الدعوة والرسالة المحمدية
إيهاب كمال أحمد
قد يتساءل البعض: لماذا أرسل الله محمدًا - صلى الله عليه وسلم؟
وإلى أيِّ شيء كان يدعو نبيُّ الرحمة محمد - صلى الله عليه وسلم؟ وما هي رسالته؟
وما موقف نبي الرحمة محمد - صلى الله عليه وسلم - ممَّن سبقه من الأنبياء والرسل؟
وللإجابة على هذه الأسئلة نقول:
إن نبي الرحمة محمدًا - صلى الله عليه وسلم - هو خاتم الأنبياء والمرسلين، وقد جاء يدعو إلى ما كان يدعو إليه كل نبي أرسله الله، وهو توحيد الله - تعالى - وعبادته وحده لا شريك له، ونبذ كل أشكال الشرك والكفْر والعُبودية لغير الله.
قال الله - سبحانه وتعالى -: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ ﴾ [الأنبياء: 25].
وقال الله تعالى: ﴿ وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ ﴾ [النحل: 36].
وقال: ﴿ وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ [الزمر: 65].
وقال: ﴿ قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا ﴾ [الكهف: 110].
فدعوة النبي الكريم محمد - صلى الله عليه وسلم - لم تكن دعوة مُبتدِعة لشيء لم يُسبَق إليه؛ وإنما جاءت تلكم الدعوة المباركة امتدادًا وتقريرًا لكل الرسالات الربانية السابقة الداعية للتوحيد؛ لكن دعوته ورسالته - صلى الله عليه وسلم - هي آخر الرسالات وخاتمتها، والكتاب الذي أُنزل عليه هو مصدق لكل الكتب السابقة له، وهو آخرها والمهيمن عليها؛ قال الله تعالى: ﴿ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ ﴾ [المائدة: 48].
والنبيُّ الكريم محمد - صلى الله عليه وسلم - هو المُصدِّق لكل الأنبياء، والمُتمِّم والمُكمِّل لكل الرسالات الربانية، بَيْدَ أنه خاتم النبيين الذي ليس بعده رسول ولا نبي.
قال الله تعالى: ﴿ مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا ﴾ [الأحزاب: 40].
ولقد دعا النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - إلى الإيمان بالأنبياء والرسل جميعًا، وتصديق ما جاؤوا به من رسالات، والإيمان بما أُنزل عليهم من الكتب، مع توقيرهم وتعظيمهم، وبيان أنهم جميعًا إخوة؛ قال الله تعالى: ﴿ آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُون َ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ﴾ [البقرة: 285]، وقال: ﴿ قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ﴾ [البقرة: 136].
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((الأنبياء إخوة لعلات، أمهاتهم شتَّى، ودينُهم واحد))[1].
ومعنى ذلك أن الأنبياء أصلُ دينِهم واحد، وهو التوحيد، وإنما يَختلِفون في فروع الشرائع؛ فأصل دعوة النبي الكريم محمد - صلى الله عليه وسلم - تتلخَّص في بناء مُعتَقدات صحيحة على أسس شرعيَّة وعقلية سليمة، فهي دعوة إلى الإيمان بالله وتوحيده في إلهيته وربوبيته، فلا يستحق العبادة إلا إله واحد، وهو الله سبحانه؛ لأنه رب هذا الكون وخالقه ومالكه ومدبِّر شؤونه ومُصرِّف أموره والحاكم فيه بأمره، والذي يَملِك الضرَّ والنفع، والذي يَملِك رزق كل المخلوقات، والذي له كل صفات الكمال، والمقدَّس عن كل عيب أو نقص أو خلل، ولا يُشارِكه في ذلك أحد، ولا يُكافئه أو يُماثِله أحد، فهو منزَّه - سبحانه - عن الشركاء والأنداد والأقران والأكفاء؛ قال الله تعالى: ﴿ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ ﴾ [الإخلاص: 1 - 4]، وقال الله تعالى: ﴿ فَاطِرُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ * لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ [الشورى: 11، 12].
ودعوة النبي الكريم محمد - صلى الله عليه وسلم - دعوة تَهدِم الشركَ بكل أشكاله، فلا عبادة للأحجار والأشجار والأبقار، والبشر والشمس والقمر والنجوم والنار، ولا عبادة كذلك للمال والشهوات والأهواء والسلاطين وطواغيت الأرض؛ قال الله تعالى: ﴿ قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلَا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ ﴾ [الرعد: 36].
وقال: ﴿ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ * حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ ﴾ [الحج: 30 - 31]، وقال: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا ﴾ [النساء: 48]، وقال: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 21، 22].
إنها دعوة جاءت لتحرِّر البشرية من عبادة العباد، وتُخرِجها من ذلِّ الوثنيات وظلم الطواغيت، وتُخلِّصها من أَسرِ الشهوات الفاجِرة، والأهواء الجائرة.
ومن هذا المُنطلَق السامي جاءت دعوة النبي الكريم محمد - صلى الله عليه وسلم - لتُكمِل مكارم الأخلاق وتُتمِّم صالحها؛ ولذلك تجد أن هذه الرسالة العظيمة قد اشتملت على الدعوة إلى كل خُلُق صالح كريم؛ كالصدق، والأمانة، والبرِّ، والإحسان، والكرم، وصلة الرحم، والوفاء، والإيثار، والحلم، والعدل، والتواضُع، والرحمة، والحبُّ، والحياء.
وفي ذات الوقت نَهى النبي الكريم محمد - صلى الله عليه وسلم - عن كل الأخلاق الذميمة، والصفات القبيحة، وخِصال الجاهلية المَقيتة؛ مثل الظلم، والغشِّ، والخيانة، والخداع، والغدر، والكذب، والبُخل، والشحِّ، والجُبنِ، والفُحش، والفُجور، والتعصُّب، والعُنصرية، واحتقار الآخرين، والتفاخر بالأنساب، واحتقار المرأة، ووأد البنات، وقتل الأبناء خشيةَ الفقر؛ قال الله تعالى: ﴿ قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَي ْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ [الأنعام: 151، 153].
وبلَغ اعتِناء هذه الدعوة الكريمة بالأخلاق درجة النصِّ على أن سبب البعثة وعِلَّة الرسالة هو تقويم الأخلاق وإشاعة مَكارِمها في صورة كاملة تامَّة، مع العمل على إصلاح ما أفسدتْه الجاهلية منها، وقد جاء هذا التعليل صريحًا على لسان النبيِّ الكريم - صلى الله عليه وسلم - حيث قال: ((إنما بُعِثتُ لأُتمِّم صالح الأخلاق))[2].
لقد بُعثَ النبي - صلى الله عليه وسلم - في فترة لم يكن فيها رسل ولا أنبياء، وانطمسَت فيها سبُل الحقِّ عن كثير من الناس، فانتشرت فيهم الوثنيات والشِّركيات والعادات الجاهلية، وتلاعَبَ الشيطان بعقول الناس فأوقعَهم في شَرَك الإيمان بالخرافات والخزعبلات؛ حتى ارتكبوا من الجرائم والحماقات ما تَرفُضه العقول السليمة، وتأباه الفِطرة السويَّة، وتَستنكِف منه الطبيعة الإنسانية الطاهِرة.
لقد عاشت البشرية قبل بَعثة النبي - صلى الله عليه وسلم - عصورًا مُظلِمة تَفتقِر إلى بصيص من نور؛ حيث ضُيِّعت رسالات الأنبياء، وحُرِّفت الكتُب التي أنزلها الله على رسلِه؛ مثل كتب اليهود والنصارى التوراة والإنجيل، وأثَّرت الفلسفات الوثنيَّة والأديان الشِّركية القديمة في عقائد أهل الكتاب؛ حتى صارت صورةً مُشابِهةً لهذه الوثنيات.
وانتشر في مقابل ذلك الشِّركُ بكل صوره، والوثنية بكل أشكالها، وتردَّت أخلاق الأكثرين إلى أقصى دَركاتِ السفول.
في هذا الوقت جاءت بعثة النبي - صلى الله عليه وسلم - مشكاةً مُضيئة وسراجًا منيرًا يُبدِّد دياجير الظلمة، ويهدي إلى الحق، ويُنقِذ البشرية جمعاء من التردِّي في أوحال الشرك والكفر والفَساد الخلُقي.
قال الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا * وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا * وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِي نَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا ﴾ [الأحزاب: 45 - 48].
جاءت هذه الدعوة لتكون رحمةً للناس جميعًا من ذلِّ العبودية ومَهانة الخُضوع لغير الله، فمَن استجاب لهذه الدعوة، فقد أَكرم نفسه وخلَّصها من المهانة، ومن أعرض عنها واستسلمَ لهوى نفسه، فقد كتب على نفسه ذلَّ الدنيا والآخرة.
قال الله تعالى: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ * قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ * إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ * وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ * قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ ﴾ [الأنبياء: 107- 112].
وعلى هذا كان نبيُّ الرحمة محمد - صلى الله عليه وسلم - يبايع أصحابه - رِضوان الله عليهم - ويأخُذ عليهم العهد والميثاق؛ فعن عُبادة بن الصامت - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لأصحابه: ((بايعوني على ألا تُشرِكوا بالله شيئًا، ولا تسرِقوا، ولا تَزنوا، ولا تَقتُلوا أولادكم، ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم، ولا تَعصوا في معروف؛ فمَن وفَّى منكم، فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئًا فعوقب في الدنيا، فهو كفارة له، ومن أصاب من ذلك شيئًا ثم ستره الله، فهو إلى الله؛ إن شاء عفا عنه، وإن شاء عاقبه)) فبايَعوه على ذلك[3].
وقد كانت مفردات تلك الدعوة العظيمة واضحةً في خطابات المسلمين إلى غير المسلمين حين يشرحون دعوتهم ويُجَلُّون للناس حقيقتها.
فقد وقف جعفر بن أبي طالب - رضي الله عنه - ممثِّلاً للمسلمين يُخاطب النجاشي وأساقفته حين سألهم النجاشي فقال لهم: ما هذا الدين الذي قد فارقتم فيه قومكم، ولم تدخلوا به في ديني، ولا في دين أحد من هذه المِلَل؟
فقال جعفر: "أيها الملك، كُنا قومًا أهل جاهلية؛ نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونُسيء الجوار، ويأكل القوي مِنا الضعيف، فكنا على ذلك حتى بعَث الله إلينا رسولاً مِنا، نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله لنُوحِّده ونَعبُده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمَرَنا بصدق الحديث وأداء الأمانة وصلة الرحم وحُسنِ الجوار والكفِّ عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش وقول الزور وأكل مال اليتيم وقذف المحصنات، وأمَرَنا أن نعبد الله وحده لا نشرك به شيئًا، وأمَرَنا بالصلاة والزكاة والصيام، فصدَّقناه وآمَنا به، واتَّبعناه على ما جاء به من الله، فعبَدْنا الله وحده فلم نُشرِك به شيئًا، وحرَّمنا ما حرَّم علينا، وأحلَلْنا ما أحلَّ لنا، فعدا علينا قومُنا، فعذَّبونا، وفتَنونا عن دينِنا؛ ليَردُّونا إلى عبادة الأوثان من عبادة الله تعالى، وأن نَستحلَّ ما كنا نستحلُّ من الخبائث، فلما قهَرونا وظلَمونا وضيَّقوا علينا وحالوا بيننا وبين ديننا، خرجنا إلى بلادك، واخترناك على من سواك، ورغبْنا في جوارك؛ ورجونا ألا نُظلَم عندك أيها الملك"[4].
وحين تعجَّب رُستم ملك الفرس من مجيء المسلمين لغزو الفرس وفتح بلاد العراق، ووجَّه سؤاله في دهشة للصحابي الجليل رِبعي بن عامر قائلاً: ما جاء بكم؟
قال ربعي: "إن الله ابتعَثنا لنُخرِج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومِن ضيقِ الدنيا إلى سَعتها، ومن جَور الأديان إلى عدل الإسلام، فأرسلَنا بدينه إلى خلقِه لندعوهم إليه، فمَن قَبلَ ذلك، قبلنا منه ورجعنا عنه، ومن أَبَى، قاتَلناه أبدًا؛ حتى نفضيَ إلى موعود الله".
يتبع