تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


النتائج 1 إلى 4 من 4

الموضوع: فوائد من إغاثة اللهفان في مصايد الشيطان لابن القيم

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي فوائد من إغاثة اللهفان في مصايد الشيطان لابن القيم

    فوائد من إغاثة اللهفان في مصايد الشيطان لابن القيم(1-4)


    فهد بن عبد العزيز الشويرخ



    الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين, نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين...أما بعد: فمن أهم مصنفات العلامة ابن القيم رحمه الله كتابه "إغاثة اللهفان في مصايد الشيطان " ويدور الكتاب حول موضوعين رئيسين: الأول: أمراض القلوب وعلاجهاالثاني: مكايد الشيطان التي يكيد بها ابن آدم
    والكتاب مشحون بالفوائد, وقد يسر الله الكريم لي فانتقيتُ شيئاً منها, لا تغنى عن أصل الكتاب, أسأل الله الكريم أن ينفع بها ويبارك فيها.
    كتبه/ فهد بن عبدالعزيز بن عبدالله الشويرخ
    لا سعادة للقلب ولا لذة ولا نعيم ولا صلاح إلا بأن يكون إلهه وفاطره وحده هو معبوده وغاية مطلوبه, وأحب إليه من كل ما سواه
    ليس في الكائنات شيء غير الله سبحانه يسكن القلب إليه, ويطمئن به, ويأنس به, ويتنعم بالتوجه إليه! ومن عبد غيره سبحانه وحصل له به نوع منفعة ولذة, فمضرته بذلك أضعاف أضعاف منفعته, وهو بمنزلة أكل الطعام المسموم اللذيذ, وكما أن السماوات والأرض لو كان فيهما إله غيره سبحانه لفسدتا كما قال تعالى: {لَو كانَ فيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّـهُ لَفَسَدَتا }[الأنبياء:22] فكذلك القلب إذا كان فيه معبود غير الله فسد فساداً لا يرجي صلاحه إلا بأن يخرج ذلك المعبود من قلبه, ويكون الله وحده إلهه ومعبوده الذي يحبه ويرجوه ويخافه, ويتوكل عليه, وينيب إليه.
    فأوامره سبحانه, وحقه الذي أوجبه على عباده, وشرائعه التي شرعها لهم, هي قرة العيون, ولذة القلوب, ونعيم الأرواح وسرورها, وبه سعادتها وفلاحها, وكمالها في معاشها ومعادها,
    انقسام القلوب إلى صحيح وسقيمٍ وميتٍ
    القلب الصحيح هو القلب السليم الذي لا ينجو يوم القيامة إلا من أتى الله به كما قال تعالى: { يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّـهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ } [الشعراء:88-89] والقلب السليم...الذي قد سلم من كل شهوة تخالف أمر الله ونهيه, ومن كل شبهة تعارض خبره, فسلم من عبودية ما سواه, وسلم من تحكيم غير رسوله.
    والقلب الثاني: ضدُّ هذا, وهو القلب الميت الذي لا حياة به, فهو لا يعرف ربه, ولا يعبده بأمره وما يحبه ويرضاه, بل هو واقف مع شهواته ولذاته, ولو كان فيها سخط ربه وغضبه....الهوى إمامه, والشهوة قائده, والجهل سائسه, والغفلة مركبه..لا يستجيب للناصح, ويتبع كل شيطان مريد, الدنيا تسخطه وترضيه.
    ومخالطة صاحب هذا القلب سقم, ومعاشرته سُم, ومجالسته هلاك.
    والقلب الثالث: قلب له حياة وبه علة, فله مادتان, تمده هذه مره مرة, وهذه أخرى, وهو لما غلب عليه منهما, ففيه من محبة الله تعالى والإيمان به والإخلاص له والتوكل عليه ما هو مادة حياته, وفيه من محبة الشهوات وإيثارها, والحرص على تحصيلها, والحسد, والكبر, والعجب, وحب العلو في الأرض بالرياسة ما هو مادة هلاكه وعطبه
    أمراض القلب:
    مرض القلب نوعان: نوع لا يتألم به صاحبه في الحال...كمرض الجهل, ومرض الشبهات والشكوك, ومرض الشهوات, وهذا النوع هو أعظم النوعين ألماً, ولكن لفساد القلب لا يحس بالألم...وهذا أخطر المرضين وأصعبهما, وعلاجه إلى الرسل وأتباعهم, فهم أطباء هذا المرض.
