بكار ابن قتيبة عدل القاضي وورعه وإصراره على الحق
شاذلي عبد الغني إسماعيل
كان عالمًا جليلاً ومحدثًا ثقة وقاضيًا عادلاً مشهورًا بالزهد والورع يعرفنا به الإمام شمس الدين الذهبي فيقول هو: بكار بن قتيبة بن أسد بن عبيدالله بن بشير بن صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبي بكرة نفيع بن الحارث، الثقفي البكراوي البصري، القاضي الكبير، العلامة المحدث، أبو بكرة، الفقيه الحنفي، قاضي القضاة بمصر، مولده في سنة اثنتين وثمانين ومئة بالبصرة (1).
كان أحد البكائين التالين لكتاب الله ـ عز وجل ـ (2)كما يصفه القاضي شمس الدين ابن خلكان وكان عظيم الحرمة، وافر الجلالة من العلماء العاملين، كان السلطان ينزل إليه، ويحضر مجلسه(3)كما يقول الإمام الذهبي، ويصفه ابن كثير بأنه كان عالماً عابداً زاهداً كثير التلاوة والمحاسبة لنفسه (4)، ويقول عنه الحافظ محمد بن عبد المنعم الحميري صاحب "الروض المعطار في خبر الأقطار ": كان في فضله وعقله ودينه وورعه على ما لم يكن عليه قاض(5).
وقد روى عنه - رحمه الله - الطحاوي فأكثر وبه انتفع وتخرج، وروى عنه أيضًا أبو عوانة في " صحيحة " وأبو بكر ابن خزيمة إمام الأئمة (6).
وعني بالحديث، وكتب الكثير، وبرع في الفروع، وصنف واشتغل(7). وقد كان من أفقه أهل زمانه في المذهب الحنفي ومما صنفه " الشروط " وكتاب " المحاضر والسجلات " وكتاب " الوثائق والعهود "وهو كبير. وصنف كتابا جليلا، نقض فيه على الشافعي، - رحمه الله -، رده على أبي حنيفة (8)، ولهذا الكتاب قصة تبين لنا طبيعة القاضي العادل الذي اعتاد على التحري والتقصي قبل الشروع في الحكم حتى يتيقن من إقامته للعدل فيحكم وهو مستريح الضمير، فقد كان للقاضي بكار - رحمه الله - كما يقول ابن زولاق اتساع في العلم والمناظرة، ولما رأى " مختصر المزني " وما فيه من الرد على أبي حنيفة، شرع هو في الرد على الشافعي، فقال لشاهدين من شهوده: اذهبا واسمعا هذا الكتاب من أبي إبراهيم المزني، فإذا فرغ منه فقولا له: سمعت الشافعي يقول ذلك وتشهدا عليه به؟ فمضيا وسمعا من أبي إبراهيم " المختصر "، وسألاه: أنت سمعت الشافعي يقول ذلك؟ قال: نعم، فعادا إلى القاضي بكار، وشهدا عنده على المزني أنه سمع الشافعي يقول ذلك، فقال القاضي بكار: الآن استقام لنا أن نقول: قال الشافعي، ثم رد على الشافعي هذا الكتاب (9). فهذا هو منهج القاضي العادل قد صار أسلوب حياة لا يكاد يفارقه.
ورعه وخشيته:
القاضي بكار كما عرفنا كان واحدًا من الزهاد العباد الخاشعين الذين تظل غايتهم الكبرى هي رضا الله - عز وجل - يسعون إلى هذه الغاية سعيًا بينما تتقلب أحوالهم بين الخوف والرجاء..لا يلتفتون إلى زخارف الدنيا ولا يلقون بالاً لزينتها، ويرون أن أجمل ما فيها هو التقرب إلى الله عبر مجاهدة النفس وتنقية الروح والإخلاص في القول والعمل..ودائمًا ما يحاسبون أنفسهم أشد ما يكون الحساب.
هكذا كان القاضي بكار - رحمه الله - حيث كانت أفعاله وأقواله تجسيدًا حيًّا لمبادئ ديننا الإسلامي ولقيمه ولأخلاقه، تخبرك حياته أن مفتاح شخيصته هو الخوف من الله، ولأن الخوف من الله يمحو من النفس كل خوف ويرسخ فيها معاني الشجاعة والعدل و العفة والصبر فإن هذه هي الصفات التي نراها بارزة في شخصية القاضي ـ رحمه الله ـ.
