دمعة الفراق !


كَتَبَه سَيْف مُحَمّد

ركن ركين ، ومكان مكين ، وحصن حصين ، لايستطيع أحد أن يلذ بعيش دونه ، ولايُحس بأمان في غير حضنه وكنفه ، كثيرا ما كنتُ أتمنى لو يغيب عن العمل ليجلس معنا نرتشف من فيض حنانه ، وعذب مداعبته وكلامه ، كان مرضه مفاجئا لنا ، لكن رغم الصدمة بمرضه الخطير لم نكن لنمنعه من شيء يريده ، دقت الواحدة بعد منتصف الليل وأراد الخروج في ليلةٍ من ليالي الشتاء الحالكة .. ولما أردنا منعه خفنا أن يغضب، والبهجةُ تُسْحَب،والرضا يُقْلَبُ ،والسخط يَغْلِب ..
فرضا الأب قيمةٌ تهرب معاني الحياة دونها، ويخفت ظلها، ويُمْدَحُ السعيُ في نيلها
فتركناه يخرج ولم نعقبْ، والدموع على وجانتنا تُسْكَب
وظَلنا نترقب لحظةَ رجوعه في خشوع ..
وكل ذلك ولم يُنْبِينَا عن سبب خروجِه
فتبادلنا الحديثَ حولَه، وأبدى كلٌ سؤْلَه
وبعضٌ يلمح وآخر يصرح أين ذهب وما السبب؟!
قالت أمنا : وعلى ما العتب؟ فهو الكبير وبالقيادة جدير وسيظل قديرًا، ولن يزدنا مرضُه إلا توقيرًا
فقال أخي الأكبر : يا أماه ليس على هذا النكير ولم نرمِ لذا التغيير ، إنما يشق علينا غيابه ، ولم نقصد عتابه ، فهو الشفيق على طول الطريق ، وأقل الواجبات أن نبذل الطاقات من أجل راحته في الحركة وفي السبات ..
فطرق الباب فُخطفت الألباب ..
فَفُتِحَ فإذا هو أبي يلتقط أنفاسه بصعوبة بالغة ..
فاتكأ علينا إلى أن وصل إلى مضجعه وهو يقول :
إنّي قائل كلمات، فالزموا الإنصات!
إني ذهبت لأختي التي تبقت من رحمي لشعوري بقرب اللحظة الأخيرة ...
فظهر البكاء وعلا صوتنا به فقال أبي : إن كنتم ستبكون ولا ريب ،فاعلموا السبب
وابكوا على قيامتي التي ستقوم، فإما جنات ونَهَر أو شجرة الزقوم ..
وأما ألم الفراق فذلك معلوم، وكل بني أدم فيه مكلوم ..
فمن أحبني أطاعني، وترك الولولة والمسكنة والسخطة والنحيب، وأبرني بفعل صالح قريب ، ودعا رب الأرض والسماء، أن يرحم أباه من الشقاء
ومن فعل ذلك فهو ولدي، وبه سَعْدِي في لَحْدِي
ومن أعرض عن ذكرِ ربِّي فقد خالف دَرْبِي
فاسمعوا مقولتي واعملوا بمحبتي ، فالدنيا من الدنو والفناء فمن اشترى الحياة الدنيا بالأخرة فذلك عين السفاهة والغباء..
فلما أقرض نفسه بغير ردٍ ينتظره، وشارف على الوصول للآخيرة بكيتُ قائلًا :
أبتاااااااااااا اااااااااه
فكانت زفرته تقول بصوت خافت ابتسم !
ابتسمتُ وقلتُ الحمد لله ،ومن وجداني أصرخ أوّااااااااااه..
وسرق الخاطرُ تلك الكلمات فأبتْ إلا أن تظهر ويتلجلج بها لساني
يا أبتاه أرجوك قم لنا سالمًا ..أعلمُ أنَّ الأمرَ ليس بيديك .. وقلبي سينفطرعليك..أزيد إساءة وتزيد إحسانا ..وذلك زاد الأمر شقاءً وأحزانا ..أبتاه لا أرجوك خشية الإملاق ..إنما يرزقنا وإياك العليم الرزاق ..إنما رجائي لحسن عهدك بنا..وتعليمك إيانا كيف نصل إلى ربنا
فتبسم دامعًا .. وطأطأ خاشعًا ، وقال إن للموت لسكرات وإن له لحسرات ..
فلم أصبر على ذلك وقلتُ كلماتٍ مادةُ صوتِها النحيب والبكاء

أبتاه لا تبكي فإنّ الدمعَ يبكيني
فحبّك ذلك الدم الذي يجري في شراييني
فإن لم أر بهجتك فمن ذا سوف يقريني؟
أبتاه لا تبكي فإن الدمعَ يكويني ..

فلما نفذ الأجلُ المسمى .. نظر الناظرون يستعبرون ويحوقلون ويسترجعون
ونطق لساني وتجمدت أركاني وقمتُ أستعين على نفسي بركعتين سألت فيها ملك الملوك المدد بالصبر والرضا ..
ثم أمسكتُ قلمي لأنفث همي ..
كَتَبَ القلمْ ..فوجدتُني .. لا أرى فيضًا منَّه
وكأنَّه .. يبكي عليَّ .. لأنّي كنتُ هجرْتُه
لا يا قلم! .. لم أنسَ يومًا كان أنْ أعرَبْتَه
ألا ترى عظمَ المصاب؟!
وما له ذا الشعر شاب..
أبتي وأبتي ثم أبتي..
من يحمل الأحزان عني مثل أبتي؟
يويلتاه إن كنتُ يومًا دونَه
أبكي وأبكي ولا أكون بركنِه
فيقول يا ولدي أأعياك المصاب؟!
فإني أعيا يوم تعييك الصعاب !
ولداه لا تبكي فإني أشاطرك العذاب ..

فوقع القلم وسقط القلب وذهب الحبُّ واستعبر الودُّ
فقد هُدم اليوم ركنٌ من أركان المحبة والوفاء !!
انتهت ..