شروط الواقفين، منزلتها، وبعض أحكامها
سليمان الماجد
الوقف على مكروه :
حقيقة المكروه أن للشارع مقصداً في تركه وترغيباً للناس في البعد عنه ، وما دام أنه قد ترجح في المطلب الأول عدم مشروعية الوقف على مباح مستوي الطرفين ؛ فإن المكروه أولى بهذا الحكم .
ولهذا قرر بعض العلماء ؛ كما في "الإنصاف" (2/252) كراهة تقديم المفضول في الإمامة مع وجود الأفضل ؛ ولو مع شرط واقف .
وقـد ذهب بعض العلماء إلى جواز الوقف على مكروه ، وجواز إنفاذه للنظار والحكام ، وقاسوا ذلك على وجوب طاعة السلطان ؛ وإن أمر بمكروه .
قال النفراوي في "الفواكه الدواني" (1/211) : (.. لأن شرط الواقف واجب الاتباع وإن كان بمكروه , وكذلك السلطان أو نائبه لوجوب اتباع أمره , وإن أمر بمكروه ـ على أحد قولين ـ لظاهر قوله صلى الله عليه وسلم : "لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق" فإنه يقتضي بمفهومه أن طاعة السلطان واجبة في أمره بالمكروه ) .
وقارن كلام صاحب "الفواكه الدواني " هذا بما جاء في "حاشية الدسوقي" (4/427) في كلام صاحب المتن في حرمة الإيصاء بمعصية ؛ حيث قرر الشارح أن تنفيذ الوصية بالمكروه مكروه ، وأن في تنفيذها بالمباح قولان ، وأن المراد بالمعصية ما ليس بقربة .
ثم إن لقياسه رحمه الله جواباً وهو أن امتثال أمر السلطان واجب ما لم يكن معصية هو بنص الشارع ؛ فدخل المكروه فيما يجب امتثاله ؛ لأنه ليس بمعصية ، أما كلام الواقف فليس بواجب الامتثال إلا فيما كان قربة ؛ فلم ينعقد شرطه أصلاً ؛ كما تقرر في الوقف على المباح ؛ فلا يرد هذا على ما سبق تقريره .
وقد أبطل أبو حنيفة كما في "غمز عيون البصائر" (2/239) تعيين الواقف القراءة عند القبر ؛ كونها مكروهة ، وأن الواقف لو شرط هذا اُعتبر باطلاً ؛ لأجل هذه الكراهة .
المبحث الرابع :
الشروط الجائزة
كل ما عدا ما ذُكر من الشروط الماضية وهي الباطلة والمكروهة والمباحة
فهي شروط جائزة وحكمها الاستحباب ؛ لأنـها من القرب ؛ كالوقف على قرابة أو فقراء أو حلق علم ، أو سقاية ماء ، أو ما كان من مصلحة الوقف ؛ كتعيين ناظر وعزله .
التصرف في الشروط الجائزة :
تتعرض شروط الواقفين لتصرف المتولي أو القاضي بما لا يوافق نص الواقف في كتاب وقفه بأنواع شتى من التصرفات :
كتصرف يتعلق بعين الوقف بيعاً ، أو إبدالاً ، أو زيادة أو نقصاً ونحو ذلك .
أو يتعلق بالموقوف عليه ؛ بصرفه إلى غيره ، أو تغيير ترتيب الواقف استحقاق الموقوف عليهم .
أو يتعلق ببعض الشروط التي هي من باب سد ذرائع فساده ، أو من باب وسائل إصلاحه ؛ كأوصاف الناظر والمستحق للنظارة ، وطرق صيانته ، وأجرة الناظر ، وأحكام عزله .
وما من فقيه إلا ويرى مشروعية التصرف في شروط الواقف ؛ وإن اختلف الفقهاء في حد ذلك تضييقاً وتوسعة .