وقد جعله خوفه من الله - سبحانه - لا يصدر حكمًا في قضية من القضايا إلا بعد حساب دقيق ومراجعة قوية وتيقن وتثبت من أنه استوفى كل ما يجب عليه أن يستوفيه حتى يحقق العدالة التامة إلا أن خوفه وإشفاقه يظلان يشعرانه دائمًا بالتقصير ويحثانه على محاسبة نفسه التي يبغي لها أن تصل إلى الغاية ويخشى عليها أن تحيد عن الطريق، يروي لنا أحمد بن سهل الهروي قصة تبين لنا مدى خشيته وإشفاقه على نفسه وشعوره بعظم المسؤوليه التي ألقيت على عاتقه بتوليه القضاء فيقول: " كنت ساكنا في جوار بكار بن قتيبة، فانصرفت بعد العشاء، فإذا هو يقرأ: ( يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ) قال: ثم نزلت في السحر، فإذا هو يقرؤها، ويبكي، فعلمت أنه كان يتلوها من أول الليل (10).
وكان - رحمه الله - دائمًا ما يكثر البكاء، وهو يبين لنا السبب ببيت شعر كان يردده:
لنفسي أبكى لستُ أبكي لغيرها *** لعَيْبِي في نفسي عن الناس شاغل (11)
مكانته عند الخليفة المتوكل: وكان للقاضي بكار مكانة كبيرة عند المتوكل على الله الخليفة العباسي الذي أظهر السنة، وتكلم بها في مجلسه، وكتب إلى الآفاق برفع المحنة وبسط السنة، ونصر أهلها(12). يروي لنا ابن الملقن في كتابه " طبقات الأولياء " قصة تبين لنا عظم المكانة التي نالها القاضي بكار عند الخليفة المتوكل، بل هي تكشف لنا عن القدر الكبير الذي وصل إليه بين أهل عصره نتيجة لورعه وزهده وعلمه، فقد اختاره المتوكل قاضيًا على مصر وأرسل إليه من يبشره بذلك فأعطى بكار الرجل الذي جاءه بتقليد القضاء رغيفين، " فاستحقرهما وقال: "وا خيبة طريقاه! ". ففرط في أحدهما في الطريق، وأعطاه المتوكل على الرغيف الآخر ألف دينار، وقال: لو أتيتني بالآخر أعطيتك مثلها!..... (13)، وعندما أراد المتوكل بناء مقياس للنيل لم يكتب إلى والي مصر أو إلى أحد كبرائها وإنما كتب إلى القاضي بكار أن يندب إلى المقياس أميناً، فاختار لذلك أبا الرداد عبد الله بن عبد السلام المؤدب(14)، وهذا يدل على عظم الثقة التي كانت للقاضي عند الخليفة العباسي.
مكانته عند أمير مصر أحمد بن طولون:
من المشهور عن أحمد بن طولون أنه كان يحب أهل العلم ويقربهم، بل إن ابن طولون نفسه كان عالمًا وتفقه على مذهب الإمام أبي حنيفة (15)وقد كان للقاضي بكار عند ابن طولون مكانة خاصة كوَّنها حب ابن طولون للعلم ورغبته الدائمة في التزود منه وإدراكه للمكانة التي وصل إليها بكار والتي جعلته في مقدمة العلماء إضافة إلى عدل القاضي وصلاحه وهيبته ونفاذ بصيرته وزهده الذي يجذب إليه القلوب، يقول الطحاوي: وكان الأمير أحمد بن طولون من المعرفة بحقه والميل إليه والتعظيم لقدره على نهاية (16).
ومن المشاهد التي تصور إجلال ابن طولون للقاضي بكار وهي أيضًا تعكس لنا شغف ابن طولون بالعلم ما يروى عن الطحاوي من أنه قال: ولا أحصي كم كان أحمد بن طولون يجيء إلى مجلس بكار وهو على الحديث ومجلسه مملوء بالناس، ويتقدم الحاجب بقول: لا يتغير أحد من مكانه فما يشعر بكار إلا وابن طولون إلى جانبه، فيقول له: أيها الأمير ألا تركتني حتى، كنت أقضي حقك وأؤدي واجبك! أحسن لله جزاءك وتولى مكافأتك، ؟ (17)
وكان ابن طولون إذا حضر جنازة لا يصلي عليها غيره، إلا أن يكون بكار حاضراً، ولما مات يحيى بن القاسم العلوي كانت جنازته حافلة، فحضر ابن طولون وبكار، بعد أن صلى الناس على الجنازة فقال ابن طولون: حطوا النعش، وقال بكار: تقدم فصل عليه، فقال له كم أُكبّر؟ قال: خمساً، فتقدم بكار فصلى عليه وكبر خمساً، وأعاد أكثر الناس الصلاة عليه مع بكار(18)، ولم يكن يصلي أحد على الجنازة غير ابن طولون إذا حضر؛ لأن ذلك هو المعمول به في المذهب الحنفي، فالخليفة ـ عندهم ـ أولى إن حضر ثم إمام المصر، وهو سلطانه، ثم القاضي، ثم صاحب الشرط، ثم خليفة الوالي، ثم خليفة القاضي، ثم إمام الحي (19)، وقد كان ابن طولون يقدم القاضي بكار إذا كان حاضرًا إقرارًا منه بمكانته ومعرفة بفضله.
في مجلس القضاء:
يصف ابن عساكر ما بذله القاضي بكار من العدل في أحكامه أثناء توليه القضاء في مصر و عفته و جهده الذي بذله ليثبت دعائم الحق وما ترتب عن ذلك من رضا أهلها به وحبهم له فيقول: وكان من الحمد في ولايته عليها ومن القبول لأهلها إياه ومن عفته عن أموالهم ومن سلامته في أحكامه ومن اطلاعه بذلك على نهاية ما يكون عليه مثله حتى لو كانت أخلاقه ومواهبه هذه فيمن تقدم لكان يبين بها عن كثير منهم (20)، وقد تداولت الألسنة وسجلت كتب التاريخ والتراجم الكثير من الصور التي تبين زهد القاضي وعدله حتى إن ابن خلكان يقول: وقد ظهر من حسن سيرته وجميل طريقته ما هو مشهور(21)، والحقيقة أن ما نقرأه عن هذا الرجل يوضح لنا أنه بلغ الغاية في ترسيخ مبادئ العدل ورد الحقوق والدفاع عن الضعفاء والتنزه والتعفف والحياء وقد كان يرى بطبيعته الصادقة أن العدل والتعفف في القاضي أمر طبعي لا يستحق ذكرًا أو مدحًا وأن حدوث العكس أمر يحير العقل ويبعث على التعجب، قدم قوم من أصحاب الحديث ليسمعوا منه فقال: من أي البلاد أنتم؟ قالوا: من الرملة قال: ما حال قاضيكم، قالوا: عفيف، فقال بكار: إنا لله، يقال قاض عفيف! فسدت الدنيا (22).
وفي كل قضية من القضايا التي أوردتها كتب التراجم للقاضي بكار يتبين لنا مدى حرصه على المساواة في تطبيق الأحكام على الجميع دون تفرقة، لا يلتفت أثناء ذلك إلى مكانة أو إلى صداقة، يتعامل مع أمير مصر كما يتعامل مع أي فرد من أفراد الرعية، ومما يروى في ذلك أنه مات رجل وعليه مال للأمير وله أطفال، فطلب عامل الخراج من أحمد بن طولون أن يأمر القاضي ببيع داره فيما عليه، فأرسل ابن طولون إلى بكار في ذلك، فقال: حتى يثبت عليه الدين، فأثبتوه وسألوه البيع، فقال: حتى يثبت عندي أنه ملكه، فأثبتوه ثم سألوه البيع، فقال: حتى يحلف من له الدَّين، فحلف ابن طولون، فقال بكار: أنا الآن فقد أمرت بالبيع (23).
