تعظيم الأئمة الأربعة للسنة ونبذهم التعصب
إبراهيم محمد صدي
كلُّ أمَّةٍ -قبل مبعَث نبيِّنا محمَّد - صلى الله عليه وسلم - فعلماؤها شِرارُها، إلا المسلمين فإنَّ علماءَهم خيارُهم؛ ذلك لأنهم خلفاءُ الرسول - صلى الله عليه وسلم - في أمَّته، والمحيون لما مات من سنَّته، بهم قام الكتابُ وبه قاموا، وبهم نطَق الكتابُ وبه نطقوا، فكانوا شهودَ عدلٍ، كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يحمل هذا العلمَ مِن كلِّ خلفٍ عدولُه، ينفون عنه تحريفَ الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين.
ومع وضوح هذا الأمر واتِّفاق جماهير الأمَّة عليه؛ إلا أنَّ بعضَ المخالفين يأبَون الاعترافَ للأئمَّة الأربعة -أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد- بهذا الفضل، فنصبوا لهم العداءَ، وألصَقوا بهم التُّهم والدعاوى، وأثاروا حولهم الشبهاتِ والأراجيف؛ ليتوصَّلوا بذلك إلى تحقيق مآربهم ومقاصدهم.
وفي هذه المقالةِ بيانُ ما جاء عنِ الأئمة المرضيّين والمقبولين قبولًا عامًّا لدى المسلمين من أقوالهم وأفعالهم في تعظيم السنَّة، وتقديمها على غيرها من أقوال الرجال، وأنهم لم يكونوا يتعمَّدون مخالفةَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في شيء من سنَّته في دقيقٍ ولا جليل، وهذا الحالُ يشترك فيه جميع علماء الأمّة الأخيار؛ ولهذا يقول الحافظ ابن عبد البر: ليس أحدٌ من علماء الأمة يثبت حديثًا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم يردُّه دون ادِّعاء نسخِ ذلك بأثرٍ مثله، أو بإجماع، أو بعمل يجب على أصله الانقيادُ إليه، أو طعن في سندِه، ولو فعل ذلك أحدٌ سقطت عدالته فضلًا عن أن يُتَّخذ إمامًا، ولزمه اسمُ الفسق، ولقد عافاهم الله -عز وجل- من ذلك. وسيكون الكلام عن هذا الأمر من جهتين: الجهة الأولى: قطوف من نصوص الأئمَّة في تعظيم السنة، والجهة الثانية: إجمال الأسباب في وقوع بعضهم في مخالفة السنة.
نصوص الأئمة
- أولًا: قطوف من نصوص الأئمة في تعظيم السنة: لقد ثبت عن الأئمة الأربعة -بما لا يدعُ مجالًا للشكِّ- أنهم كانوا لا يقدِّمون على السنة النبوية شيئًا، وأنَّ استدلالهم بالسنة مقدَّم على الرأي والقياس، وفيما يلي جملة صالحة من أقوالهم في هذا:
تعظيم الإمام أبي حنيفة للسُّنَّة
يمكن تلخيص ما جاء في تعظيم الإمام أبي حنيفة رحمه الله للسنة النبوية في نقاط عدة كالآتي:
- سعيُه الحثيث للوصول إلى الحديثِ الصحيح؛ ليكون مذهبًا له، بل جعل مذهبه تابعًا لصحه الحديث؛ حيث ثبت عنه قوله: «إذا صحَّ الحديث فهو مذهبي».
- لا يقدِّم على السنة شيئًا من الأقوال والآراء والأقيسة؛ وفي هذا المعنى يقول عبد الله بن المبارك: سمعت أبا حنيفة يقول: «إذا جاء عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فعلى الرأس والعين، وإذا جاء عن أصحاب النبيّ - صلى الله عليه وسلم - نختار من قولهم، وإذا جاء عن التابعين زاحمناهم.
- بلَغ من دينه ووفور ورعه أنه أمر بترك قوله عند مخالفته للكتاب والسنة، وفي هذا دليلٌ على عدم تعصُّبه لرأيه؛ فإنه لما سُئل: إذا قلتَ قولًا وكتاب الله يخالفه؟ قال: اتركوا قولي لكتاب الله، فقيل: إذا كان خبر الرسول - صلى الله عليه وسلم - يخالفه؟ قال: اتركوا قولي لخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم .
- نهيه عن تقليده، ولم يجعل في حلٍّ من يُفتي بقوله ولم يعلَم حجَّته؛ فعن إبراهيم بن يوسف عن أبي حنيفة أنه قال: «لا يحلُّ لأحدٍ أن يفتيَ بقولنا ما لم يعلم من أين قلنا».
- وقد بنى بعض فقهاء المذهب الحنفي على هذا: أنه إذا صحَّ الحديث وكان على خلاف المذهب عُمل بالحديث، ويكون ذلك مذهبه، ولا يخرج مقلِّده عن كونه حنفيًّا بالعمل به، فقد صح عن الإمام أبي حنيفة أنه قال: إذا صحَّ الحديث فهو مذهبي... ولا يخفى أنَّ ذلك لمن كان أهلًا للنظر في النصوص ومعرفة محكمها من منسوخها.
تعظيم الإمام مالك للسّنَّة
لقد نُقل إلينا عن الإمام مالكِ بن أنس رحمه الله بعضُ أقواله في تعظيمه للسّنة، وإهداره لرأيه عند مخالفتها؛ ومما أثر عنه في ذلك ما يأتي:
- نفيه العصمة عن قوله، وحثُّه على النظر في أقواله، وعرضِها على الكتاب والسنة، فما وافقهما أخذ، وما خالفهما ترك، فعن مَعن بن عيسى قال: سمعت مالك بن أنس يقول: «إنما أنا بشر أخطِئ وأصيب، فانظروا في رأيي، فكلّ ما وافق الكتاب والسنة فخذوا به، وكلّ ما لم يوافق الكتاب والسنة فاتركوه»، وفي هذا أبلغ الردِّ على من سَعى إلى تعميق هوَّة الخلافات بين العلماء، ووصفها بالدموية.
- ثبت عنه ذمُّه للقول في دين الله -تعالى- بالرأي والظن والقياس على غير أصل؛ فعن إسحق بن إبراهيم الحنيني قال: قال مالك: قُبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد تمَّ هذا الأمرُ واستكمل، فإنما ينبغي أن تُتَّبع آثار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا يُتَّبع الرأي؛ فإنه متى اتبع الرأي جاء رجل آخَر أقوى في الرأي منك فاتبعتَه، فأنت كلما جاء رجل غلبَك اتبعتَه، أرى هذا لا يتم، وهذا يقوله الإمام مالك بالرغم من أنه درس الفقهَ على شيخه ربيعة بن عبد الرحمن -واشتهر لكثرة استدلاله بالرأي بربيعة الرأي-، ومع ذلك فإن مالكًا كره الرأي، وحث على اتباع الحديث والأثر.
- أعلنها صريحةً فيما اشتهر عنه من قوله: «ليس أحدٌ بعد النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - إلا ويؤخَذ من قوله ويترك، إلا النبي - صلى الله عليه وسلم ».
- أثِر عنه ندَمه على ما صدَر منه من الرأي؛ يقول عبد الله بن مسلمة القَعنبيُّ: دخلت على مالك فوجدته باكيًا، فسلمت عليه، فردَّ عليَّ ثم سكت عني يبكي، فقلت له: يا أبا عبد الله، ما الذي يبكيك؟ قال لي: يا بن قعنب، إنا لله على ما فرط مني، ليتني جُلِدت بكلِّ كلمة تكلَّمت بها في هذا الأمر بسَوط، ولم يكن فرَط مني ما فرط من هذا الرأي وهذه المسائل، وقد كان لي سعة فيما سبقت إليه
تعظيم الإمام الشافعيِّ للسُّنَّة
كثرت أقوال الإمام الشافعي -رحمه الله- الدالةُ على حُسن اعتقاده في متابعة السنة ومجانبة البدعة، ومن ذلك:
- ما جاء من فزعه وشدَّة خوفه من مخالفة السنة الثابتة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم-، وتعوُّذه من ذلك؛ فعن الربيع بن سليمان قال: سمعت الشافعي -وسأله رجل عن مسألة- فقال: يُروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم- أنه قال كذا وكذا، فقال له السائل: يا أبا عبد الله، أتقول هذا؟ فارتعد الشافعيُّ واصفرَّ وحال لونه، وقال: ويحك! أيُّ أرض تُقلُّني، وأيُّ سماء تظِلُّني، إذا رويتُ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيئًا لم أقل به؟! نعم، على الرأس والعينين، على الرأس والعينين.
- تنصيصه على أن السنةَ لا يحيط بها أحدٌ، ورجوعه عن قوله المخالِف للسنة، والتزامه بما ثبت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ يقول الربيع: وسمعت الشافعي يقول: «ما من أحدٍ إلا وتذهَب عليه سنة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وتعزب عنه، فمهما قلتُ من قول، أو أصَّلْتُ من أصل، فيه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خلاف ما قلتُ، فالقول ما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو قولي»، قال: وجعل يردِّد هذا الكلام.
- تمسُّكه بالحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى ولو لم يصِله؛ فعن أبي ثور قال: سمعت الشافعي يقول: «كلّ حديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فهو قولي، وإن لم تسمعوه مني.
- شدَّة تحريه للسنة واستفراغ طاقته في البحث عنها والعمل بها؛ يقول أحمد بن حنبل: قال لي محمد بن إدريس الشافعي: «يا أبا عبد الله، أنتَ أعلم بالأخبار الصِّحاح منا، فإذا كان خبر صحيح فأعلمني؛ حتى أذهب إليه، كوفيًّا كان أو بصريًّا أو شاميًّا، وفيه دلالة واضحة على أنَّ الأئمة الأربعة كانوا يسعون جاهدين للوصول إلى الحديث الصحيح الثابت، ولم يكونوا يستدلّون بالحديث الضعيف المردود؛ خلاف ما يدَّعيه بعضهم.
تعظيم الإمام أحمد للسّنّة
لقد كان الإمام أحمد بن حنبل -رحمه الله- من أكثر الأئمَّة اشتغالًا بالسنّة؛ حتى إنه كان يكره وضعَ الكتب التي تشتمل على التفريع والرأي، ويحبّ التمسك بالأثر.
- وكان يحثُّ كبار أصحابه الذين بلغوا رتبةً في العلم والحفظ والفهم على الاجتهاد في فهم الكتاب والسنة والعمل بهما؛ فيقول لهم: «لا تقلِّدني، ولا تقلِّد مالكًا، ولا الثوريَّ، ولا الأوزاعيَّ، وخذ من حيث أخذوا».
- كما أعلنها صريحةً في أنَّ الحجَّة والبرهان إنما تؤخَذ من الآثار؛ فعن سلمة بن شبيب قال: سمعت أحمد بن حنبل يقول: «رأي الأوزاعيِّ ورأي مالك ورأي سفيان كلُّه رأي، وهو عندي سواء، وإنما الحجة في الآثار».
- كما أوضح أنَّ من ردَّ السنة فإنما يعرِّض نفسَه للهلاك؛ فعن الفضل بن زياد قال: سمعت أبا عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل يقول: «من ردَّ حديث رسول الله فهو على شفا هلكة».
أسبابِ مخالفة السنة
القاسم المشترك بين النصوص الواردة عن الأئمّة في تعظيم السنة يدلُّ على أنهم لم يكونوا يتعمَّدون مخالفة السنة بأهوائهم أو تبعًا لأغراضهم، وإنما يتَّبعون ما ثبت عندهم من السنة، وقد يغيب عن أحدهم بعضُها، كما أنهم لم يدْعوا إلى التعصُّب لآرائهم وأقوالهم، وقد يكون لأحدهم بعض الأعذار التي توجب تركَ الأخذ بالحديث؛ وجماعُها ثلاثة أصناف:
- أوّلها: عدَم اعتقاده أنَّ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - قاله، وذلك بناءً على ما قرَّره من الشروط في قبول الأخبار.
- والثاني: عدم اعتقاده إرادة تلك المسألة بذلك القول؛ يعني: تنوَّعت الأنظار في فهم المراد بالحديث، وما يستنبط منه من أحكام شرعية.
- والثالث: اعتقاده أنَّ ذلك الحكم منسوخ، فلا يعمل به.
وبهذا يُردُّ على من طعَن في الأئمّة، ولا يدَّعى لهم العصمة؛ يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: «ثم إنَّنا مع العلم بأنَّ التارك الموصوف معذور، بل مأجور، لا يمنعنا أن نتَّبع الأحاديث الصحيحةَ التي لا نعلَم لها معارضًا يدفعها، وأن نعتقدَ وجوبَ العمل على الأمَّة، ووجوب تبليغها، وهذا مما لا يختلف العلماء فيه».