    والنوع الثاني: مرض مؤلم في الحال, كالهم والحزن والغيظ وهذا المرض قد يزول بأدوية طبيعية كإزالة أسبابه, أو بالمداواة بما يضاد تلك الأسباب, ويدفع موجبها
    وهذا كما أن القلب قد يتألم بما يتألم به البدن, ويشقى بما يشقى به البدن, فكذلك البدن يتألم كثيراً بما يتألم به القلب, ويُشقيه ما يشقيه.
    الغيظ يؤلم القلب ودواؤه في شفاء غيظه, فإن شفاه بحق اشتفى, وإن شفاه بظلم وباطل زاده مرضاً من حيث ظن أنه يشفيه...وكذلك الغم والهم والحزن أمراض للقلب, وشفاؤها بأضدادها من الفرح والسرور, فإن كان بحق اشتفى القلب وصحَّ ..وإن كان بباطل توارى ذلك واستتر ولم يزل, وأعقبه أمراضاً هي أصعب وأخطر.
    زكاة القلب:
    القلب إذا تخلص من الذنوب بالتوبة فقد استفرغ من تخليطه, فتخلصت قوة القلب وإرادته للخير, فاستراح من تلك الجواذب الفاسدة والمواد الرديئة, فزكا ونما, وقوي واشتد, وجلس على سرير ملكه, ونفذ حكمه في رعيته, فسمعت له وأطاعت فلا سبيل له إلى زكاته إلا بعد طهارته, كما قال تعالى: {قُل لِّلْمُؤْمِنِين َ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّـهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ } [النور:30] فجعل الزكاة بعد غض البصر وحفظ الفرج.
    ولهذا كان غضُّ البصر عن المحارم يوجب ثلاث فوائد عظيمة الخطر, جليلة القدر:
    إحداها: حلاوة الإيمان ولذته..فإن من ترك لله شيئاً عوضه الله خيراً منه.
    الفائدة الثانية: نور القلب وصحة الفراسة...فمن غض بصره عما حرمه الله عليه عوضه الله من جنسه ما هو خير منه, فكما أمسك نور بصره عن المحرمات, أطلق الله نور بصيرته وقلبه فرأى به ما لم يره من أطلق بصره ولم يغُضَّه عن محارم الله.
    الفائدة الثالثة: قوة القلب وثباته وشجاعته.
    القرآن متضمن لأدوية القلب وعلاجه من جميع أمراضه
    قال الله تعالى)يا أَيُّهَا النّاسُ قَد جاءَتكُم مَوعِظَةٌ مِن رَبِّكُم وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدورِ[ [يونس:57] وقال: {وَنُنَزِّلُ مِنَ القُرآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحمَةٌ لِلمُؤمِنينَ } [الإسراء:82] جماع أمراض القلب..أمراض الشبهات والشهوات, والقرآن شفاء للنوعين:
    ففيه من البينات والبراهين القطعية ما يُبين الحق من الباطل, فتزول أمراض الشُّبه المفسدة للعلم والتصور والإدراك, بحيث يرى الأشياء على ما هي عليه...فهو الشفاء على الحقيقة من أدواء الشبه والشكوك, ولكن ذلك موقوف على فهمه ومعرفة المراد منه.
    فمن رزقه الله ذلك أبصر الحق والباطل عياناً بقلبه, كما يرى الليل والنهار, وعلم أن ما عداه من كتب الناس وآرائهم ومعقولاتهم بين علوم لا ثقة بها, وإنما هي آراء وتقليد, وبين ظنون كاذبة لا تغنى من الحق شيئاً, وبين أمور صحيحة لا منفعة للقلب فيها, وبين علوم صحيحة قد وعروا الطريق إلى تحصيلها, وأطالوا الكلام في إثباتها, مع قلة نفعها.
    ومن المحال أن لا يحصل الشفاء والهدى والعلم واليقين من كتاب الله وكلام رسوله, ويحصل من كلام هؤلاء المتحيرين المتشككين الشاكين.
    وأما شفاؤه لمرض الشهوات فذلك بما فيه من الحكمة والموعظة الحسنة, بالترغيب والترهيب, والتزهيد في الدنيا, والترغيب في الآخرة, والأمثال والقصص التي فيها أنواع العبر والاستبصار, فيرغب القلب السليم إذا أبصر ذلك فيما ينفعه في معاشه ومعاده, ويرغب عما يضرُّه, فيصير القلب محباًٍ للرشد, مبغضاً للغي, فيتغذى القلب من الإيمان والقرآن بما يزكيه ويقويه, ويؤيده ويفرحه, ويسره وينشطه.

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: فوائد من إغاثة اللهفان في مصايد الشيطان لابن القيم

    فوائد من إغاثة اللهفان في مصايد الشيطان لابن القيم(2-4)


    فهد بن عبد العزيز الشويرخ

    علامات مرض القلب وصحته:
    كل عضو من أعضاء البدن خلق لفعل خاص به, كماله في حصول ذلك الفعل منه, ومرضه أن يتعذر عليه الفعل الذي خلق له, حتى لا يصدر منه, أو يصدر مع نوع من الاضطراب, فمرض اليد: أن يتعذر عليها البطش, ومرض العين: أن يتعذر عليها النظر والرؤية, ومرض اللسان: أن يتعذر عليه النطق, ومرض البدن أن يتعذر عليه حركته الطبيعية أو يضعف, ومرض القلب: أن يتعذر عليه ما خلق له من المعرفة بالله, ومحبته, والشوق إلى لقائه, والإنابة إليه, وإيثار ذلك على كل شهوة.
    وقد يمرض القلب ويشتد مرضه, ولا يعرف به صاحبه لاشتغاله وانصرافه عن معرفة صحته وأسبابها, بل قد يموت وصاحبه لا يشعر بموته, وعلامة ذلك أنه لا تؤلمه جراحات القبائح, ولا يُوجعه جهله بالحق وعقائده الباطلة, فإن القلب إذا كان فيه حياة يألم بورود القبيح عليه, ويألم بجهله بالحق بحسب حياته.
    وقد يشعر بمرضه, ولكن يشتد عليه تحمل مرارة الدواء والصبر عليها, فيُؤثر بقاء ألمه على مشقة الدواء, فإن دواءه في مخالفة الهوى, وذلك أصعب شيء على النفس, وليس لها أنفع منه.
    وتارة يوطن نفسه على الصبر, ثم ينفسخ عزمه, ولا يستمر معه لضعف علمه وبصيرته وصبره...ومتى رجع من الطريق, ولم يتحمل مشقتها, ولاسيما إن عدم الرفيق, واستوحش من الوحدة, وجعل يقول: أين ذهب الناس؟ فلي بهم أسوة.
    والبصير الصادق لا يستوحش من قلة الرفيق ولا من فقده, إذا استشعر قلبه مرافقة الرعيل الأول, { الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّـهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِين َ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَـٰئِكَ رَفِيقًا} [النساء:69] فتفرد العبد في طريق طلبه دليل على صدق الطلب
    والمقصود أن من علامات أمراض القلوب عدولها عن الأغذية النافعة الموافقة لها إلى الأغذية الضارة, وعدولها عن دوائها النافع إلى دائها الضار, فهنا أربعة أمور: غذاء نافع, ودواء شاف, وغذاء ضار, وداء مهلك.
    فالقلب الصحيح يؤثر النافع الشافي على الضار المؤذي, والقلب المريض بضد ذلك
    وأنفع الأغذية غذاء الإيمان وأنفع الأدوية دواء القرآن.
    من علامات صحة القلب أن يرتحل عن الدنيا حتى ينزل بالآخرة, ويحل فيها, حتى يبقى كأنه من أهلها وأبنائها, جاء إلى هذه الدار غريباً, يأخذ منها حاجته, ويعود إلى وطنه, كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لعبدالله بن عمر: «كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل, وعُدَّ نفسك من أهل القبور »
    وكلما صح القلب من مرضه ترحل إلى الآخرة, وقرب منها, حتى يصير من أهلها, وكلما مرض القلب واعتل آثر الدنيا واستوطنها, حتى يصير من أهلها.
    ومن علامات صحة القلب: أن لا يفتر عن ذكر ربه, ولا يسأم من خدمته, ولا يأنس بغيره, إلا بمن يدله عليه, ويُذكر به, ويذاكره بهذا الأمر...وإذا فاته ورده وجد لفواته ألماً أعظم من تألم الحريص بفوات ماله وفقده.
    ومن علامات صحة القلب: أنه لا يزال يضرب على صاحبه, حتى ينيب إلى الله ويخبت إليه, ويتعلق به تعلق المحب المضطر إلى محبوبه, الذي لا حياة له ولا فلاح ولا نعيم ولا سرور إلا برضاه وقربه والأنس به, فبه يطمئن وإليه يسكن, وإليه يأوي, وبه يفرح, وعليه يتوكل, وبه يثق, وإياه يرجو, وله يخاف, فذكره: قُوتُه وغذاؤه, ومحبته والشوق إليه: حياته ونعيمه ولذته وسروره, والالتفات إلى غيره والتعلق بسواه: داؤه, والرجوع إليه: دواؤه.
    ومن علامات صحته: أنه إذا دخل في الصلاة ذهب عنه همُّه وغمُّه بالدنيا, واشتد عليه خروجه منها, ووجد فيها راحته ونعيمه, وقُرة عينه وسرور قلبه.
    ومنها: أن يكون أشحَّ بوقته أن يذهب ضائعاً من أشد الناس شحاً بماله
    ومنها: أن يكون اهتمامه بتصحيح العمل أعظم منه بالعمل, فيحرص على الإخلاص فيه, والنصيحة, والمتابعة, والإحسان, ويشهد مع ذلك منة الله عليه فيه, وتقصيره في حق الله.
    فهذه ستة مشاهد, لا يشهدها إلا القلب الحيُّ السليم.
    وبالجملة فالقلب الصحيح: هو الذي همه كله في الله, حبه كله له, وقصده له, وبدنه له, وأعماله له, ونومه له, ويقظته له, وحديثه والحديث عنه أشهى إليه من كل حديث, وأفكاره تحوم على مراضيه ومحابه, والخلوة به آثر عنده من الخلطة, إلا حيث تكون الخلطة أحب إليه وأرضى له, قُرةُ عينه به, وطمأنينته وسكونه إليه, فهو كلما وجد من نفسه التفاتاً إلى غيره, تلا عليها: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّة ُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً } [الفجر:27-28]
    محاسبة النفس:
    قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا, وقال ميمون بن مهران : لا يكون العبد تقياً حتى يكون لنفسه أشدّ محاسبة من الشريك لشريكه, وقال الحسن : إنما خفّ الحساب يوم القيامة على قوم حاسبوا أنفسهم في الدنيا, وإنما شقّ الحساب يوم القيامة على قوم أخذوا هذا الأمر من غير محاسبة.
    وقد مُثلت النفسُ مع صاحبها بالشريك في المال, فكما أنه لا يتم مقصود الشركة من الربح إلا بالمشارطة على ما يفعل الشريك أولاً, ثم بمطالعة ما يعمل, والإشراف عليه ومراقبته ثانياً, ثم بمحاسبته ثالثاً, ثم بمنعه من الخيانة إن اطلع عليه رابعاً, فكذلك النفس يشارطها أولاً على حفظ الجوارح السبعة التي حفظها هو رأس المال, والربح بعد ذلك, فمن ليس له رأس مال, فكيف يطمع في الربح ؟
    وهذه الجوارح السبعة – وهي العين, والأذن الفم, اللسان, الفرج, اليد, الرجل- وهي مركب العطب والنجاة, فمنها عطب من عطب بإهمالها وعدم حفظها, ونجا من نجا بحفظها ومراعاتها, فحفظها أساس كل خير, وإهمالها أساس كل شر,
    قال تعالى: {قُل لِّلْمُؤْمِنِين َ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} [النور30]
    وقال تعالى: {وَلا تَمشِ فِي الأَرضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَن تَخرِقَ الأَرضَ وَلَن تَبلُغَ الجِبالَ طولًا } [الإسراء:37] وقال تعالى: { وَقُل لِعِبادي يَقولُوا الَّتي هِيَ أَحسَنُ} [الإسراء:53] وقال تعالى: {وَلا تَقفُ ما لَيسَ لَكَ بِهِ عِلمٌ إِنَّ السَّمعَ وَالبَصَرَ وَالفُؤادَ كُلُّ أُولـئِكَ كانَ عَنهُ مَسئولًا }[الإسراء:36]
    وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّـهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} [الأحزاب:70] وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّـهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ } [الحشر:18]
    فإذا شارطها على حفظ هذه الجوارح انتقل منها إلى مطالعتها والإشراف عليها ومراقبتها, فلا يُهملها, فإنه إن أهملها لحظة وقعت في الخيانة ولا بدّ, فإن تمادى على الإهمال تمادت في الخيانة, حتى يذهب رأس المال كله.

    ويعينه على هذه المراقبة والمحاسبة معرفته أنه كلما اجتهد فيها اليوم استراح منها غداً...وكلما أهملها اليوم اشتد عليه الحساب غداً.
    ويعينه عليها أيضاً معرفته أن ربح هذه التجارة سُكنى الفردوس, والنظر إلى وجه الرب سبحانه, وخسارتها دخول النار, والحجاب عن الرب تعالى, فإذا تيقن هذا هان عليه الحساب اليوم.




  3. #3
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: فوائد من إغاثة اللهفان في مصايد الشيطان لابن القيم


    فوائد من إغاثة اللهفان في مصايد الشيطان لابن القيم(3-4)


    فهد بن عبد العزيز الشويرخ

    أضرار عدم محاسبة النفس:
    أضر ما عليه: الإهمال, وترك المحاسبة, والاسترسال, وتسهيل الأمور, وتمشيتها, فإن هذا يؤول به إلى الهلاك, وهذا حال أهل الغرور يُغمض عينيه عن العواقب, ويمشي الحال, ويتكل على العفو, فيهمل محاسبة نفسه والنظر في العاقبة, وإذا فعل ذلك سهل عليه مواقعة الذنوب, وأنِس بها, وعسر عليه فطامها, ولو حضره رشده لعلم أن الحمية أسهل من الفطام وترك المألوف والمعتاد, وقد دل على وجوب محاسبة النفس قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّـهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ} [ [الحشر:18]
    فوائد محاسبة النفس
    في محاسبة النفس عدة مصالح:
    منها: الاطلاع على عيوبها, ومن لم يطلع على عيب نفسه لم يمكنه إزالته, فإذا اطلع على عيبها مقتها في ذات الله.
    ومن فوائد محاسبة النفس: أنه يعرف بذلك حق الله عليه, ومن لم يعرف حق الله عليه فإن عبادته لا تكاد تجدي عليه, وهي قليلة المنفعة جداً.
    فمن أنفع ما للقلب: النظر في حق الله على العبد, فإن ذلك يورثه مقت نفسه, والإزراء عليها, ويخلصه من العجب ورؤية العمل, ويفتح له باب الخضوع والذل والانكسار بين يدي ربه, واليأس من نفسه, وأن النجاة لا تحصل له إلا بعفو الله ومغفرته ورحمته, فإن من حقه أن يُطاع ولا يُعصى, وأن يُذكر فلا ينسى, وأن يُشكر فلا يكفر.
    فمن نظر في هذا الحق الذي لربه عليه عَلِم عِلمَ اليقين أنه غير مودٍّ له كما ينبغي, وأنه لا يسعه إلا العفو والمغفرة, وأنه إن أُحيل على علمه هلك.
    علاج مرض القلب:
    هذا الباب من أهم أبواب الكتاب وأعظمها نفعاً, والمتأخرون من أرباب السلوك لم يعتنوا به اعتناءهم بذكر النفس وعيوبها وآفاتها, فإنهم توسعوا في ذلك, وقصروا في هذا الباب, ومن تأمل القرآن والسنة وجد اعتناءهما بذكر الشيطان وكيده ومحاربته أكثر من ذكر النفس, فإن النفس المذمومة ذُكرت في قوله: { إِنَّ النَّفسَ لَأَمّارَةٌ بِالسّوءِ} [يوسف:53]واللوامة في قوله {وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ } [القيامة:2] وذكرت النفس المذمومة في قوله:{ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى} [ [النازعات:40] وأما الشيطان فذُكر في عدة مواضع..فتحذير الرب تعالى لعباده منه جاء أكثر من تحذيره من النفس, وهذا هو الذي لا ينبغي غيره, فإن شر النفس وفسادها ينشأ من وسوسته فهي مركبه, وموضع سره, ومحل طاعته,وقد أمر الله سبحانه بالاستعاذة منه عند قراءة القرآن وغير ذلك, وهذا لشدة الحاجة إلى التعوذ منه, ولم يأمر بالاستعاذة من النفس في موضع واحد, وإنما جاءت الاستعاذة من شرها في خطبة الحاجة في قوله: «ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا » وقد جمع النبي صلى الله عليه وسلم بين الاستعاذة من الأمرين, في الحديث الذي رواه الترمذي وصححه أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه, قال: يا رسول الله علمني شيئاً أقوله إذا أصبحت وإذا أمسيت؟ قال: قل: اللهم عالم الغيب والشهادة! فاطر السماوات والأرض! رب كل شيء ومليكه أشهد أن لا إله إلا أنت, أعوذ من شر نفسي وشر الشيطان وشركه وأن أقترف على نفسي سوءاً أو أُجرّه إلى مسلم, قله إذا أصبحت وإذا أمسيت وإذا أخذت مضجعك.
    في مكايد الشيطان التي يكيد بها ابن آدم:
    قال تعالى إخباراً عن عدوه إبليس, لما سأله عن امتناعه عن السجود لآدم, واحتجاجه بأنه خير منه, وإخراجه من الجنة, أنه سأله أن ينظره, فأنظره, ثم قال عدو الله: {فَبِما أَغوَيتَني لَأَقعُدَنَّ لَهُم صِراطَكَ المُستَقيمَ * ثُمَّ لَآتِيَنَّهُم مِن بَينِ أَيديهِم وَمِن خَلفِهِم وَعَن أَيمانِهِم وَعَن شَمائِلِهِم وَلا تَجِدُ أَكثَرَهُم شاكِرينَ } [ [الأعراف:16-17] فما من طريق خير إلا والشيطان قاعد عليه, يقطعه على السالك.قال قتادة: أتاك الشيطان يا ابن آدم من كل وجه, غير أنه لم يأتك من فوقك, لم يستطع أن يحول بينك وبين رحمة الله.
    وقال تعالى: {يعدهم ويُمنيهم } فوعده ما يصل إلى قلب الإنسان, نحو: سيطول عمرك, وتنال من الدنيا لذتك, وستعلو على أقرانك, وتظفر بأعدائك, والدنيا دول, ستكون لك كما كانت لغيرك, ويُطوِّل أمله, ويعده بالحُسنى على شركه ومعاصيه, ويمنيه الأماني الكاذبة على اختلاف وجوهها.
    فيعده الباطل الذي لا حقيقة له وهو الغرور, ويمنيه المحال الذي لا حاصل له.
    ومن كيده للإنسان: أنه يُورده الموارد التي يُخيل إليه أن فيها منفعته, ثم يُصدرُهُ المصادر التي فيها عطبه, ويتخلى عنه ويُسلمه ويقف يشمت به, ويضحك منه, فيأمره بالسرقة والزنى والقتل ويدل عليه ويفضحه
    ومن كيد عدو الله: أنه يخوف المؤمنين من جنده وأوليائه, فلا يجاهدونهم, ولا يأمرونهم بالمعروف, ولا ينهونهم عن المنكر, وهذا من أعظم كيده بأهل الإيمان, وقد أخبرنا سبحانه عنه بهذا, فقال: { إِنَّمَا ذَٰلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ }[آل عمران:175] المعنى عند جميع المفسرين: يُخوفكم بأوليائه, قال قتادة: يُعظمهم في صدوركم.
    ومن مكايد الشيطان: أمره إما بتفريط وتقصير, أو مجاوزة وغلو, فإنه يُشامّ النفس, حتى يعلم أي القوتين اغلب عليها: قوة الإقدام والشجاعة, أم قوة الانكفاف والإحجام والمهانة؟ فإن رأى الغالب على النفس المهانة والإحجام, أخذ في تثبيطه وإضعاف همته وإرادته عن المأمور به , وثقله عليه, وهون عليه تركه, حتى يتركه جملة, أو يقصر فيه ويتهاون به.
    وإن رأى الغالب عليه قوة الإقدام وعلو الهمة, أخذ يقلل عنده المأمور به, ويُوهمه أنه لا يكفيه, وأنه يحتاج معه إلى مبالغة وزيادة.
    ومن كيده: ما ألقاه إلى جُهَّال المتصوفة من الشطح والطامَّات, وأبرزه لهم في قالب الكشف من الخيالات, فأوقعهم في أنواع الأباطيل والترهات, وفتح لهم أبواب الدعاوى الهائلات, وأوحى إليهم أن وراء العلم طريقاً إن سلكوه أفضى بهم إلى كشف العيان, وأغناهم عن التقيد بالسنة والقرآن, فحسن لهم رياضة النفوس وتهذيبها, وتصفية الأخلاق, والتجافي عما عليه أهل الدنيا, وأهل الرياسة والفقهاء, وأرباب العلوم, والعمل على تفريغ القلب وخُلُوِّه من كل شيء, حتى ينتقش فيه الحق بلا واسطة تعلم, فلما خلا من صورة العلم الذي جاء به الرسول نقش فيه الشيطان بحسب ما هو مستعد له من أنواع الباطل..فإذا أنكره عليهم ورثة الرسل قالوا: لكم العلم الظاهر ولنا الكشف الباطن, ولكم ظاهر الشريعة وعندنا باطن الحقيقة فلما تمكن هذا من قلوبهم سلخها من الكتاب والسنة والآثار, كما يسلخ الليل من النهار, ثم أحالهم في سلوكهم على تلك الخيالات, وأوهمهم أنها من الآيات البينات, وأنها من قِبَل الله سبحانه إلهامات, وتعريفات, فلا تُعرضُ على السنة والقرآن, ولا تُعامل إلا بالقبول والإذعان....وكلما ازدادوا بُعداً وإعراضاً عن القرآن وما جاء به الرسول كان هذا الفتح في قلوبهم أعظم.
    ومن كيده الذي بلغ به من الجهال ما بلغ: الوسواس الذي كادهم به في أمر الطهارة والصلاة عند عقد النية, حتى ألقاهم في الآصار والأغلال, وأخرجهم عن اتباع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم , وخيل إلى أحدهم أن ما جاءت به السنة لا يكفى, حتى يضم إليه غيره, فجمع لهم بين الظن الفاسد, والتعب الحاضر, وبطلان الأجر أو تنقيصه.
    ولا ريب أن الشيطان هو الداعي إلى الوسواس, فأهله قد أطاعوا الشيطان, ولبوا دعوته, واتبعوا أمره, ورغبوا عن اتباع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وطريقته, حتى أن أحدهم ليرى أنه إذا توضأ وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم أو اغتسل كاغتساله, لم يطهر ولم يرتفع حدثه.

    ولولا العذر بالجهل لكان هذا مشاقَّةً للرسول, فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلكم يتوضأ بالمد...ويغتسل بالصاع.
    والموسوس يرى أن ذلك القدر لا يكفيه لغسل يديه.
    وصح عنه أنه توضأ مرة مرة, ولم يزد على ثلاث, بل أخبر أن: «من زاد عليها فقد أساء وتعدى وظلم » فالموسوس مسيء مُتعدٍّ ظالم بشهادة رسول الله صلى الله عليه وسلم, فكيف يتقرب إلى الله بما هو مسيء به, متعدٍّ فيه لحدوده ؟




  4. #4
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: فوائد من إغاثة اللهفان في مصايد الشيطان لابن القيم

    فوائد من إغاثة اللهفان في مصايد الشيطان لابن القيم(4-4)


    فهد بن عبد العزيز الشويرخ




    ومن أعظم مكايده التي كاد بها أكثر الناس, وما نجا منها إلا من لم يرد الله فتنته: ما أوحاه قديماً وحديثاً إلى حزبه وأوليائه من الفتنة بالقبور, حتى آل الأمر فيها أن عبد أربابها من دون الله, وعُبدت قبورهم, واتخذت أوثاناً, وبُنيا عليها الهياكل, وصُورت صور أربابها فيها, ثم جعلت تلك الصور أجساداً لها ظل, ثم جُعلت أصناماً, وعبدت مع الله.
    والصلاة عند القبور منهي عنها...فمن أعظم المحدثات وأسباب الشرك: الصلاة عندها, واتخاذها مساجد, وبناء المساجد عليها, فقد تواترت النصوص عن النبي صلى الله عليه وسلم بالنهى عن ذلك, والتغليظ فيه.
    قالت عائشة رضي الله عنها: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي لم يقم منه: « لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أبيائهم مساجد» ولولا ذلك لأُبرز قبره, غير أنه خُشي أن يُتخذ مسجداً.[متفق عليه]
    وقولها: " خُشي " هو بضم الخاء, تعليلاً لمنع إبراز قبره.
    ومن ذلك اتخاذها عيداً...قال شيخ الإسلام قدس الله روحه: قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل قبر على وجه الأرض, وقد نهى عن اتخاذه عيداً, فقبر غيره أولى بالنهى, كائناً من كان.
    في اتخاذ القبور أعياداً من المفاسد العظيمة التي لا يعلمها إلا الله ما يغضب لأجله كلُّ من في قلبه وقار لله, وغَيرة على التوحيد, وتهجين وتقبيح للشرك.
    فمن مفاسد اتخاذها أعياداً: الصلاة إليها, والطواف بها, وتقبيلها واستلامها, وتعفير الخدود على ترابها, وعبادة أصحابها, والاستعانة بهم, وسؤالهم النصر والرزق والعافية, وقضاء الديون, وتفريج الكربات, وإغاثة اللهفات, وغير ذلك من أنواع الطلبات, التي كان عباد الأوثان يسألونها أوثانهم.
    فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصلاة إلى القبور, وهؤلاء يصلون عندها
    ونهى عن اتخاذها مساجد, وهؤلاء يبنون عليها المساجد, ويسمونها مشاهد, مضاهاةً لبيوت الله.
    ونهى عن إيقاد السرج عليها, وهؤلاء يوقفون الوقوف على إيقاد القناديل.
    ونهى أن تتخذ عيداً, وهؤلاء يتخذونها أعياداً ومناسك, ويجتمعون لها كاجتماعهم للعيد أو أكثر.
    وأمر بتسويتها, كما روى مسلم في صحيحه عن أبي الهياج الأسدي, قال: قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: «ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن لا أدع تمثالاً إلا طمسته, ولا قبراً مشرفاً إلا سويته» .
    وفي صحيحه أيضاً عن ثمامة بن شُفيٍّ قال: كنا مع فضالة بن عُبيد بأرض الروم بردوس, فتوفي صاحب لنا, فأمر فضالة بقبره فسوي, ثم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر بتسويتها.
    وهؤلاء يبالغون في مخالفة هذين الحديثين ويرفعونها من الأرض ويعقدون عليها القباب
    ونهى عن تجصيص القبر والبناء عليه كما روى مسلم في صحيحه عن جابر قال: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تجصيص القبر وأن يقعد عليه و يبنى عليه» .
    ونهى عن الكتابة عليها, كما روى أبو داود في سننه, عن جابر رضي الله عنه: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن تجصص القبور, وأن يكتب عليها» .
    قال الترمذي: " حديث حسن صحيح "
    وهؤلاء يتخذون عليها الألواح, ويكتبون عليها القرآن.
    ونهى أن يزاد عليها غير ترابها, كما روى أبو داود من حديث جابر أيضاً: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يُجصص القبر, أو يكتب عليه, أو يزاد عليه.
    وهؤلاء يزيدون عليه – سوى التراب – الآجُر والأحجار والجصّ.
    والمقصود أن هؤلاء المعظمين للقبور, والمتخذينها أعياداً, الموقدين عليها السرج, الذين يبنون عليها المساجد والقباب مناقضون لما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم محادُّون لما جاء به.
    وأعظم ذلك اتخاذها مساجد, وإيقاد السرج عليها, وهو من الكبائر, وقد صرح الفقهاء من أصحاب أحمد وغيرهم بتحريمه.
    ومن مكايد عدو الله ومصايده التي كاد بها من قل نصيبه من العلم والعقل والدين, وصاد بها قلوب الجاهلين والمبطلين: سماع المكاء والتصدية, والغناء بالآلات المحرمة, الذي يصد القلوب عن القرآن, ويجعلها عاكفة على الفسوق والعصيان, فهو قرآن الشيطان, والحجاب الكثيف عن الرحمن, وهو رقية اللواط والزنى, وبه ينال العاشق الفاسق من معشوقه غاية المنى, كاد به الشيطان النفوس المبطلة, وحسنه لها مكراً منه وغروراً, وأوحى إليها الشبه الباطلة على حسنه, فقلبت وحيه واتخذت لأجله القرآن مهجوراً.
    ومن مكايده التي كاد بها الإسلام وأهله: الحيل, والمكر, والخداع, الذي يتضمن تحليل ما حرمه الله, وإسقاط ما فرضه, ومضادته في أمره ونهيه, وهي من الرأي الباطل الذي اتفق السلف على ذمه.
    من المعلوم أن الربا لم يُحرم لمجرد صورته ولفظه, وإنما حُرَّم لحقيقته ومعناه ومقصوده...فتغيير صور المحرمات وأسمائها مع بقاء مقاصدها وحقائقها زيادة في المفسدة التي حُرمت لأجلها, مع تضمنه لمخادعة الله تعالى ورسوله, ونسبة المكر والخداع والغش والنفاق إلى شرعه ودينه وأنه يحرم الشيء لمفسدةٍ ويبيحه لأعظم منها, ولهذا قال أيوب السختياني: يخادعون الله كما يخادعون الصبيان, لو أتوا الأمر على وجهه كان أهون.
    ومن مكايده ومصايده: ما فتن به عُشَّاق الصور:
    وتلك لعمر الله الفتنة الكبرى, والبلية العظمى, التي استبعدت النفوس لغير خلاقها, وملكت القلوب لمن يسومها الهوان من عشاقها, وألقت الحرب بين العشق والتوحيد, ودعت إلى موالاة كل شيطان مريد, فصيرت القلب للهوى أسيراً, وجعلته حاكماً وأميراً, فأوسعت القلوب محنة, وملأتها فتنة, وحالت بينها وبين رُشدها, وصرفتها عن طريق قصدها.
    فيا حسرة المحب الذي باع نفسه لغير الحبيب الأول بثمن بخس, وشهوة عاجلة, ذهبت لذتها, وبقيت تبعتها, وانقضت منفعتها وبقيت مضرتها, فذهبت الشهوة وبقيت الشقوة, وزالت المسرة وبقيت الحسرة
    فالمحب بمن أحبه قتيل, وهو له عبد خاضع ذليل, وإن دعاه لباه, وإن قيل له: ما تتمنى ؟ فهو غاية ما يتمناه, ولا يأنس بغيره ولا يسكن إلى سواه.
    محبة الله جل جلاله أصل الدين
    محبة الله سبحانه والأُنس به, والشوق إلى لقائه, والرضا به وعنه, أصل الدين.
    وهو سبحانه لم يخلق الجن والإنس إلا لعبادته, التي تتضمن كمال محبته, وكمال تعظيمه, والذلّ له, ولأجل ذلك أرسل رسله, وأنزل كتبه, وشرع شرائعه, وعلى ذلك وضع الثواب والعقاب وأُسّست الجنةُ والنار وانقسم الناس إلى شقيٍّ وسعيد.
    فلا شيء أحبُّ إلى القلوب من خالقها وفاطرها, فهو إلهها ومعبودها, ووليها ومولاها, وربها ومدبرها ورازقها, ومميتها ومحييها, فمحبته نعيم النفوس, وحياة الأرواح وسرور النفس وقوت القلوب ونور العقول وقرة العيون, وعمارة الباطن.
    فليس عند القلوب السليمة والأرواح الطيبة والعقول الزكية أحلى ولا ألذَ ولا أطيب ولا أسرُّ ولا أنهم من محبته والأنس به والشوق إلى لقائه.
    والحلاوة التي يجدها المؤمن في قلبه بذلك فوق كل حلاوة, والنعيم الذي يحصل له بذلك أتمّ من كل نعيم, واللذة التي تناله أعلى من كل لذة.
    فمن كان بالله سبحانه وأسمائه وصفاته أعرف, وفيه أرغب, وله أحب, وإليه أقرب, وجد من هذه الحلاوة في قلبه ما لا يمكن التعبير عنه, ولا يُعرفُ إلا بالذوق والوجد, ومتى ذاق القلب ذلك لم يمكنه أن يقدم عليه حبّاً لغيره, ولا أُنساً به, وكلما ازداد له حباً ازداد له عبودية وذلاً وخضوعاً ورقاً له, وحرية عن رقِّ غيره.
    فالقلب لا يفلح ولا يصلح ولا يتنعم ولا يبتهج ولا يلتذُّ ولا يطمئنُّ ولا يسكن إلا بعبادة ربه وحبه والإنابة إليه ولو حصل له جميع ما يلتذُّ به من المخلوقات لم يطمئن إليها ولم يسكن إليها بل لا تزيده إلا فاقة وقلقاً حتى يظفر بما خُلق له, وهُيّئ له, من كون الله وحده نهاية مراده وغاية مطالبه.
    وما مؤمن إلا وفي قلبه محبة الله تعالى, وطمأنينة بذكره, وتنعم بمعرفته, ولذة وسرور بذكره, وشوق على لقائه, وأُنس بقربه, وإن لم يحُسّ به لاشتغال قلبه بغيره, وانصرافه على ما هو مشغول به, فوجود الشيء غير الإحساس والشعور به, وقوة ذلك وضعفه وزيادته ونقصانه هو بحسب قوة الإيمان وضعفه وزيادته ونقصانه.
    فإذا عُرف هذا فالعبد في حال معصيته واشتغاله عنه بشهوته ولذته تكون تلك اللذة والحلاوة الإيمانية قد استترت عنه وتوارت أو نقصت أو ذهبت فإنها لو كانت موجودة كاملة لما قدم عليها لذة وشهوة لا نسبة بينها بوجه ما بل هي أدنى من حبة خردل بالنسبة إلى الدنيا وما فيها..ولهذا تجد العبد إذا كان مخلصاً لله, منيباً إليه, مطمئناً بذكره, مشتاقاً إلى لقائه..منصرفاً عن هذه المحرمات, لا يلتفت إليها.





الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •