تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


النتائج 1 إلى 2 من 2

الموضوع: دروس تطبيقية في فقه النوازل

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,487

    افتراضي دروس تطبيقية في فقه النوازل

    دروس تطبيقية في فقه النوازل
    أ.د. محمد بن حسين الجيزاني

    وفيه دروس خمسة:

    الدرس الأول: حكم الفتوى.
    الدرس الثاني: حول قاعدة: (الضرورات تبيح المحظورات).
    الدرس الثالث: أثر الاحتجاج بالسنة التركية على النوازل المعاصرة.
    الدرس الرابع: حكم زواج المسيار.
    الدرس الخامس: غسيل الكلى وأثره على الصيام.
    الدرس الأول: في مادة أصول الفقه
    عنوان الدرس: حكم الفتوى.

    حكم الإفتاء في الأصل أنه من فروض الكفاية على هذه الأمة.
    وقد ثبت أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يفتون الناس، فمنهم المكثر في ذلك والمقل، وكذلك كان في التابعين وتابعيهم ومن بعدهم.
    فلا بد للناس من علماء يسألونهم، ومفتين يستفتونهم. قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} [النحل 43]. وقال - صلى الله عليه وسلم -: «أَلاَ سألوا إذ لم يعلموا، فإنما شفاء العِيِّ السؤال».
    إن وجود المفتي بين الناس مطلب شرعي، وواجب ديني محتم.
    وحاجة الناس إلى المفتي كحاجتهم إلى الطبيب، بل أشد؛ إذ وجود الطبيب يتعلق به حفظ أبدانهم وحياتهم، أما وجود المفتي فيتعلق به حفظ أديانهم وآخرتهم.
    ومن هنا فإن تنصيب المفتين يدخل تحت أصل حفظ الدين، فكان من الواجبات المتعينة على من ولاه الله أمر المسلمين؛ ليكون الدين محروساً من خلل، والأمة ممنوعة من زلل.
    ومن الوسائل المعينة على توافر المفتين: إقامة الحلقات العلمية، وإنشاء المدارس، وتيسير العلم الشرعي والتفقه فيه.
    قال السيوطي عند ذكره لفروض الكفاية: (ومنها: تعليم الطالبين، والإفتاء، ولا يكفي في إقليم مفت واحد. والضابط: ألا يبلغ ما بين مفتيين مسافة القصر).
    وقد يقول قائل: إن تحديد مسافة قصر أو نحوها بين المفتيين أمر مستبعد في عصرنا الحاضر، وذلك بالنظر إلى التقارب الحاصل بين الناس بسبب سهولة الانتقال وسرعة الاتصال؛ حيث أصبح العالم كما يقال: كالقرية الواحدة.
    إلا أن هذا التحديد أمر متجه جداً، وذلك بالنظر إلى اعتبارات عدة، منها:
    1. أن المفتي الأقرب أدرى المفتين وأعلمهم بالأعراف والعادات المحيطة بأحوال المستفتين، ففتواه من هذه الجهة أولى وبالضبط أحرى.
    2. أن أحوال الناس في هذا العصر من جهة كثرة انشغالهم بالملهيات الدنيوية تدعو بإلحاح إلى توفير عدد من المفتين المهيئين لتعليم الناس أمور دينهم، يقيمون بين ظهرانيهم.
