الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده؛ أما بعد:
فإن من سنة الأنبياء الاستثناء عند العزم على فعل الأشياء، والمراد بالاستثناء: قول إن شاء الله، أو إلا أن يشاء الله؛ فهي سنة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم؛ امتثالًا لأمر ربه الذي قال: ﴿ وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا ﴾ [الكهف: 23]؛ قال الشنقيطي في أضواء البيان: "والمراد بالغد: ما يستقبل من الزمان لا خصوص الغد، ومن أساليب العربية إطلاق الغد على المستقبل من الزمان؛ ومنه قول زهير:
وأعلم علم اليوم والأمس قبله *** ولكنني عن علم ما في غدٍ عَمِ".
وقال شعيب والذين آمنوا معه: ﴿ وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ ﴾ [الأعراف: 89]، وفي سورة الكهف في سياق قصة موسى والخضر عليهما السلام: ﴿ قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا ﴾ [الكهف: 69]، وهي سنة سليمان عليه السلام؛ فقد أخرج الشيخان في صحيحيهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((قال سليمان بن داود عليهما وعلى نبينا الصلاة والسلام: لأطوفنَّ الليلة على سبعين امرأةً - وفي رواية: تسعين امرأةً، وفي رواية: مائة امرأة - تلد كل امرأة منهن غلامًا يقاتل في سبيل الله، فقيل له - وفي رواية قال له الملَك: قل: إن شاء الله، فلم يقل، فطاف بهن فلم تلد منهن إلا امرأة واحدة نصف إنسان، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده، لو قال: إن شاء الله، لم يحنث وكان دركًا لحاجته، وفي رواية: ولقاتلوا في سبيل الله فرسانًا أجمعون)).
وقد كان نبينا صلى الله عليه وسلم يمتثل ما أمره الله به من أمره بالاستثناء عند العزم على فعل الأشياء؛ ففي المتفق عليه عن أبي موسى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أني والله إن شاء الله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرًا منها، إلا كفرت عن يميني، وأتيت الذي هو خير))، وفي حديث ابن عمر مرفوعًا: ((قد اجتمع في يومكم هذا عيدان؛ فمن شاء أجزأه عن الجمعة، وإنا مجمعون إن شاء الله تعالى))؛ [رواه أبو داود بسند صحيح]، وفي المتفق عليه عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا: ((منزلنا غدًا إن شاء الله بخيف بني كنانة حيث تقاسموا على الكفر)).
وروى البخاري في الأدب المفرد (833) بسند صحيح عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن عشتُ، نهيتُ أمتي إن شاء الله أن يسميَ أحدهم "بركة، ونافعًا، وأفلح" - ولا أدري قال: رافع أم لا - يقال: ها هنا بركة؟ فيقال: ليس ها هنا، فقُبض النبي صلى الله عليه وسلم ولم ينهَ عن ذلك)).
ومن بركة الاستثناء أن الحالف إن استثنى ففعل المحلوف على تركه، أو ترك المحلوف على فعله، فإنه يسلم من الإثم ومن الكفارة؛ فقد صح عند أبي داود عن ابن عمر مرفوعًا: ((من حلف على يمين فقال: إن شاء الله، فقد استثنى، وفي رواية: من حلف على يمين فقال: إن شاء الله، فهو بالخيار إن شاء مضى وإن شاء ترك)).
ومن شؤم ترك الاستثناء ألَّا يتم ما عزم الإنسان على فعله، كما في قصة سليمان عليه السلام التي تقدمت وفي آخرها قال صلى الله عليه وسلم: ((والذي نفسي بيده، لو قال: إن شاء الله، لم يحنث وكان دركًا لحاجته، وفي رواية: ولقاتلوا في سبيل الله فرسانًا أجمعون)).
وقال صلى الله عليه وسلم: ((إن يأجوج ومأجوج ليحفرون السد كل يوم، حتى إذا كادوا يرَون شعاع الشمس، قال الذي عليهم: ارجعوا فستحفرونه غدًا، فيعيده الله أشد ما كان، حتى إذا بلغت مدتهم وأراد الله أن يبعثهم على الناس، حضروا حتى إذا كادوا يرَون شعاع الشمس، قال الذي عليهم: ارجعوا فستحفرونه غدًا إن شاء الله واستثنَوا، فيعودون إليه وهو كهيئته حين تركوه، فيحفرونه ويخرجون على الناس، فينشفون الماء، ويتحصن الناس منهم في حصونهم، فيرمون سهامهم إلى السماء فترجع وعليها كهيئة الدم الذي اجفظَّ، فيقولون: قهرنا أهل الأرض وعلونا أهل السماء، فيبعث الله عليهم نغفًا في أقفائهم فيقتلهم بها، والذي نفسي بيده، إن دواب الأرض لتسمن وتشكر شكرًا من لحومهم ودمائهم))؛ [رواه أحمد وأبو داود بسند صحيح].
ومن نسي الاستثناء، فله أن يقوله إذا ذكره؛ قال ابن عباس رضي الله عنهما: "إذا قلتَ شيئًا فلم تقل: إن شاء الله، فقل إذا ذكرت: إن شاء الله"؛ قال ابن حجر في تعليق التغليق (4/ 244): إسناده صحيح.
وأما حكم الاستثناء، فهو مشروع بكل حال، وأما الوجوب، فإنه لا يجب إلا في حال واحدة؛ قال العثيمين رحمه الله في تفسير سورة الكهف (ص: 46): "سأفعل هذا على سبيل الخبر لا على سبيل الجزم بوقوع الفعل، فإن ذلك لا يلزمه أن يأتي بالمشيئة؛ يعني: لو قال لك صاحبك: هل تمر عليَّ غدًا؟ فقلت: نعم، ولم تقل: إن شاء الله، فلا بأس؛ لأن هذا خبر عما في نفسك، وما كان في نفسك فقد شاءه الله، فلا داعي لتعليقه بالمشيئة، أما إن أردت أنه سيقع ولا بد، فقل: إن شاء الله، وجه ذلك أن الأول خبر عما في قلبك، والذي في قلبك حاضر الآن، وأما أنك ستفعل في المستقبل فهذا خبر عن شيء لم يكن، ولا تدري هل يكون أو لا يكون".


رابط الموضوع: https://www.alukah.net/sharia/0/138974/#ixzz6FnLLtByJ