وهناك رواية ليست تدل على عمق إيمان القاضي فحسب، وإنما تخبرنا أيضًا أنه نشأ نشأة إيمانية، وأن تعلقه بالله وخوفه منه كان منذ يفاعته وأن هذا الخوف ظل متمكنًا منه لم يفارقه حتى لقي الله - سبحانه -، يحكي لنا أبو حاتم ابن أخي بكار هذه الحكاية فيقول: قدم على عمي رجل من البصرة له علم وزهادة ونسك فأكرمه وقربه وأدناه، وذكر أنه كان معه في المكتب، فمضت به الأيام فجاء في شهادة ومعه شاهدان من شهود مصر فما قبل شهادته، فقلت لعمي: هذا رجل زاهد وأنت تعرفه، قال: يا ابن أخي ما رددت شهادته إلا أنه كنا صغاراً وكنا على مائدة عليها أرز وفيه حلوى فنقبت الأرز بإصبعي فقال لي: ( أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا) فقلت له: أتهزأ بكتاب الله - تعالى -على الطعام ثم أمسكت عن كلامه مدة، وما أقدر على قبوله وأنا أذكر ذلك منه (24).
ومن الأمور التي تبين لنا شدة تحري القاضي وحرصه على أن لا يحكم في قضية إلا بعد أن يتأكد من إقامته لكل ما يضمن لحكمه أن يكون عادلا حتى يخلي ذمته أمام الله ـ - عز وجل - ـ أنه كان يكثر الوعظ للخصوم ويتلو عليهم: ( إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلاً أُوْلَئِكَ لاَ خَلاقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) - هذا مع كل حالف، فمنهم من يرجع عن اليمين؛ وكان - رحمه الله - يحاسب أمناءه في كل شهر ويسأل عن الشهود (25).
ورغم ذلك فإنه كان ـ كما ذكرنا من قبل ـ يخاف من التقصير ويخشى الزلل فيحاسب نفسه أشد ما يكون الحساب ويستحضر في مخيلته موقفه أمام الله يوم القيامة فيفزع ويرتعد و مما يروى عنه في ذلك أنه كان إذا فرغ من الحكم خلا بنفسه وعرض عليها قصص جميع من تقدم إليه وما حكم به وبكى، وكان يخاطب نفسه ويقول: يا بكار، تقدم إليك رجلان في كذا، وتقدم إليك خصمان في كذا، وحكمت بكذا، فما يكون جوابك غداً (26).
محنة القاضي على يد ابن طولون:
القارئ لسيرة ابن طولون سيعرف أنه كان ممن يقدر مكانة الخلافة ويبجل الخليفة، هذا في الوقت الذي ضعفت فيه الخلافة العباسية وكثر شغب الأتراك على خلافائها، و قد كان ابن طولون شديد الإزراء على الترك وأولادهم لما يرتكبونه في أمر الخلفاء، غير راض بذلك، ويستقل عقولهم ويقول: حرمة الذين عندهم مهتوكة (27)، وكان الخليفة المستعين يقدر له ذلك فكان إذا دخل عليه مع الأتراك في الخدمة أومأ إليه الخليفة بالسلام سرا، واستدام الإحسان إليه ووهب له جارية اسمها مياس، فولدت له ابنه خمارويه. وبعد أن خلع الأتراك الخليفة ونفوه إلى واسط وسألوه من يكون في صحبته اختار ابن طولون لما يعرفه فيه وعندما طلب الأتراك من ابن طولون قتل المستعين مقابل أن يولوه مدينة واسط كتب إليهم: لارآني الله قتلت خليفة بايعت له أبدا! (28)، وعندما ولي ابن طولون على مصر قال حين دخلها: غاية ما وعدت به في قتل المستعين واسط، فتركت ذلك لله - تعالى -، فعوضني ولاية مصر والشام (29).