    وكم هي البدع والضلالات التي تنشأ في تلك الديار النائية، إذا ما خلت عن أهل العلم والفقه، وكم هو الخير والنور الذي يحصل ويكثر بوجود حملة الشريعة ودعاة الإسلام.
    إن المفتي بالنسبة للناس كالماء للأرض؛ فالماء تحيا به الأرض وتخضر وتزدهر، وتبقى الأرض دون ماء ميتة لا حياة فيها ولا نفع.
    3. أن جعْل مسافة القصر ضابطا أمر حسن، وقد كان المقصود منه ألا تخلو ناحية أو قرية من مفت يرجع الناس إليه.
    ثم إن هذا التحديد يمكن الاعتماد عليه في الأزمنة الماضية، أما في عصرنا الحاضر فيمكن اتخاذ وسائل أكثر دقة وانضباطا، ويستفاد في ذلك من علم الإحصاء وإدارة المجتمعات المدنية، والتخطيط واستشراف المستقبل، كما هو الشأن في ضبط أعداد الأطباء بالنسبة لعدد السكان، وأعداد القضاة كذلك، وينبغي أن ينظر أيضاً في أعداد المفتين على هذا الترتيب.
    هذا هو حكم الفتوى على سبيل الإجمال.
    وأما حكم الفتوى على وجه التفصيل فإنه مما تتطرق إليه الأحكام التكليفية الخمسة، وذلك بحسب ما يتصل بالفتوى من أحوال وقرائن.
    الدرس الثاني: في مادة القواعد الفقهية
    عنوان الدرس: حول قاعدة: (الضرورات تبيح المحظورات).
    تتجلى أهمية هذه القاعدة من وجوه ثلاثة:
    الوجه الأول:أن في تحرير مسألة الضرورة تقريراً لعظمة هذا الدين، وبياناً لسمو هذه الشريعة وجلالة قدرها، وفي ذلك تنبيه على صلاح هذه الشريعة وكفايتها في إخراج الناس من ضيق الأنظمة البشرية العاطبة إلى سعة أحكام الشريعة وكمالها.
    والدنيا مظلمة ملعونة إلا ما طلعت عليه شمس الرسالة.
    الوجه الثاني: أن أهل الزيغ والفساد وأصحاب الأهواء ما زالوا يُلبِّسون على أهل الإسلام دينهم، بل ينسلخون من الدين كله باسم ضرورة الواقع ومقتضيات الحضارة، كما هو حاصل في الدعوة إلى وحدة الأديان، وهي في حقيقتها تمييع لمبدأ عقدي راسخ، ألا وهو وجوب البراءة من الكفار ومن دينهم.
    الوجه الثالث:أن مسألة الضرورة الشرعية بحاجة إلى تأصيل وضبط؛ إذ وقع غلط كبير في فهم هذه المسألة على وجهها الشرعي؛ حيث تساهل كثير من الناس في تنزيل حالة الضرورة وتطبيقها على غير محلها؛ فنتج عن ذلك ارتكاب محرمات ومحظورات شرعية؛ تحت مظلة (الضرورات تبيح المحظورات).
    وحصل تساهل آخر في تقييد حالة الضرورة بضوابطها الشرعية؛ فلئن صدق على بعض الحالات أنها من باب الضرورة إلا أن كثيرا من أهل الضرورات تجاوز حد الضرورة واعتدى وظلم؛ حيث حصل من البعض استرسال وتوسع في فعل بعض المحرمات دون تحفظ ولا تقييد؛ كما هو الحال في كشف العورات في المستشفيات، وابتعاث أبناء المسلمين إلى بلاد الكفر من أجل الدراسة.
    وحصل غلط آخر، وذلك من جهة الرضا بالواقع؛ حيث استسلم معظم الناس إلى نعمة الترخص، ورغبوا في استبقاء هذه النعمة وعدم زوالها، مع أن مسألة الترخص تعتبر من الأمور العارضة والقضايا الطارئة إلا أنها صارت في كثير من الأحيان عند بعض الناس ذريعة إلى التخلص والتفلت من الالتزام بقيود هذه الشريعة والأخذ بعزائم أحكامها.
    ويجدر التنبيه في هذا المقام إلى الأهمية البالغة لقضية البدائل المناسبة والحيل المشروعة التي تدرأ الوقوع في حالة الاضطرار.
    ومن التطبيقات المعاصرة لذلك:
    1. الاستغناء بالكسب الحلال وإن قل والاكتفاء باليسير من وسائل الحياة؛ لئلا تدعو حاجة أو ضرورة إلى طلب المال (التمويل) عن طريق البنوك وشركات الاستثمار، التي تقوم بدفع الأموال بواسطة التقسيط أو عقود المرابحة أو التورق في المعادن والسيارات والأسهم.
    والعجب أن بعضا من العقلاء الأكياس ينأى بنفسه عن الاستدانة من الآخرين ما استطاع إلى ذلك سبيلا، إلا أنه يقع ـ وبكل سهولة ـ في عقود التقسيط، مع أن بيع التقسيط يعد من الدين؛ إذ هو بيع مؤجل الثمن أو منجم.
    2. الاستغناء عن الجيلاتين المحرم بالجيلاتين الحلال الطيب.
    وقد صدر في ذلك قرار من مجمع الفقه الإسلامي بجدة، برقم: (23) ونصه: (لا يحل لمسلم استعمال الخمائر والجيلاتين المأخوذة من الخنازير في الأغذية.
    وفي الخمائر والجيلاتين المتخذة من النباتات أو الحيوانات المذكاة شرعا غنية عن ذلك).
    3. المبادرة إلى تزويج الشباب وتيسير الزواج الشرعي ما أمكن؛ درء للفتنة المتوقعة من تأخير الزواج وتعسيره.
    4. فتح أنشطة نافعة تستغرق أوقات الشباب وتستحوذ على اهتماماتهم، وإيجاد برامج متنوعة تستثمر أوقات الفراغ وطاقات الشباب حماية لهم من الوقوع في براثن الجريمة وأوحال الرذيلة والفساد.
    والأمة جمعاء مطالبة بالوقوف مع تلك الجمعيات المباركة الراعية لهذه الأمور؛ كمشروع تيسير الزواج وجمعيات تحفيظ القرآن الكريم، ومراكز رعاية الشباب وتنمية المهارات وصقل المبدعين.
    والقاعدة المطردة في مسألة الضرورة: أنه متى أمكن لأحد وتيسر له الحصول على الحلال الطيب فإن حالته لا تعد من قبيل الضرورة، بل يتعين عليه في هذه الحالة أن يقتصر على هذا الحلال ويستغني به، ولا يجوز له ارتكاب شيء من الحرام.
    الدرس الثالث: في مادة تخريج الفروع على الأصول
    عنوان الدرس: أثر الاحتجاج بالسنة التركية على النوازل المعاصرة.
    يمكن تعريف سنة الترك بأنها: تَرْكُه - صلى الله عليه وسلم - فعل الشيء مع وجود مقتضيه بياناً لأمته.
    وهذه السنة قسم من أقسام السنة المطهرة، وهي حجة شرعية معتبرة؛ إذ ترك الرسول - صلى الله عليه وسلم - للشيء دليل على تحريمه؛ فيجب حينئذ ترك ما تركه رسول الله - صلى الله عليه وسلم- ويشترط في ترك النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى يكون حجة شرطان:
    أولهما: أن يترك - صلى الله عليه وسلم - فعل أمر من الأمور مع وجود السبب المقتضي لهذا الفعل في عهده - صلى الله عليه وسلم -.
    ثانيهما: أن يترك - صلى الله عليه وسلم - فعل هذا الأمر مع انتفاء الموانع.
    وقد كان لهذه القاعدة أثر في النوازل المعاصرة نقتصر من ذلك على مثالين:
    المثال الأول: استعمال مكبرات الصوت في المساجد الكبيرة؛ للاستعانة بها في نقل تكبيرات الإمام وسائر ألفاظه.
    من الواضح أن استعمال أجهزة نقل الصوت وتكبيره ليس مقصودا لذاته، وإنما قُصد من أجل كونها وسيلة يحصل بها نقل صوت الإمام؛ حيث إن المأمومين يلزمهم الاقتداء بالإمام ومتابعته في كافة أفعال الصلاة.
    ومعلوم أن هذه الأجهزة إنما وجدت في هذا العصر بسبب وجود الآلات الكهربائية المتطورة، وهذه الآلات لم تكن موجودة أصلا في عصر النبوة، مع قيام المقتضي لها، وهو ضرورة سماع صوت الإمام بالنسبة للمأمومين، فاستعمال أجهزة الصوت لم يكن أمراً مقدوراً عليه من قبل.
    ومن هنا أمكن القول أن استعمال أجهزة الصوت محقق لمصلحة شرعية ظاهرة، بل إن استعمالها يندرج تحت قاعدة: ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب؛ لكونها وسيلة لابد منها في متابعة المأموم للإمام.
    وقد كان من المعمول به قديما: مسألة التبليغ خلف الإمام، وأما بعد أن وجدت هذه المكبرات فلا حاجة إلى التبليغ.
    المثال الثاني: وضْع المفارش ذوات الخطوط في المساجد؛ للاستعانة بها في إقامة صفوف المصلين وتسويتها.
    من الواضح أن استعمال المفارش ذوات الخطوط ليس مقصودا لذاته، وإنما قُصد من أجل كون هذه المفارش وسيلة معينة على استقامة الصفوف واعتدالها؛ حيث إن الشارع حثَّ على استقامة صفوف المصلين وأمر بتسويتها.
    ومعلوم أن هذا النوع من المفارش إنما سهل تصنيعه في هذا العصر بسبب وجود الآلات الكهربائية المتطورة، وهذه الآلات لم تكن موجودة في عصر النبوة مع قيام المقتضي لها، وهو الحرص على استقامة الصفوف، فوضع هذه المفارش كان أمرا غير مقدور عليه من قبل.
    وهذا بخلاف وضع خيط أو حبل أو رسم خط على أرض المسجد؛ لتستقيم عليه أقدام المصلين؛ فإنه كان من الأمور الميسورة والمقدور عليها في عهد النبوة.
    ومن هنا فإن وضع خيط أو حبل أو رسم خط في صفوف المصلين يمكن أن يحكم عليه بأنه إحداث وابتداع في الدين، وأما وضع مفارش ذوات خطوط مصنوعة لهذا الغرض فهذا لم يكن مقدورا عليه، فكان عدم القدرة عليه هو المانع الذي منع من فعله في عهد النبوة.
    يتبع

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,487

    افتراضي رد: دروس تطبيقية في فقه النوازل

    دروس تطبيقية في فقه النوازل
    أ.د. محمد بن حسين الجيزاني

    الدرس الرابع: في مادة النوازل الفقهية
    عنوان الدرس: حكم زواج المسيار:
    أولاً: تصوير المسألة.
    زواج المسيار هو: عقد زواج تتنازل فيه المرأة عن السكن والنفقة والقَسْم أو بعض منها، وترضى بأن يأتي الرجل إلى دارها في أي وقت شاء من ليل أو نهار.
    وقد انتشر هذا النوع من الزواج في السنوات الأخيرة في فئة المتزوجين من الرجال، وفئة المطلقات أو الأرامل أو العوانس من النساء.
    وينتشر بكثرة بين النساء العاملات، والطبيبات على وجه الخصوص.
    وينتشر أيضاً فيما إذا كان الزوجان من طبقتين متفاوتتين، إما في المكانة الاجتماعية أو الانتماء إلى جنسية واحدة أو في القدرة المالية أو غير ذلك.
    ومن أهم الأسباب والدوافع التي أدت إلى وقوعه وانتشاره ما يأتي:
    1. رغبة الرجال في المتعة.
    2. عنوسة المرأة أو طلاقها أو حاجتها إلى الأطفال.
    3. عدم رغبة الرجال في تحمل المسؤولية أو عدم قدرتهم على ذلك.
    4. غلاء المهور وارتفاع تكاليف المعيشة.
    5. رغبة الرجل في التغيير.
    6. رفض الزوجة الأولى فكرة التعدد.
    7. طمع الرجل في مال زوجة المسيار.
    والفقهاء يذكرون نوعاً فيه بعض المشابهة لزواج المسيار، وهو الزواج بالليليات أو بالنهاريات، وهو الزواج من امرأة تعمل خارج منزلها بالليل وتأوي إلى منزلها في النهار أو العكس.
    إلا أن المرأة في زواج المسيار لا تأوي إلى منزل زوجها.
    وقد ارتبط زواج المسيار في الغالب بأنواع أخرى من الزواج:
    1. كونه سريا (زواج شرعي لكنه غير معلن).
    2. كونه عرفيا (زواج شرعي لكنه بدون أوراق رسمية).
    3. حصوله من جهة الرجل على سبيل التجربة (مع نية الطلاق).
    وبالنظر إلى الواقع الحاضر نجد أن لزواج المسيار بعضا من المصالح وبعضا من المفاسد.
    فمن أبرز المصالح التي اقترنت به:
    تقليل العنوسة.
    تحصيل الولد بالنسبة لبعض النساء.
    تحصين الرجل والمرأة بطريق غير محرم.
    ومن أبرز المفاسد التي اقترنت به:
    إهانة المرأة والاستهانة بشأن عقد الزواج.
    مشكلة أطفال المسيار وضعف رابطة الأبوة.
    فقدان المودة والسكن بين الزوجين.
    ثانياً: خلاف العلماء في زواج المسيار وسببه.
    ذهب بعض المعاصرين إلى بطلان هذا الزواج، والبعض الآخر قال بصحته، وبعض هؤلاء المصححين ذهب إلى صحته مع الكراهة؛ لكونه لا يحقق مقصود الشارع وحكمته من تشريع النكاح، وهو السكن والاستقرار.
    ولو اختل في زواج المسيار شيء من أركان النكاح لوقع من العلماء الإجماع على بطلانه؛ فإنه متى اختل في عقد النكاح ركن من أركانه فإن العلماء مجمعون على بطلانه.
    ومن هنا يتضح أن أهل العلم إنما اختلفوا في صحة زواج المسيار لا لاختلال ركن من أركانه، وإنما لأنه ـ مع كونه مستوفي الأركان ـ عقد وقع فيه إخلال بأمر ما.
    وذلك أن بعض أهل العلم يعتبر اختلال هذا الأمر مؤثرا وقادحا في صحة الزواج، وهؤلاء حكموا ببطلانه، إلا أن البعض الآخر يرى أن اختلال هذا الأمر لا تأثير له، وهؤلاء حكموا بصحته.
    ثالثاً: مآخذ المسألة.
    معقد الاستدلال للحكم بصحة زواج المسيار أو الحكم ببطلانه إنما هو النظر إلى القاعدة الكلية، وهي: أن هذه الشريعة مبنية على جلب المصالح وتكميلها، ودرء المفاسد وتقليلها، والبناء عليها والانطلاق منها.
    ومعلوم أن هذه القاعدة تدور عليها الأحكام الشرعية قاطبة، وبها تجتمع مقاصد الشريعة كافة.
    ومن أهم المآخذ التي استند إليها المصححون لزواج المسيار:
    أنه يحقق لكل من الزوجين كثيرا من المصالح الخاصة بهما، كما أن تسويغ هذا النوع من الزواج يحقق مصالح عامة للمجتمع الإسلامي، ويدرأ عنه شيئاً من المفاسد؛ حيث يفتح الباب لعلاقة شرعية منضبطة، ويوصد الباب أو يضيقه على تلك العلاقات المشبوهة والاتصالات المحرمة الواقعة بين الجنسين.
    وإنما تتجلى وتعرف هذه المصالح وتلك المفاسد بالنظر إلى الأوضاع المتفشية في هذا الزمان من الامتداد الهائل والتأثير العظيم للقنوات الفضائية والمواقع المتعددة على الشبكة العالمية والصحف والمجلات السيارة، كل ذلك أدى إلى إثارة الغرائز وإشاعة الفتن وتيسير شأن الفواحش والدعوة إلى الرذيلة.
    إضافة إلى واقع المسلمين وأحوالهم ـ مما هو مشاهد ومعلوم ـ من ضعف أواصر الأخوة بينهم وقلة التعاون والتآزر، وافتقاد أكثرهم إلى التكافل والتواصي على الخير.
    ومن أهم المآخذ التي استند إليها المانعون لزواج المسيار:
    أنه عقد يفضي في المآل بالنسبة للزوجين إلى حصول قدر كبير من المفاسد الخاصة بهما.
    إضافة إلى أن هذا العقد يفضي إلى مفاسد أخرى عامة، فمن ذلك: الاستهانة بشأن عقد النكاح والاستخفاف به، وهذا قد يؤدي بكثير من الناس إلى التلاعب والاستهزاء بأحكام الشريعة وقيودها.
    رابعاً: الرأي المختار.
    يظهر لي أن الحكم على زواج المسيار بالصحة أو البطلان واقعة تحتاج إلى فقه خاص، تراعى فيه الظروف المحيطة بالواقعة والأحوال المقترنة بها، وهذا يختلف من مكان إلى آخر ومن وقت لآخر، ومن شخص لآخر، ومن حال لأخرى.
    وبناء على ذلك فلا يصلح أن يُعطى زواج المسيار حكما واحدا مطردا لا يتغير، وإنما حكمه يختلف ويتغير بحسب تنزيله وتطبيقه على الواقع. والله أعلم.
    وهذا الاختيار مبني على: الملاحظة الدقيقة لتحقيق مقاصد الشريعة من عقد النكاح، مع مراعاة أحوال الناس وحاجاتهم، وتقدير ظروف الحياة وطبيعتها في هذا العصر؛ فإن هذا الدين قد جاء لتحقيق المصالح وتكثيرها، وبنفي المفاسد وتقليلها.
    الدرس الخامس: في مادة التكييف الفقهي
    عنوان الدرس: غسيل الكلى وأثره على الصيام:
    لا يستطيع الإنسان العيش من دون كلى، والبدائل المتوفرة لمرضى الفشل الكلوي المزمن ثلاثة:
    *أ- زراعة الكلية.
    *ب- الغسيل الدموي، وهو ضخ الدم من الجسم إلى جهاز الكلية الصناعية ثم إعادته إلى الجسم بعد إزالة السموم منه، وهذه العملية تستلزم إعطاء أدوية متعددة، وهي تستغرق (3-4) ساعات، وتكون ثلاث مرات أسبوعيا.
    *ج- الغسيل البريتوني، وفيها يحصل إدخال وإخراج السائل إلى تجويف البطن وليس في المعدة، وذلك من خلال أنبوب صغير في البطن بجانب السرة، وهذا السائل مكون من الماء النقي والأملاح والمعادن مع إضافة السكر بنسب متفاوتة، وتتراوح كميته (1-3) لتر حسب حجم الجسم، وتتكرر هذه العملية (4-5) مرات يوميا، وهذه هي الطريقة اليدوية.
    وأما الطريقة الآلية فتعتمد على استخدام جهاز يقوم بوضع السائل النقي وسحب السائل المحمل بالسموم لمدة تتراح (7-9) ساعات أثناء النوم فقط مع بقاء المريض في السرير.
    وبهذا يتبين لنا أن عملية الغسيل من العلاج الذي لابد منه أثناء الصوم فهي ضرورية للمريض، ويصعب إجراؤها في الليل بصورة مستمرة، ومتى ثبت أن إجراء عملية الغسيل ضروري في نهار رمضان ثبت أن المريض من الناحية الشرعية معذور في كل الأحكام الشرعية المترتبة على إجراء عملية الغسيل، وهي:
    جواز الفطر أو استحبابه أو وجوبه.
    وتعلق القضاء بذمته أو الفدية.
    ولمعرفة الأحكام الشرعية المتعلقة بالصوم، المترتبة على عملية غسيل الكلى لابد
    للفقيه أن يتصور أولاً: عملية الغسيل ويتعرف على كيفيتها في الواقع، وهذا التصور إنما يؤخذ من الأطباء ومن يعمل معهم في هذا المجال.
    وعلى الفقيه ثانياً: أن يجيب على الأسئلة التالية حتى يبني قوله بصحة الصوم أو فساده على اعتبارات واضحة متفقة فيما بينها، وإليك هذه الأسئلة:
    1. هل المقصود بالصوم معنى معقول أو هو عبادة غير معقولة المعنى؟
    وبيان ذلك: أن مفسدات الصوم المنطوق بها ثلاثة: الأكل والشرب والجماع فهل يتعين الاقتصار على المنطوق به أو يمكن إلحاق أشياء مسكوت عنها وقياسها على هذا المنطوق؟
    2. ثم ما هو المعنى الجامع المؤثر في هذا الإلحاق؟
    3. وهل هذا المعنى الجامع متحقق في غسيل الكلى أو لا؟
    4. وهل العبرة في إفساد الصوم بما يدخل إلى الجسم فقط أو بما يدخل إليه ويخرج منه (كالقيء والحجامة) ؟
    5. وهل يؤثر في ذلك كونه يدخل إلى الجسم من منفذ معتاد أو غير معتاد؟
    6. وهل خروج الدم من الجسم ثم دخوله إليه يعد بذاته مفطرا أو يعد مفطرا لأنه يدخل معه شيء من الدواء؟
    7. وهل يؤثر في إفساد الصوم حصول ذلك على وجه التداوي أو المؤثر إنما هو حصول ذلك على وجه التغذية؟
    8. وهل يؤثر في ذلك وقوعه على وجه الاختيار دون اضطرار أو الأمر في ذلك سواء، فلا فرق فيه بين الاختيار والاضطرار؟
    9. وهل الحجامة تفسد الصوم؟ وهل يصح قياس عملية غسيل الكلى على الحجامة بجامع أن كلا منهما فيه إخراج للدم من الجسم؟
    10. هل المريض الذي تجرى له عملية الغسيل يلزم أثناء العملية أو قبلها أو بعدها بتناول شيء من الأدوية وبعض من الأطعمة؟
    والجواب على ذلك إنما يؤخذ من الطبيب، ثم إن الفقيه يبني حكمه على قول الطبيب.
    فإذا كان الجواب نعم فيحكم إذ ذاك بفساد الصوم، لكن لا لأجل عملية الغسيل ذاتها، وإنما لأجل ما يصحب عملية الغسيل ويترتب عليها من أشياء تفسد الصوم وتبطله، وذلكم هو تناول شيء من الأدوية أو الأطعمة.
    ومعنى ذلك: أن صوم المريض الذي أجريت له عملية الغسيل صوم فاسد، ولا يلزمه صوم ذلك اليوم أو الإمساك في بقيته، وإنما الواجب عليه إما القضاء إن كان قادرا على الصوم، أو ينتقل إلى الفدية إن كان عاجزا عن الصوم.
    11. ومتى ثبت أن هذا المريض لا يمكنه الصوم لأجل هذه المفطرات التي يضطر إلى تناولها فينظر في مرض الفشل الكلوي: هل يعد من الأمراض المزمنة التي لا يرجى البرء منها؟
    والجواب على هذا السؤال أمر يقرره الأطباء.
    فمتى قرر الأطباء أن هذا المرض من الأمراض المزمنة؛ لأن صاحبه مضطر بصورة دائمة إلى الإفطار في نهار رمضان بتناول شيء من الأدوية والأطعمة؛ فإن مريض الفشل الكلوي بهذا التقرير غير مطيق للصوم أبد الدهر.
    وبهذا النظر فلا مجال لديه للقضاء، وإنما ينتقل إلى الفدية، وهي إطعام مسكين عن كل يوم من رمضان، كما قال سبحانه: ..{َمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة 184].

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •