دروس تطبيقية في فقه النوازل
أ.د. محمد بن حسين الجيزاني
وفيه دروس خمسة:
الدرس الأول: حكم الفتوى.
الدرس الثاني: حول قاعدة: (الضرورات تبيح المحظورات).
الدرس الثالث: أثر الاحتجاج بالسنة التركية على النوازل المعاصرة.
الدرس الرابع: حكم زواج المسيار.
الدرس الخامس: غسيل الكلى وأثره على الصيام.
الدرس الأول: في مادة أصول الفقه
عنوان الدرس: حكم الفتوى.
حكم الإفتاء في الأصل أنه من فروض الكفاية على هذه الأمة.
وقد ثبت أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يفتون الناس، فمنهم المكثر في ذلك والمقل، وكذلك كان في التابعين وتابعيهم ومن بعدهم.
فلا بد للناس من علماء يسألونهم، ومفتين يستفتونهم. قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} [النحل 43]. وقال - صلى الله عليه وسلم -: «أَلاَ سألوا إذ لم يعلموا، فإنما شفاء العِيِّ السؤال».
إن وجود المفتي بين الناس مطلب شرعي، وواجب ديني محتم.
وحاجة الناس إلى المفتي كحاجتهم إلى الطبيب، بل أشد؛ إذ وجود الطبيب يتعلق به حفظ أبدانهم وحياتهم، أما وجود المفتي فيتعلق به حفظ أديانهم وآخرتهم.
ومن هنا فإن تنصيب المفتين يدخل تحت أصل حفظ الدين، فكان من الواجبات المتعينة على من ولاه الله أمر المسلمين؛ ليكون الدين محروساً من خلل، والأمة ممنوعة من زلل.
ومن الوسائل المعينة على توافر المفتين: إقامة الحلقات العلمية، وإنشاء المدارس، وتيسير العلم الشرعي والتفقه فيه.
قال السيوطي عند ذكره لفروض الكفاية: (ومنها: تعليم الطالبين، والإفتاء، ولا يكفي في إقليم مفت واحد. والضابط: ألا يبلغ ما بين مفتيين مسافة القصر).
وقد يقول قائل: إن تحديد مسافة قصر أو نحوها بين المفتيين أمر مستبعد في عصرنا الحاضر، وذلك بالنظر إلى التقارب الحاصل بين الناس بسبب سهولة الانتقال وسرعة الاتصال؛ حيث أصبح العالم كما يقال: كالقرية الواحدة.
إلا أن هذا التحديد أمر متجه جداً، وذلك بالنظر إلى اعتبارات عدة، منها:
1. أن المفتي الأقرب أدرى المفتين وأعلمهم بالأعراف والعادات المحيطة بأحوال المستفتين، ففتواه من هذه الجهة أولى وبالضبط أحرى.
2. أن أحوال الناس في هذا العصر من جهة كثرة انشغالهم بالملهيات الدنيوية تدعو بإلحاح إلى توفير عدد من المفتين المهيئين لتعليم الناس أمور دينهم، يقيمون بين ظهرانيهم.
وكم هي البدع والضلالات التي تنشأ في تلك الديار النائية، إذا ما خلت عن أهل العلم والفقه، وكم هو الخير والنور الذي يحصل ويكثر بوجود حملة الشريعة ودعاة الإسلام.
إن المفتي بالنسبة للناس كالماء للأرض؛ فالماء تحيا به الأرض وتخضر وتزدهر، وتبقى الأرض دون ماء ميتة لا حياة فيها ولا نفع.
3. أن جعْل مسافة القصر ضابطا أمر حسن، وقد كان المقصود منه ألا تخلو ناحية أو قرية من مفت يرجع الناس إليه.
ثم إن هذا التحديد يمكن الاعتماد عليه في الأزمنة الماضية، أما في عصرنا الحاضر فيمكن اتخاذ وسائل أكثر دقة وانضباطا، ويستفاد في ذلك من علم الإحصاء وإدارة المجتمعات المدنية، والتخطيط واستشراف المستقبل، كما هو الشأن في ضبط أعداد الأطباء بالنسبة لعدد السكان، وأعداد القضاة كذلك، وينبغي أن ينظر أيضاً في أعداد المفتين على هذا الترتيب.
هذا هو حكم الفتوى على سبيل الإجمال.
وأما حكم الفتوى على وجه التفصيل فإنه مما تتطرق إليه الأحكام التكليفية الخمسة، وذلك بحسب ما يتصل بالفتوى من أحوال وقرائن.
الدرس الثاني: في مادة القواعد الفقهية
عنوان الدرس: حول قاعدة: (الضرورات تبيح المحظورات).
تتجلى أهمية هذه القاعدة من وجوه ثلاثة:
الوجه الأول:أن في تحرير مسألة الضرورة تقريراً لعظمة هذا الدين، وبياناً لسمو هذه الشريعة وجلالة قدرها، وفي ذلك تنبيه على صلاح هذه الشريعة وكفايتها في إخراج الناس من ضيق الأنظمة البشرية العاطبة إلى سعة أحكام الشريعة وكمالها.
والدنيا مظلمة ملعونة إلا ما طلعت عليه شمس الرسالة.
الوجه الثاني: أن أهل الزيغ والفساد وأصحاب الأهواء ما زالوا يُلبِّسون على أهل الإسلام دينهم، بل ينسلخون من الدين كله باسم ضرورة الواقع ومقتضيات الحضارة، كما هو حاصل في الدعوة إلى وحدة الأديان، وهي في حقيقتها تمييع لمبدأ عقدي راسخ، ألا وهو وجوب البراءة من الكفار ومن دينهم.
الوجه الثالث:أن مسألة الضرورة الشرعية بحاجة إلى تأصيل وضبط؛ إذ وقع غلط كبير في فهم هذه المسألة على وجهها الشرعي؛ حيث تساهل كثير من الناس في تنزيل حالة الضرورة وتطبيقها على غير محلها؛ فنتج عن ذلك ارتكاب محرمات ومحظورات شرعية؛ تحت مظلة (الضرورات تبيح المحظورات).
وحصل تساهل آخر في تقييد حالة الضرورة بضوابطها الشرعية؛ فلئن صدق على بعض الحالات أنها من باب الضرورة إلا أن كثيرا من أهل الضرورات تجاوز حد الضرورة واعتدى وظلم؛ حيث حصل من البعض استرسال وتوسع في فعل بعض المحرمات دون تحفظ ولا تقييد؛ كما هو الحال في كشف العورات في المستشفيات، وابتعاث أبناء المسلمين إلى بلاد الكفر من أجل الدراسة.
وحصل غلط آخر، وذلك من جهة الرضا بالواقع؛ حيث استسلم معظم الناس إلى نعمة الترخص، ورغبوا في استبقاء هذه النعمة وعدم زوالها، مع أن مسألة الترخص تعتبر من الأمور العارضة والقضايا الطارئة إلا أنها صارت في كثير من الأحيان عند بعض الناس ذريعة إلى التخلص والتفلت من الالتزام بقيود هذه الشريعة والأخذ بعزائم أحكامها.
ويجدر التنبيه في هذا المقام إلى الأهمية البالغة لقضية البدائل المناسبة والحيل المشروعة التي تدرأ الوقوع في حالة الاضطرار.
ومن التطبيقات المعاصرة لذلك:
1. الاستغناء بالكسب الحلال وإن قل والاكتفاء باليسير من وسائل الحياة؛ لئلا تدعو حاجة أو ضرورة إلى طلب المال (التمويل) عن طريق البنوك وشركات الاستثمار، التي تقوم بدفع الأموال بواسطة التقسيط أو عقود المرابحة أو التورق في المعادن والسيارات والأسهم.
والعجب أن بعضا من العقلاء الأكياس ينأى بنفسه عن الاستدانة من الآخرين ما استطاع إلى ذلك سبيلا، إلا أنه يقع ـ وبكل سهولة ـ في عقود التقسيط، مع أن بيع التقسيط يعد من الدين؛ إذ هو بيع مؤجل الثمن أو منجم.
2. الاستغناء عن الجيلاتين المحرم بالجيلاتين الحلال الطيب.
وقد صدر في ذلك قرار من مجمع الفقه الإسلامي بجدة، برقم: (23) ونصه: (لا يحل لمسلم استعمال الخمائر والجيلاتين المأخوذة من الخنازير في الأغذية.
وفي الخمائر والجيلاتين المتخذة من النباتات أو الحيوانات المذكاة شرعا غنية عن ذلك).
3. المبادرة إلى تزويج الشباب وتيسير الزواج الشرعي ما أمكن؛ درء للفتنة المتوقعة من تأخير الزواج وتعسيره.
4. فتح أنشطة نافعة تستغرق أوقات الشباب وتستحوذ على اهتماماتهم، وإيجاد برامج متنوعة تستثمر أوقات الفراغ وطاقات الشباب حماية لهم من الوقوع في براثن الجريمة وأوحال الرذيلة والفساد.
والأمة جمعاء مطالبة بالوقوف مع تلك الجمعيات المباركة الراعية لهذه الأمور؛ كمشروع تيسير الزواج وجمعيات تحفيظ القرآن الكريم، ومراكز رعاية الشباب وتنمية المهارات وصقل المبدعين.
والقاعدة المطردة في مسألة الضرورة: أنه متى أمكن لأحد وتيسر له الحصول على الحلال الطيب فإن حالته لا تعد من قبيل الضرورة، بل يتعين عليه في هذه الحالة أن يقتصر على هذا الحلال ويستغني به، ولا يجوز له ارتكاب شيء من الحرام.
الدرس الثالث: في مادة تخريج الفروع على الأصول
عنوان الدرس: أثر الاحتجاج بالسنة التركية على النوازل المعاصرة.
يمكن تعريف سنة الترك بأنها: تَرْكُه - صلى الله عليه وسلم - فعل الشيء مع وجود مقتضيه بياناً لأمته.
وهذه السنة قسم من أقسام السنة المطهرة، وهي حجة شرعية معتبرة؛ إذ ترك الرسول - صلى الله عليه وسلم - للشيء دليل على تحريمه؛ فيجب حينئذ ترك ما تركه رسول الله - صلى الله عليه وسلم- ويشترط في ترك النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى يكون حجة شرطان:
أولهما: أن يترك - صلى الله عليه وسلم - فعل أمر من الأمور مع وجود السبب المقتضي لهذا الفعل في عهده - صلى الله عليه وسلم -.
ثانيهما: أن يترك - صلى الله عليه وسلم - فعل هذا الأمر مع انتفاء الموانع.
وقد كان لهذه القاعدة أثر في النوازل المعاصرة نقتصر من ذلك على مثالين:
المثال الأول: استعمال مكبرات الصوت في المساجد الكبيرة؛ للاستعانة بها في نقل تكبيرات الإمام وسائر ألفاظه.
من الواضح أن استعمال أجهزة نقل الصوت وتكبيره ليس مقصودا لذاته، وإنما قُصد من أجل كونها وسيلة يحصل بها نقل صوت الإمام؛ حيث إن المأمومين يلزمهم الاقتداء بالإمام ومتابعته في كافة أفعال الصلاة.
ومعلوم أن هذه الأجهزة إنما وجدت في هذا العصر بسبب وجود الآلات الكهربائية المتطورة، وهذه الآلات لم تكن موجودة أصلا في عصر النبوة، مع قيام المقتضي لها، وهو ضرورة سماع صوت الإمام بالنسبة للمأمومين، فاستعمال أجهزة الصوت لم يكن أمراً مقدوراً عليه من قبل.
ومن هنا أمكن القول أن استعمال أجهزة الصوت محقق لمصلحة شرعية ظاهرة، بل إن استعمالها يندرج تحت قاعدة: ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب؛ لكونها وسيلة لابد منها في متابعة المأموم للإمام.
وقد كان من المعمول به قديما: مسألة التبليغ خلف الإمام، وأما بعد أن وجدت هذه المكبرات فلا حاجة إلى التبليغ.
المثال الثاني: وضْع المفارش ذوات الخطوط في المساجد؛ للاستعانة بها في إقامة صفوف المصلين وتسويتها.
من الواضح أن استعمال المفارش ذوات الخطوط ليس مقصودا لذاته، وإنما قُصد من أجل كون هذه المفارش وسيلة معينة على استقامة الصفوف واعتدالها؛ حيث إن الشارع حثَّ على استقامة صفوف المصلين وأمر بتسويتها.
ومعلوم أن هذا النوع من المفارش إنما سهل تصنيعه في هذا العصر بسبب وجود الآلات الكهربائية المتطورة، وهذه الآلات لم تكن موجودة في عصر النبوة مع قيام المقتضي لها، وهو الحرص على استقامة الصفوف، فوضع هذه المفارش كان أمرا غير مقدور عليه من قبل.
وهذا بخلاف وضع خيط أو حبل أو رسم خط على أرض المسجد؛ لتستقيم عليه أقدام المصلين؛ فإنه كان من الأمور الميسورة والمقدور عليها في عهد النبوة.
ومن هنا فإن وضع خيط أو حبل أو رسم خط في صفوف المصلين يمكن أن يحكم عليه بأنه إحداث وابتداع في الدين، وأما وضع مفارش ذوات خطوط مصنوعة لهذا الغرض فهذا لم يكن مقدورا عليه، فكان عدم القدرة عليه هو المانع الذي منع من فعله في عهد النبوة.
يتبع