هذا هو مبدأ ابن طولون الذي ظل ثابتاً عليه ولم يغيره، فللخليفة مكانته التي يجب أن تصان، وكلمته التي يجب أن تطاع و التعدي عليه أو سلبه أي حق من حقوقه من الأمور المزرية التي تشين من يقوم بها. وعندما صارت الخلافة إلى المعتمد ولى أخاه الموفق طلحة أمر الجيش والولايات، كان له الأمر والنهي ولم يكن للمعتمد من الخلافة إلا اسمها ـ كما يقول المؤرخون ـ فغاظه ذلك وراسل ابن طولون الذي زين له القدوم لمصر فقرر المعتمد أن يلحق بابن طولون، إلا أن الموفق أرسل إلى المعتمد من يرده، وكان ابن طولون قد تجهز لاستقبال المعتمد ووصل إلى دمشق حتى قال أحد شعرائها وهو قعدان بن عمرو:
من مبلغ مضر الشآم وما حوت *** مصر ومن هو متهم أو منجد
ما بالكم هضتم جناح سنانكم *** بتواكل من فعلكم لا يحمد
أنى فكيف يطيب لا أدري لكم *** خفض المعيشة والإمام مقيد
في السجن ينشج باكيا يدعوكم *** للنصر منه مذلة متلدد
حزنان أفرد من بنيه وأهله *** بأبي وأمي المستضام المفرد (30)
فجمع ابن طولون العلماء والأعيان، وقال: قد نكث الموفق أبو أحمد بأمير المؤمنين، فاخلعوه من العهد فخلعوه، إلا بكار بن قتيبة، وقال: أنت أوردت علي كتاب المعتمد بتوليته العهد، فهات كتابا آخر منه بخلعه. قال: إنه محجور عليه ومقهور؟ قال: لا أدري. فقال له: غرك الناس بقولهم: ما في الدنيا مثل بكار، أنت قد خرفت وقيده وحبسه، وأخذ منه جميع عطائه من سنين (31).
ما كان لرجل عرفنا في سماته أنه لم يكن ليحكم في قضية إلا بعد أن يتحرى ويتيقن وتجتمع عنده جميع الدلائل التي تمكنه من الحكم العادل أن يرضى بكلام مرسل حتى ولو كان قائله هو أمير مصر، لقد قلنا من قبل إن أمر التثبت والتيقن قبل إصدار أي حكم قد صار نهج حياة عند القاضي بكار، وها هو ذا لا يتركه حتى وهو على يقين من أن تمسكه بما اعتاد عليه لكونه قاضيًا حريصا على العدل سيسبب له من المحن ما هو في غنى عنه.. لقد قرر القاضي العادل أن ينصاع لضميره الذي يأبى إلا أن يسير وفقًا لما تعلمه من قواعد الشرع وأصول الدين الحنيف وأن يتحمل مسؤولية رفضه رغم علمه بأن ما سيدفعه من ثمن سيكون باهظًا.
مشاهد في المحنة:
لم يكتف ابن طولون بخلع القاضي بكار بل عمد إلى إهانته وإذلاله وتعذيبه، ومما يروى أنه: لما ألحّ ابن طولون على بكار في لعن الموفق، وامتنع من إجابته خوطب في ذلك إلى أن قال بكار لأحمد بن طولون: ألاَ لعنة الله على الظالمين، فقال علي بن الحسين ابن طباطبا، وكان نقيب الطالبيين بمصر: أيها الأمير إنه عَنَاكَ، فغضب أحمد وأمر بتمزيق ثيابه، وجروه برجله، وليس عليه إلا سراويلُ وخُفان وقلنسوة، مَسلوب الثياب.
وكان برجل بكار علة لا يستطيع التربع، بل يمد رجله من تحت ثيابه فضربه رجل بعود حديد على رجله الممدودة فقال: أوَّه، وضمها. ثم حمل من بين يديه إلى السجن (32).
ومن التمعن أيضًا في إذلال القاضي والتعنت معه أن ابن طولون أمره أن يرد له مبلغًا من المال كان يعطيه له كل عام، وكانت المفاجأة حيث إن القاضي قد " حمله إليه بختمه، وكان ثمانية عشر كيساً، في كل كيس ألف دينار فاستحى ابن طولون عند ذلك من الملأ؛ " لأنه كان يعتقد أن القاضي قد أنفقه، ويعلق ابن تغري بردي على ذلك بقوله: قلت: هذا هو القاضي الذي في الجنة؟ - رحمه الله تعالى -(33).
وفي هذا أيضًا صورة من الصور التي تعرض لنا زهد القاضي بكار، وتوفيق الله - تعالى -له، هذا التوفيق الذي استمر حتى أنه كان يخرج مع كل محاولة من ابن طولون لتشويه صورته وإهانته أكثر رفعة وأعز مكانة وعلى أشرف حال وأنصعها، بينما كان يخرج أعداءه المتربصون به من الذين استغلوا غضبة ابن طولون عليه في حالة من الإهانة والذلة جعلت منهم عبرة للمعتبرين، وحكاية ذلك أن أحمد ابن طولون لم يكتف بسجنه بل أمر أن يحضر كل من يدعي أن له مظلمة على القاضي بكار ليطالبه بها " فكان يحضر في مجلس المظالم بين يدي أحمد قائماً.
وكان الطحاوي يقول: ما تعرض له أحد فأفلح بعد ذلك، لقد تعرض له غلام يقال له عامر بن محمد بن نجيح، وكان في حجره، فرآه في مجلس المظالم، فقال بكار: يا عامر ما تصنع ها هنا؟ فقال: أتلفت علي مالي، فقال: إن كنت كاذبًا فلا نفعك الله بعقلك.
قال: فأخبرني من رآه ذاهل العقل، يسيل لعابه، يسب الناس ويرميهم بالحجارة، والناس يقولون: هذه دعوة بكار (34).
بل إن بعضهم سجن حين تبين كذبه وافتراءه على القاضي.
وقد كانت القسوة التي عامل بها ابن طولون القاضي بكار محل استنكار من المؤرخين، حتى إن ابن خلدون في تاريخه يعلل ذلك بأن المرض الذي نزل بابن طولون بعد نكبات تعرض لها كان سببًا في سوء أفعاله، فيقول بعد سرده لما حدث لابن طولون: وحميت كبده من سوء الفكر فساءت أفعاله وضرب بكار بن قتيبة القاضي وأقامه للناس في الميدان وخرق سواده وأوقع بابن هرثمة وأخذ ماله وحبسه وقتل سعيد بن نوفل مضروبا بالسياط (35).
مشاهد في سجن القاضي:
الصبر والرضا بقضاء الله والحرص على تأدية طاعاته، هي الصفات التي نراها تبرز بقوة في سجن القاضي بكار، فهو لم يلن و ظل ثابتًا رغم قسوة المحنة على قاض كان عظيم الحرمة كبير الشّأن (36)ـ كما يصفه الإمام الذهبي ـ وقد بقي يتقرب إلى الله في سجنه ومما يروى له أن كان يغتسل في كل يوم جمعة، ويلبس ثيابه، ويجئ باب السجن، فيرده السجان ويقول: اعذرني أيها القاضي، فما أقدر على إخراجك، فيقول: الله أشهد، فبلغ ذلك أحمد، فأرسل إليه: كيف رأيت المغلوب المقهور لا أمر له ولا نهي، ولا تصرف في نفسه، لا تزال هكذا حتى يرد عليّ كتاب المعتمد بإطلاقك (37).
ويظهر تعلق طلاب العلم والحديث ببكار بصورة قوية بعد سجنه، حيث طلبوا من أحمد بن طولون أن يأذن لهم في السماع منه، فأذن لهم، فكان يحدثهم من طاق في السجن، فأكثر من سمع منه في آخر عمره، كان كذلك (38).
وقد ندم ابن طولون على ما فعله في هذا القاضي العادل والعالم الزاهد فحاول أن يثنيه عن رأيه برفق وتؤده فراسله قائلاً: إنا رادوك إلى منزلك، فأجبني، فقال: قل له: شيخ فإن وعليل مدنف، والملتقى قريب، والقاضي الله - عز وجل -.
فأبلغها الرسول أحمد، فأطرق، ثم أقبل يكرر ذلك على نفسه، ثم أمر بنقله من السجن إلى دار اكتريت له، وفيها كان يحدث (39).
وفاته:
ولد القاضي بكار بالبصرة سنة اثنتين وثمانين ومائة، وتوفي وهو باق على القضاء مسجوناً يوم الخميس لست خلون من ذي الحجة سنة سبعين ومائتين بمصر (40).