التصرف رعاية لضرورة :
إذا كان تصرف المتولي لأجل ما يُخشى على عين الوقف من الفساد أو الاضمحلال ؛ فللمتولي في هذه الحال أن يُعرض عما في شروط الواقف إذا كانت تمنع هذا الإصلاح ، وذلك حتى تُرفع حال الضرورة ، ويُدرء الخطر المحدق بالوقف .
وإذ كان التصرف لا يقتضي تغييراً في بنية الوقف الأساسية ؛ كالتصرف بالاستبدال فأكثر الفقهاء على جواز عمل ما يخالف شرط الواقف ، ومثاله : إذا شرط أن لا تؤجر الدار أكثر من سنة ثم انهدمت , وليس لها جهـة عمارة إلا بإجارة سنين ؛ فقد رخص كثير من العلماء في مخالفة شرطه رعايةً لهذه الضرورة ونحوها ؛ كما في "أسنى المطالب" (2/464) ، و"إعانة الطالبين" (3/169) ، و"منح الجليل" (8/170) .
وقد جاء في "شرح مختصر خليل" للخرشي (7/93) ( .. لا يُتَّبع شرطُ الواقف عدمَ البداءة بإصلاح ما انثلم من الوقف ؛ فلا يجوز اتباعه ; لأنه يؤدي إلى بطلان الوقف من أصله ؛ بل يبدأ بمرمة الوقف وإصلاحه ; لأن في ذلك البقاء لعينه والدوام لمنفعته .. ) .
والفقهاء إنما رعوا بذلك أحكام الضرورات ؛ كمداوة المريض بما له ضرر ؛ إذا خيف على المريض من ضرر أكبر .
واشترط في "درر الحكام" (2/139) إذن المحكمة ، وهو شرط حسن يتحقق به رعاية مصالح الوقف ، ومقصد الواقف ، ويسد ذرائع التلاعب بالأوقاف .
ومن الإضرار بالواقف والوقف ترك صرف معيناته بحجة تعذر وجود الموقوف عليه ؛ كالوقف على نظافة الأنـهار إذا جفت ، ونحو ذلك .
فإن كان يُرجى وجود الموقوف عليه في وقت قريب عرفاً اُنتظر به ، وإلا صرفه إلى مصرف مثيل أو قريب منه ؛ فإن المقصد الأعلى للواقف نيل الأجر ؛ فإن تعذر تحصيل الوصف المطلوب الذي هو من وسائل تحقيق ذلك المقصد : صُرف إلى مثله ؛ فلا يُلغى مقصد لأجل وسيلة .
وانظر "بلغة السالك" (4/124) للصاوي .
أما استبدال العقار الموقوف عند تعطل منافعه بالكلية ؛ فهو من رعاية ضرورات الوقف ؛ وسيأتي قريباً إن شاء الله .
التصرف رعايةًً للأصلح :
تصرف الناظر رعاية الأصلح تُتَصور في مقاصد الواقف من وقفه ؛ كجنس المنفعة ، وفي أعيان الموقوف عليهم . كما تُتصور أيضاً وفي وسائل تحصيل مقاصد الوقف ومنافعه .
فمثالها في الوسائل : نقل العين الموقوفة ـ إذا كانت تجارية ـ إلى مكان ذي ريع أكثر ؛ دون المساس بما نص عليه الواقف في مصارف الوقف .
وفي المقاصد : تغيير المصرف الذي نص عليه الواقف من جهة معينة إلى جهة أنفع للواقف في الأجر والمثوبة ؛ كتغييره من توزيع الكتب في منطقة نص الواقف عليها أهلها أغنياء ، والجهل فيها قليل إلى منطقة فقيرة إقبال الناس فيها أكثر ، وحاجتهم أعظم ؛ وغير ذلك مما تظهر خيريته .
للعلماء في ذلك اتجاهان مشهوران :
الأول : المنع من التصرف في شرط الواقف ونصه في عين الوقف ومصرفه ، وسائر شروطه بلا ضرورة ، وإنما لمطلق المصلحة ، وعليه أكثر أهل العلم . وانظر في ذلك "مغني المحتاج" للشربيني (2/393) " ، والإنصاف" (7/57) للمرداوي.
واستدلوا لذلك بقوله صلى الله عليه وسلم لعمر رضي الله عنه : "إن شئت حبست أصلها , وتصدقت بها غير أنه لا يباع أصلها ولا يوهب ولا يورث" .
وكذلك بما ذكره العلماء في شروط الواقفين ، وأنها كنص الشارع في وجوب العمل بها ، وقد مضى في أول البحث تأصيل هذه القاعدة .
والاتجاه الثاني : اعتبار المصلحة الظاهرة في أي تصرف في العين نقلاً واستبدالاً وتغييراً لمعالمها واسمها ، أو في المصارف والموقوف عليهم ؛ ولا يكون نص الواقف مانعاً من هذا التصرف ؛ ما دام أنفع للجهة الموقوف عليها ، وأعظم أجراً للواقف .
وهو أحد قولي الإمام أحمد في نقل المسجد للمصلحة ؛ كما في "المغني" (5/368) لابن قدامة .
واختار هذا القول وهو اعتبار المصلحة في كل تصرف جمع من العلماء منهم ابن تيمية والشوكاني ، وأنقل لك يعض كلامهما في هذا المقام .
قال الإمام ابن تيمية في "الفتاوى الكبرى" (4/509) : ( .. ويجوز تغيير شرط الواقف إلى ما هو أصلح منه ؛ وإن اختلف ذلك باختلاف الزمان ؛ حتى لو وقف على الفقهاء والصوفية واحتاج الناس إلى الجهاد صُرف إلى الجند ) .
وقال في المرجع نفسه (4/510) : ( .. وإذا وقف على الفقراء فأقارب الواقف الفقراء أحق من الفقراء الأجانب مع التساوي في الحاجة , وإذا قُدِّر وجود فقير مضطر كان دفع ضرورته واجباً , وإذا لم تندفع ضرورته إلا بتنقيص كفاية أقارب الواقف من غير ضرورة تحصل لهم : تعين ذلك ) .
وقال الإمام الشوكاني في "السيل الجرار" (3/336) ( .. قد تقرر أن الوقف ملك لله محبس للانتفاع به ، وما كان هكذا فلا يُنظر فيه إلى جانب الواقف إلا من جهة العناية بمصير ثواب وقفه إليه على أكمل الوجوه وأتمها ، مهما كان ذلك ممكناً ، ومعلومٌ أن الاستبدال بالشيء إلى ما هو أصلح منه باعتبار الغرض المقصود من الوقف والفائدة المطلوبة من شرعيته حسن سائغ شرعاً وعقلاً ؛ لأنه جلب مصلحة خالصة عن المعارض ، وقد عرفناك غير مرة أن من عرف هذه الشريعة كما ينبغي وجدها مبنية على جلب المصالح ودفع المفاسد ، وها هنا قد وجد المقتضي وهو جلب المصلحة بظهور الأرجحية ، وانتفاء المانع ، وهو وجود المفسدة ؛ فلم يبق شك ولا ريب في حسن الاستبدال ) .
والذي يظهر من كلام الإمامين أن الأصل منع التصرف في شروط الواقفين إلا إذا ظهرت مصلحة أكبر للوقف أو الموقوف عليهم ؛ فإن ظهرت جاز للمتولي أن يصير إليها .
وهذا ما يفترق فيه عمل ناظر الوقف عن عمل من يتولى الأموال العامة من السلاطين ؛ فتصرفهم مطلقٌ في الزمـان والمكـان والأشخاص وجنـس المنفعة . واختيارُ أي منها إنما ينشأ من الوالي نفسه ، ولا قيود عليه إلا رعاية مطلق المصلحة ؛ بخلاف الناظر فهو مقيد بكتاب الوقف ؛ ما لم تظهر مصلحة أعظم فيجوز له التصرف بناء عليها .
وهذا الاختيار الذي مال إليه الإمامان متوائم مع أصول الشريعة ومقاصدها ؛ كما أنه متوافق مع مقاصد الواقفين .
الوقف ليس تعبداً محضاً :
والمتأمل في الوقف يرى أنه ليس من جنس التعبدات المحضة التي لا يُعمل فيها إلا بالنص ؛ بل هو من جنس الوسائل لتحقيق مقاصد الواقفين ، والقاعدة في الوسائل هي مشروعية التصرف وفق ما تقتضيه الغاية المقصودة .
إن السمة الرئيسة للعاديات أنها معقولة المعنى على التفصيل معروفة المصلحة ، وسمة التعبدات المحضة ؛ كالصلاة والصوم والحج أنه لا يُعقل لها معنى إلا على الإجمال .
قال الشاطبي في "الاعتصام" (2/329) : ( ثبت في الأصول الشرعية أنه لابد في كل عادي من شائبة التعبد ؛ لأن ما لا يعقل معناه على التفصيل من المأمور به أو المنهي عنه ؛ فهو المراد بالتعبدي وما عُقل معناه وعرفت مصلحة أو مفسدته فهو المراد بالعادي ) .
وقال في المرجع نفسه (1/238) عن تبليغ الشريعة : (.. والتبليغ كما لا يتقيد بكيفية معلومة ـ لأنه من قبيل معقول المعنى ـ فيصح بأي شيء أمكن من الحفظ والتلقين والكتابة ، وكذلك لا يتقيد حفظه عن الزيغ والتحريف بكيفية دون أخرى ) .
وقال (2/397) في الوسيلة الواجبة وهي تدوين العلم : (.. كما أنه لا يلزم أن يكون على كيفية معلومة ؛ فإنا لو فرضنا حفظ القرآن والعلم بغير كَتْبٍ مطرداً لصح ذلك ) أهـ .
والوقف معلوم المصلحة معقول المعنى على التفصيل ؛ فليس فيه ما في التعبدات المحضة مما لا يُعقل له معنى إلا على الإجمال ؛ كزمن العبادة في الصوم والصلاة والحج ، ومكانها كالحج ، والأعداد المفصلة فيها ؛ كعدد الركعات ، وعدد الجمرات ، وعدد التسبيحات .
فلما لم يوجد في الوقف شيء من سمات العبادة المحضة من اعتبار زمان أو مكان أو عدد أو هيئة معينة على وجه لا يُعرف مقصوده على التفصيل ، ولا تُدرك مصلحته : دل ذلك على أن الوقف ليس تعبدياً محضاً ؛ بل هو معقول المعنى معروف المصلحة ؛ فصار اعتبارها فيه ، وإجراء القياس عليه أمراً صحيحاً ، لا مطعن فيه .
ومما يقوي هذا القول : الإجماع على جواز بيع الفرس الموقوفة على الغزو إذا كبرت ؛ فلم تصلح للغزو ، وأمكن الانتفاع بها في شيء آخر ؛ مثل أن تدور في الرحى ، أو يُحمل عليها تراب .
وبأن عمر رضي الله عنه كتب إلى سعد لما بلغه أنه قد نُقب بيت المال الذي بالكوفة (أي فُتح فيه نقب من جهة المسجد لسرقته) قال : انقل المسجد الذي بسوق التمَّارين ، واجعل بيت المال في قبلة المسجد .
وانظر في مسألة نقل المسجد "المغني" (5/368) لابن قدامة ، "مجموع الفتاوى" (31/225) لابن تيمية ، و"التاج والإكليل" (6/42) للعبدري ، و"الفتاوى" (3/67) للرملي ، و"البحر الرائق" (5/237) لابن نجيم .
ويتأيد هذا بأنه قد صح في الشريعة اعتبار الأصلح في التصرف في زمن عبادةٍ محضة ومكانها ، والأصل في هذه العبادة هو اللزوم ؛ كالوقف :
فقد ثبت في السنة عن جابر رضي الله عنه أن رجلاً قال يوم الفتح : يا رسول الله إني نذرت إن فتح الله عليك مكة أن أصلي في بيت المقدس , فقال : "صل هاهنا" فسأله , فقال : "صل هاهنا" فسأله , فقال : "فشأنك إذن" .
