عامة، وحق المحسنين إليه خاصة؛ فهي تسعى إلى إصلاح حاله مع الله بالتوحيد الصافي وإقامة الشعائر، وإصلاح حاله مع نفسه بالتزام مكارم الأخلاق واجتناب مساوئها، وإصلاح حاله داخل نطاق الأسرة بالإحسان إلى والديه، وإصلاح حاله داخل نطاق المجتمع بأن يكون فاعلاً فيه بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
تاسعاً: أن تكـون وصايا نابعـة مـن حـب الآباء لأبنـائهـم وحرصهم على صلاحهم: ولعلك لمست هذا في نداء لقمان لابنه فهو لم يناده باسمه، بل تسمعه يناديه بكلمة (يا بني!) ويكررها في أغلب وصاياه، وهي كلمة تزول عندها المسافات، وتتحاضن القلوب، وتتفجر كلُّ معاني العطف والحنان، ويلمس الأبناء في جرسها دفء الأبوَّة، وتجعلهم أكثر استجابة لوصايا أبآئهم وعملاً بها، وهل هناك أجمل من أن ينادي الأب ولده بأعظم رابطة تجمع بينهما؟ ويشعر الولد بأن حق هذه الرابطة الحميمة هو الذي دفع والده إلى هذه الوصايا التي فيها صلاحه في دينه ودنياه، في حاضره ومستقبله، في عاجل أمره وآجله.
أخيراً: بعد دراستنا لهذه الوصايا رأينا أن من خصائص التربية الناجحة التي أشاد بها القرآن وخلَّدها إلى آخر الزمان، وجعلها ثمرة الحكمة التي وهبها الله لعبده لقمان وصارت دستوراً للآباء لتربية أبنائهم: هي التربية التي يتعهد فيها الآباء أبناءهم بالنصح والتوجيه، وينطلقون فيها من المعرفة والخبرة، ويقترن بها ما يغري بالالتزام، وتجمع بين التحذير من المساوئ والتعريف بالمحاسن، وتضع البدائل وتكشف الداء وتصف الدواء، وتبدأ بالقدوة الحسنة قبل الموعظة الحسنة، وتضع كل شيء في موضعه وتزنه بميزان الشرع، وتستخدم كل الوسائل المتاحة لتقريب المعاني وتوضيح المفاهيم، وتسعى إلى بناء الشخصية المتوازنة، وتشمل كل ما يحتاج إليه الفرد في حياته العامة والخاصة، وتكون نابعة من حب الآباء وحرصهم على إصلاح أبنائهم. وعلى قدر التزام الآباء بالنهج الذي سارت عليه هذه الوصايا يكون نجاحهم في التربية، وتكون فرحتهم وسعادتهم بجني ثمارها في أبنائهم الذين هم أغلى ما يملكون في حياتهم من رجاء البر والإحسان منهم عند الكبر، وأغلى ما يتركون بعد موتهم من بقاء الذكر ودوام العمل؛ ففي الحديث «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له»[1] وصدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عندما قال: ((ما نحل والد ولده نحلاً أفضل من أدب حسن))[2]؛ أي أن أفضل ما يهديه الوالد لولده إحسان أدبه.
___________________
[1] أخرجه مسلم.
[2] مسند الإمام أحمد