ويصفون جنازته فيقولون: شيعه خلق عظيم أكثر ممن يشهد صلاة العيد، وأمهم عليه ابن أخيه محمد بن الحسن بن قتيبة الثقفي - رحمه الله تعالى -(41).
قال ابن زولاق عاش بعد ابن طولون أربعين يوماً ومات في تلك الدار، فحضرت جنازته فما رأيت كبير أحد، فقلت ليحيى بن عثمان بن صالح: يموت مثل هذا الرجل وتكون هكذا جنازته! فما صليت العصر حتى ما فقدت أحدًا، ولم أر فيها أحدًا راكبًا (42). - رحمه الله - رحمة واسعة.
ـــــــــــــــ ــــــــ
-[1]شمس الدين الذهبي: سير أعلام النبلاء، مؤسسة الرسالة، ج12ص 599
- 2شمس الدين أحمد بن محمد بن أبي بكر بن خلكان: وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان، بيروت: دار صادر، ج1 ص 279
-3 سير أعلام النبلاء: ج12 ص600
- 4إسماعيل بن كثير الدمشقي: البداية والنهاية ، دار هجر 1998 ،ج14 ص595 ، 596
-5محمد بن عبد المنعم الحميري: الروض المعطار في خبر الأقطار، بيروت: مكتبة لبنان 1984, ص107
-6محيي الدين أبو محمد عبد القادر بن محمد القرشي الحنفي: الجواهر المضية في طبقات الحنفية، هجر للطباعة والنشر، ج ا ص459
7- سير أعلام النبلاء: ج12 ص599
-8الجواهر المضية في طبقات الحنفية: ج ا ص 459
9- السابق: ج1 ص 459
-10سير أعلام النبلاء: ج11ص600
11-ابن حجر شهاب الدين أحمد بن على بن محمد العسقلاني: رفع الإصر عن قضاة مصر، القاهرة: مكتبة الخانجي1988،ص99
12- سير أعلام النبلاء: ج12 ،ص31
13- ابن الملقن سراج الدين أبو حفص عمر بن على بن أحمد المصري: طبقات الأولياء، القاهرة: مكتبة الخانجي 1975، ص 119
14- رفع الإصر عن قضاة مصر: ص 101
-15جمال الدين أبو المحاسن يوسف بن تغري بردي :النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة, بيروت: دار الكتب العلمية ج3ص5 ،6
- 16أبو القاسم على بن الحسن ابن هبة الله المعروف بابن عساكر : تاريخ مدينة دمشق وذكر فضلها وتسمية من حلها من الأماثل أو اجتاز بنواحيها من واريها وأهلها ، بيروت : دار الفكر 1995,ج10ص372
17- النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة :ج3, ص24
18- رفع الإصر عن قضاة مصر: 102
19- عبد الرحمن بن محمد بن سليمان الكليبولي : مجمع الأنهر في شرح ملتقى الأبحر ومعه الدر المنتقى في شرح الملتقى ، بيروت: دار الكتب العلمية 1998، ج1ص269
-20تاريخ دمشق: ج10ص372
21- وفيات الأعيان: ج1ص279
22- رفع الأصر عن قضاة مصر: 103
23- السابق: 102
24- وفيات الأعيان: ج1ص281
-25السابق: ج1ص280, 281
26- السابق: ج1ص279
-27النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة: ج3ص6
-28السابق: ج3ص8
29- السابق: ج3ص9
30- تاريخ دمشق: ج49ص344
31-سير أعلام النبلاء: ج12ص 602
32- رفع الأصر عن قضاة مصر: ص106
33- النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة: ج3ص24
34- رفع الأصر عن قضاة مصر: ص106
35-ابن خلدون: ديوان المبتدأ والخبر في تاريخ العرب والبربر ومن عاصرهم من ذوي الشأن الأكبر , بيروت: دار الفكر 2001’ ج4ص395
36- تاريخ الإسلام: ج 5 ص 63
37- رفع الإصر عن قضاة مصر: ص107
38- السابق : 107
39- سير أعلام النبلاء: ج12ص 602
40- وفيات الأعيان: ج1ص280
41- سير أعلام النبلاء: ج12 ص604
42- رفع الإصر عن قضاة مصر: ص107