رواه أحمد في "المسند" (3/363) وأبو داود في "السنن" (3/236) .
فالأصل في النذر اللزوم بحسب ما عينه الناذر ، ولما كانت الصلاة في المسجد الحرام أفضل من بيت المقدس جعله صلى الله عليه وسلم في حل من التزام ما عينه بالنذر ؛ إذا أتى بالأفضل .
وإذا كان هذا في نذر العبادة المحضة ؛ فكيف يكون الحكم في التصرف بالأصلح في الوقف وهو معقول المعنى معروف المصلحة ؟
وملاحظة المصالح ، وترك العمل ببعض نصوص الكتاب والسنة لأجلها معتبر في الشريعة فكيف بنصوص الواقفين ؟
وانظر في تعارض المصالح : "القواعد" (1/60) لابن عبد السلام ، و"مجموع الفتاوى" (20/48) لابن تيمية .
ويُجاب عما استدلوا به من حديث ابن عمر بأن مقصود الحديث في منع البيع هو بيع التصرف المطلق الذي يقتضي عود الموقوف حراً يتصرف فيه البائع بالثمن تصرف الملاك ، ويؤكد هذا النهي ما جاء في الحديث من النهي عن هبته وإرثه ؛ مما يدل على البيع هنا إنما هو بيعُ من يريد استنفاد الثمن ؛ شأن الملاك .
ويمكن أن يُضبط هذا بأن يكون التصرف بتحقق أمرين لا يصح إلا بهما : طلب الناظر ، وإذن المحكمة .
وقد أشار إلى هذا المعنى ابن مفلح في "الفروع" (4/473) حين قال :
( .. ولكن الأولى أن الحاكم لا يستبد به دون ناظره الخاص) أهـ .
ولا ريب أن إذن المحكمة سوف يراعي المصلحة في النقل ، ومنها ـ سوى تحقق الغبطة والحظ للوقف في العقار الجديد ـ أن لا يُعرَّض الوقف لمخاطر حركة البيع والشراء لأدنى مصلحة تُلمح ؛ بل لا بد أن تكون ظاهرة جلية .
أمثلة التصرف في الوقف للمصلحة :
وهذه بعض الأمثلة التي يجوز للنظار بناء على ما تقرر أن يتصرفوا فيها في شروط الواقفين ؛ إذا كان التصرف أصلح للوقف أو الموقوف عليهم :
1. نقل الوقف من مكان إلى مكان .
2. تغيير عين الوقف من عين إلى أخرى ، مع بقاء المصرف على حاله ؛ كالبستان يحول إلى بناية ؛ حيث يشكو كثير من نظار الأوقاف بأن البستان لا يدر إلا ريعاً قليلاً ، وقد ينعدم الريع فيكون عبئاً على ناظره ، وتعطيلاً لمصالح الوقف ؛ بخلاف المساكن .
3. تغيير نشاط الوقف الاستثماري المنصوص من الواقف من نوع إلى آخر ، ويُحتاج إلى هذا عند حدوت تغير في التمدد السكاني ، وتحول بعض الشوارع من سكنية إلى تجارية .
4. دمج أعيان الأوقاف المتعددة ؛ إذا كانت على مصرف واحد ، وإذا تعذر إفراد وقف مختلف المصرف بسبب قلة قيمته ؛ فيُدمج مع الأوقاف الأخرى في عين واحدة ؛ ليكون لكل وقف حصة مشاعة معلومة ، يتم تسجيلها في وثيقة التملك .
ويكون لهذا الوقف مجلس من نظار الأوقاف لإدارته .
وتكاد مفاسد ذلك أن تنعدم مع تقدم طرق التوثيق وثباتها .
5. صرف ما يفيض من ريع الوقف بعد تنفيذ المعينات ، إلى أنواع أخرى من وجوه البر .
6. صرف الريع إلى جهة أكثر نفعاً ، وأعظم أجراً للواقف .
7. استثمار ما يفيض من ريع الوقف بعد صرف المعينات ؛ بشراء أصول جديدة ، أو المضاربة بهذا الريع .
المبحث الخامس :
موقف الناظر من الشروط المختلف في صحتها
إن وصول المرء ـ في مسائل الاجتهاد ـ إلى نتيجة في حكمٍ على شيء بحرمة أو بطلان يترتب عليه آثار منها :
1. التسليم للشريعة ، وأن لا يجد في نفسه حرجاً مما قضى الله ورسوله .
2. إظهار هذا الرأي ، وبيانه للناس ؛ لينتفع بذلك من يراه .
3. وجوب الامتثال بامتناعه هو عن هذا الباطل ؛ لأن الحجة قامت عليه بقدر ما تحصل عنده من علم .
4. أنه إذا كانت للمرء سلطة إصدار الأنظمة والتعليمات فله إصدار أوامر بمنع ما يراه باطلاً ؛ لأن للحاكم أن يقيد المباح المتفق على إباحته لمصلحة ؛ فبالأولى إذا كانت المسألة محل اجتهاد في صحتهاوبطلانها .
ولا يعني اعتقاد حكم شرعي استباحة العرض أو الظهر لمن خالفنا فيه .
كما لا يعني إبطال العقود والإنشاءات أو الامتناع عن توثيقها ؛ لمجرد أنه يقول ببطلانها .
وليس للمخالف في صحتها أن يقول : إن هناك أمراً من رب العالمين بذلك ؛ فكيف أخالفه ؟ أو أن يقول : لا يجوز أن أعمل ـ بمقتضى الديانة لله تعالى ـ خلاف قناعتي ؛ لأنه يُقال له : إن هذا اجتهاده هو ، ولا يكون هذا الاجتهاد ملزماً للآخرين .
وقد كان الصحابة والتابعون رضي الله عنهم ولاة لدولة الخلافة ؛ فهل كان الوالي لا يُجري إلا ما يراه في الأمور الاجتهادية ؟ أو أنه يلتزم رأي الإمام وإن خالف رأيه ؟ الأظهر هو ترك اجتهاداتهم ـ في أمور الولاية ـ لاجتهاده .
وقد كان الإمام أحمد رحمه الله لا يرى شرعية القنوت في غير النوازل ، ولكنه كان يقنت خلف من يفعل ذلك ؛ كما كان يرى بطلان صلاة من أكل لحم إبل دون أن يتوضأ ، ولكنه صلي خلف من لم يتوضأ من أكله .
والصحابة كانوا يختلفون في مثل هذه المسائل مما يُعد مبطلاً للصلاة أو غير مبطل ، وكان بعضهم يصلي خلف بعض دون نكير .
وإذا كانت صلاة الإمام والمأموم تَبْطُل بالمتفق بينهما على كونه ناقضاً : فلا شك أن تصحيح السلف صلاة المأموم في المختلف فيه منها ـ رغم مخالفته رأي إمامه ـ دليل على إمضاء اجتهادات الآخرين في محل الاجتهاد ؛ حتى وإن كان في أمور تتعلق بأفعال المكلف نفسه ؛ كصلاته .
وفي هذا جواب لمن يعترض فيقول لا أمضي بيدي ما أعتقد منعه .
فعليه لا مانع من إجازة وتوثيق وإنفاذ شروط الواقفين محل الاجتهاد في صحتها ، وإن خالفت رأي الناظر أو الموثق .
ومهما أجهدنا أنفسنا في تلمس الحدود والفواصل بين ما يسوغ فيه الاجتهاد وما لا يسوغ فلن نصل إلى نتيجة في كل مسألة ، ولكن ليكن البدل من هذا هو الوصول إلى الفقه ، ومعرفة أسباب الخلاف ، وحجج المخالفين ، وما جرى عليه العمل ، واستقرت عليه المذاهب ، ومعرفة فقه السلف في مثل هذه المسائل.
وانظر في الخلاف والعلاقة مع المخالف "الفتاوى الكبرى" لابن تيمية (2/453فما بعدها) ، و"التنقيح" (3/436) لابن عبد الهادي ، و"القول السديد" (1/139) للموري الحنفي ، "ومواهب الجليل" (6/24) للحطاب ، و"حجة الله البالغة" (1/335) للدهلوي ، و"قواعد التحديث" للقاسمي (1/370) .
خاتمة بخلاصة البحث
اشتمل هذا البحث ما يلي :
توطئة : تضمنت إشارة سريعة إلى أهمية الوقف وآثارة في قوة الأمة
وتنميتها ، وكذلك أصلُ مشروعية الوقف ، ومجالات شروطه من الموقوف عليهم ، والعين الموقوفة ، والناظر وفاضل الريع .
كما تضمن المبحث الأول : مكانة شروط الواقفين في الشريعة ، وكلام العلماء في وجوب العمل بنصوص الواقفين وشروطهم .
وأن تأصيل ذلك أن الواقف لم يرض بحبس ملكه لله تعالى وإخراجه من ملكه إلا بهذه الشروط ، ومقتضى ذلك في سائر العقود أن الشرط إذا لم يتحقق بطل العقد وعاد المعقود عليه إلى صاحبه ، ولا سبيل إلى ذلك في الوقف ؛ فوجب اعتبار شروط الواقف في وقفه .
وحققت فيه أن عبارة : نصوص الواقف كنصوص الشارع في الفهم ووجوب العمل صحيحة .
ومن شنع على هذه الجملة من العلماء فإنما قصد ما عليه بعض الفقهاء من إعطاء قدسية لنصوص الواقف ، وإن خالفت قواعد الشريعة ومقاصدها .
كما تضمن المبحث الثاني : مسألة المعتبر في دلالة ألفاظ الواقفين ، وأهميتها ؛ لما فيها من تحقيق إرادة الواقف ، وما يترتب عليها من العدل بين الموقوف عليهم .
ثم ذكرت طريقة اعتبار دلالة لفظ الواقف ، وأن للعلماء منهجين : الأول : اعتبار عرف الشريعة فيما له مصطلح شرعي ، والثاني : اعتبار لغة الواقف وعرفه ، وبينت أن هذا الأخير هو أرجح القولين .
وذكرت أن هذه المسألة ـ في أصلها ـ ضرورية ظاهرة ؛ ولهذا بنى عليها العلماء في فهم ألفاظ الكتاب والسنة ؛ فقرروا أن المعتبر في ذلك مصطلح الشارع ؛ لأنه أقوى الدلالات على مراده ؛ فإن لم يوجد له مصطلح فلغة العرب ؛ لنزول القرآن بها ؛ فإن لم توجد فعرف المخاطبين في ذلك .
وأن سبيل فهم نص الواقف هو مصطلحه ثم لغته ثم عرفه .
وتّخرَّج على هذا مسألة وهي لو وقف على الفقراء من يرى أن عادم بيت المثل فقيراً : جاز لناظر وقفه أن يُعطي مَنْ هذه صفته من ريع هذا الوقف ، ولو كان حد الفقر في الشريعة لا ينطبق عليه ؛ لأننا استنبطنا مراده من عرفه المطرد .
ثم ذكرت جملة من كلام أهل العلم ممن قال بذلك .
كما ظهر لي في هذا المبحث أن متأخري الحنفية اعتبروا دليل الخطاب في نصوص الواقفين ؛ بخلاف اختيار متقدميهم .
كما بينت أن اللغات ـ حتى الأعجمية والعامية منها ـ إنما يُبنى فهم مقاصد المتكلمين بها على قواعد مشتركة يُعتبر فيها النص والظاهر والمجمل والمبين والعام والخاص والمطلق والمقيد والناسخ والمنسوخ ومباحث اللغة ؛ كالاشتراك والترادف والتضاد والترتيب والفور والتراخي والاستثناء ، وكذلك المنطوق والمفهوم مخالفاً وموافقاً .
ويُعتـبر فيها أيضاً قواعد التعارض ، وما ينتج عنها من الجمع أو النسخ أو الترجيح ، كما يُعتبر العرف .
وأن مباحث أصول الفقه وقواعده هي طريق فهم كلام الناس ، ولهذا قال العلماء : إن نص الواقف كنص الشارع ، من حيث الفهم والدلالة .
ثم ذكرت فيه بعض فروع هذه الأصول والقواعد .
كما تضمن المبحث الثالث : ذكر الشروط الباطلة .
ومنها : الوقف على ما حُرم لعينه ، أو حرم فعله كبدعة .
وكل شرط يُخل بمقاصد الشريعة في رعاية الوقف ، وذكرت أمثلة .
ومنها اشتراط ما يفضي إلى مفاسد : كتمييز الواقف بين الناس بسبب مذاهبهم ؛ كالوقف على أتباع مذهب معين ، وكلام بعض العلماء في ذلك .
وأن الوقف على مباح مستوي الطرفين ، أو ما لا فائدة فيه للواقف غير لازم للأدلة والتعليلات المفصلة في البحث .
وأن الوقف على مكروه : باطل أيضاً ؛ لما ذُكر من التعليلات .
كما تضمن المبحث الرابع : ذكر الشروط الجائزة .
وحكم تصرف الناظر والحاكم في الشروط الجائزة
وأن من التصرف المعتبر رعاية ضرورة الوقف ، دون المساس بعينه ، وهو قول أكثر أهل العلم ؛ كالخوف على عين الوقف من الفساد أو الاضمحلال ؛ فللمتولي في هذه الحال أن يُعرض عما في شروط الواقف إذا كانت تمنع هذا الإصلاح ، وذلك حتى تُرفع حال الضرورة ، ويُدرء الخطر المحدق بالوقف .
ومنها التصرف رعايةًً للأصلح سواء كان ذلك في العين أو الشروط أو المعينات أو الموقوف عليهم .
وذكرت أن للعلماء في ذلك اتجاهين مشهورين بالمنع والجواز ورجحت ما اختاره الإمامان ابن تيمية والشوكاني وغيرهما من أن الأصل وجوب العمل بشروط الواقفين إلا إذا ظهرت مصلحة أكبر للوقف أو الموقوف عليهم ؛ فإن ظهرت جاز للمتولي أن يصير إليها . وبينت الفرق بين عمل ناظر الوقف في ذلك وبين عمل من يتولى الأموال العامة من السلاطين .
وذكرت تعليل ذلك ، وأن يُضبط هذا بأن يكون هذا التصرف بتحقق أمرين لا يصح إلا بهما : طلب الناظر ، وإذن المحكمة .
ثم ذكرت أمثلة للتصرف في الوقف للمصلحة ومنها :
1. نقل الوقف من مكان إلى مكان .
2. تغيير عين الوقف من عين إلى أخرى .
3. تغيير نشاط الوقف الاستثماري المنصوص من الواقف من نوع إلى آخر .
4. دمج أعيان الأوقاف المتعددة .
5. صرف الريع إلى جهة أكثر نفعاً ، وأعظم أجراً للواقف .
6. استثمار ما يفيض من ريع الوقف .
كما تضمن المبحث الخامس : موقف الناظر من الشروط المختلف في صحتها وهي محل اجتهاد ، وأنه لا يجوز أن تُبطل الشروط أو يُمتنع عن توثيقها ؛ لمجرد أن اجتهاد الناظر أو الحاكم يقتضي بطلانها .
وذكرت هدي السلف في ذلك من الصحابة والتابعين وعزوت إلى كلام بعض أهل العلم في ذلك .
هذا وأسأل الله أن ينفعني به وأن يغفر خطأي وعمدي وكل ذلك عندي ، الله أعلم وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .