وظيفة بلا مرتب
هناك وظيفة تنتظرك وهي أهم وظيفة قد تشغلها في حياتك كلها، لكن احذر! فقد يقول بعض الناس عنها إنها غير مجزية، وفوائدها وأرباحها ليست عظيمة باستمرار، كما أن ساعات العمل غير محددة، وكمية العمل لا تنتهي، أتعلم ما هي؟
حسنًا، لقد أصبحت والدًا!!
عزيزي المربي: يا لها من مهنة لذيذة حصلت عليها، ولا أعتقد أن هناك من يستمتع بمسح الأنوف الراشحة، وإيقاظ الأطفال المتذمرين استعدادًا للذهاب إلى المدرسة، والشجار والشكوى وتحمل حالاتهم المزاجية السيئة كالوالدين.
فأن يكون المرء أبًا أو أمًا لهي مهمة على درجة كبيرة من الخطورة، فعندما تستقبلون "المنحة الإلهية الصغيرة البديعة" في عالمكم، تتغير حياتكم تغيرًا هائلًا ولن تعود أبدًا كما كانت عليه، ويعلن وصول طفلكم بداية مسيرتكم المهنية في أعظم وأهم وظيفة تقومون بها، تهانينا!
ولكن قد يجد الكثير من الآباء ضحالة في خبراتهم التربوية ويتساءلون: هل نمتلك ما يلزم؟ هل بوسعنا القيام بذلك كله؟ كيف نشعر بالمزيد من الطمأنينة الذاتية؟ وهل قال أحد أن تربية الأطفال أمرها هين؟.
عزيزي المربي: لا تيأس..
يشكو الكثير من الآباء -وقد تكون أنت واحدًا منهم- من أبنائه وصعوبة التعامل معهم، ويعبر عن الصعوبات التي يواجهها في تربيتهم، فنسمع الكثير من الشكاوى على غرار:
(لا أستطيع جمع أولادي حولي، فهم موجودون في أي مكان عدا المنزل).
(لا يوجد هناك تواصل فهم لا يستمعون إلي).
(لا يتوفر لدي الوقت اللازم).
(يظنون أني غير ملم بما يحدث، فهم لا يحترموني).
(كل منهم ساخر ومتذمر جدًا).
(لقد وصلنا إلى طريق مسدود فنحن لا نستطيع تغيير أنفسنا أو الأنماط والعادات التي اعتدنا عليها).
(لا أعلم ماذا يعملون؟ أو أين هم في الليل؟ وهم يرفضون البوح لي).
عزيزي المربي: ليس أدل من هذه العبارات السابقة على أهمية القراءة في هذا الفن -فن التربية- فإن الكثيرين منا ما زالوا يعكفون على الوسائل التقليدية في التربية دون أدنى مواكبة لمتغيرات هذه الوسائل، وهم في ذلك كمن يطرق الحديد البارد، أو يحاول طحن الماء، فنحن في أمس الحاجة إلى مراجعة وسائلنا التي فقدت جدواها، وقبول بعض الوسائل الغربية الحديثة التي تتمشى مع قيمنا ومبادئنا، التي هي في حقيقتها تجارب بشرية تمثل الحكمة، فالحكمة ضالة المؤمن، أينما وجدها فهو أحق الناس بها.
إن تربية الأطفال تتطلب الكثير من التدريب شأنها في ذلك شأن معظم المهام والأعمال، وقد يواجه الآباء الكثير من المواقف التي يعجزون عن التعامل معها فيستجيبوا لها بشكل فطري، وبعد ذلك يتساءلون: ما إذا كانوا قد فعلوا الصواب أم لا؟! وقد يفقدون الثقة في قدرتهم التربوية؛ فالأمور تسير أحيانًا على ما يرام، وفي أحيان أخرى لا تكون كذلك.
لذلك كانت هذه المحاولة عزيزي المربي لنضع قدميك على بداية الطريق التربوي، ثم نسير سويًا مسترشدين بعلاماته حتى نصل لبناء الابن والابنة الصالحين.
هل تعرف ما هي التربية؟!
بادئ ذي بدء علينا أن نحيط علمًا بمعنى هذه الكلمة –تربية-، فنجد معناها اللغوي هو: من ربا يربو أي زاد ونما، وأيضًا بمعنى: نشأ وترعرع، كما جاء في الآية: (وما آتيتم من ربا ليربو في أموال الناس فلا يربو عند الله) [الروم: 39]، ويعرفها قاموس (وبستر) بكلمات، مثل: (التدريب)، (التعليم)، (التغذية).
أما المعنى الذي نريده والذي قال به علماء النفس والاجتماع فقد دارت كلمة التربية بين عدة تعريفات منها:
أن التربية هي: "قيام جيل من الراشدين لتنشئة أجيال الناشئين؛ بتعليمهم، وإعدادهم تدريجيًا حتى يصلوا بهم إلى درجة عالية من القوة؛ جسميًا وعقليًا وروحيًا واجتماعيًا وإيمانيًا، وتمكينهم من التكيف مع محيطهم البيئي والاجتماعي".
وقد أجاد الدكتور/ محمد بدري، حينما وضع كلمة توازي كلمة التربية فقال: "أن التربية هي (صناعة الإنسان الصالح)"، وأيضًا عبر عنها الكاتبان "ليندا وريتشارد ير" في كتاب "بناء شخصية الطفل" بأنها هي: "الاستخدام الدافئ والحكيم للحب".
نخرج من التعريفات السابقة أن التربية إذًا ليست تلقينًا ولا تعليمًا ولا تدريبًا فقط، وإن كانت هذه الأشياء من مفرداتها، وإنما التربية بمعناها الواسع الشامل كما عرفها النبي -صلى الله عليه وسلم- بأنها الرعاية الكاملة حينما قال: ((ألا كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته، فالإمام الذي على الناس راع وهو مسؤول عن رعيته، والرجل راع على أهل بيته وهو مسؤول عن رعيته، والمرأة راعية على بيت زوجها وولده وهي مسؤولة عنهم، وعبد الرجل راع على مال سيده وهو مسؤول عنه)) [متفق عليه].
أدوات التربية:
ويجب هنا أن نؤكد على شيئين: العقل والقلب؛ فهما أداتا التربية، إن فقدت أحدهما فقدت التوازن المطلوب، والمقصود بالعقل هو: استخدام منهج منطقي وعملي لتعليم أطفالك، أو بعبارة أخرى: استخدام مهارات معينة لتغيير سلوك أطفالك، أما المقصود بالقلب فهو أن تحب طفلك حبًا غير مشروطًا، مع العلم بأنه لا يمكن لأي من هذين الشيئين أن يعمل وحده دون الآخر، لهذا عليك بالجمع بين الاثنين معًا وسوف يصبح لديك مزيج قوي فعال.
لماذا نربي أبناءنا؟!
- الهدف الأول هو: "إعداد السفينة"، فكما أن السفينة تُصنع كلها كاملة وتُجهز بكل ما يمكنها من السير في البحر، ثم بعد ذلك توضع في فترة اختبار؛ فإن نجحت في اختبارها نزلت إلى الماء لتكابد الأمواج والأعاصير حتى تصل إلى الشاطئ الذي تنشد.
وكذلك ابنك عزيزي المربي، فأنت تقوم بصياغة قيمه وأخلاقه وإيمانه، وتعلمه مهارات التعامل مع الحياة، ثم بعد ذلك تتركه في فترة اختبار في محيط العائلة الكبير والمدرسة؛ فإن نجح خرج إلى الحياة ليشق فيها طريقه إلى السعادة الدنيوية والأخروية.
فيعيش عيشة هنيئة في الحاضر، ويقدر على الإعداد لمستقبل زاهر، فالحياة معاناة واقع يمكن أن يكون مليئًا بالمشكلات التي يحتاج الإنسان إلى مواجهتها، وإلا تراكمت عليه فأحالت حياته إلى واقع غير محتمل أو غير معقول، بل غير ممكن على الإطلاق.
- الهدف الثاني هو: ((وولد صالح يدعو له))؛ وهذا ما ذكره الغزالي -رحمه الله- في إحيائه: "أن يبقى بعده ولدًا صالحًا يدعو له، والصلاح هو الغالب على أولاد ذوي الدين لاسيما إذا عزم على تربيته وحمله على الصلاح"، وكما قال الله -تعالى-: (وألحقنا بهم ذريتهم وما ألتناهم من عملهم من شيء) [الطور: 21]، وقال -صلى الله عليه وسلم-: ((إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، وعلم ينتفع به، وولد صالح يدعو له)) [صححه الألباني].
هل تقوم بالتربية أم بالتنظيم:
إن كثيرًا من الآباء والأمهات أصبحوا اليوم أفضل من السابق في تنظيم أمور أطفالهم بالمقارنة مع تربيتهم لهم، فالتنظيم: هو مساعدة أطفالنا على القيام بما يستطيعون القيام به، وتحقيق ما يستطيعون تحقيقه، وهو يتراوح بين إدخالهم الحضانة المناسبة عندما يكونوا في الرابعة من العمر حتى التحاقهم بالكلية المناسبة عندما يبلغون الثامنة عشرة، وتعليمهم الرياضة والعلوم المختلفة، واشتراكهم في النوادي...
ولكن هل قمنا من خلال كل هذا التنظيم، بما يكفي من التربية؟ إن التربية شيء نقوم به بقلوبنا وعقولنا، وهي تضيف الالتزام إلى المواعيد، والمديح إلى التحفيز، والدفء إلى الضوء، كما أنها تساعدنا في معرفة أبنائنا لتمكينهم من الوصول إلى درجات أفضل.
تنبيهات قبل البداية:
- لا للمثالية: كلنا يعرف أنه ليس هناك ما يسمى بالآباء أو الأطفال المثاليين، فنحن نعيش في عالم يفتقر إلى الكمال دائمًا، ولا بدّ أن نرتكب أخطاء مهما حاولنا ألا نفعل.
فيجب أن تتوقع بعض الأخطاء والمشاكل، ويجب أن تفهم أن الأمر يستغرق وقتًا وجهدًا، شجع نفسك حين تتغلب على مشكلة مع أحد أطفالك، ولتعلم أيها المربي الفاضل أنه لا يوجد علاج سحري لمشكلاتك إنما هي المثابرة والدأب.
- لا تبخل بوقتك: إن هناك عنصرًا أساسيًا من عناصر التربية تعتمد عليه كل المهارات التربوية؛ ألا وهو قضاء وقت مع أطفالك، فلن يمكنك تعليمهم أي شيء إلا إذا كنت متواجدًا معهم، وبالمثل لن تستطيع الاستمتاع بالدفء العائلي إلا إذا قضيتم الوقت معًا، وهذا شيء ضروري لا جدال فيه، كما أنه يزيد من أواصر الصلة بين أفراد الأسرة ويجعلهم أسرة واحدة متماسكة.
- لا تيأس: وهذه ملحوظة عن عملية التغيير، فالتغيير يحتاج الكثير من الوقت، فالسلوكيات التي يظهرها أطفالك الآن تعتبر نتاجًا لكل خبرات التعلم التي واجهوها في حياتهم، لذا فإن اكتساب سلوكيات جديدة لن يحدث بين عشية وضحاها، إن الأمر أشبه بإعادة تخطيط منزل، حيث تعيش وسط كثير من الأتربة والقاذورات قبل أن تسير الأمور كما تريدها، قد تشعر في بعض الأحيان برغبة في التخلي عن الأمر قائلًا: (وما الفائدة؟)، ولكننا نحثك على ألا تفعل ذلك، فكما هو الحال مع إعادة تخطيط المنزل، فإن بإمكانك أن تكمل مهمتك من خلال الصبر والعمل الجاد والمثابرة.
ولتعلم عزيزي المربي في الختام أن أبناءنا كالشتلات الخضراء الغضة الصغيرة الموجودة في المشتل المحمي، وهي يمكن أن تتشابه فيما بينها لكنها في الواقع إما أن تكون شتلة بلوط أو شتلة صنوبر أو شتلة تفاح، ونحن لا نقوم بتشكيلها ولكنا نحاول اكتشاف ماهيتها، وتعلم احتياجاتها، وتقديم كمية الماء وضوء الشمس والسماد المناسبة لكل منها، بالقدر الذي تحتاجه، لمساعدتها على النمو والوصول إلى أفضل شكل جُبلت عليه.
المراجع:
1. تربية الأطفال بالفطرة السليمة، د. راي بيرك، رون هيرون.
2. الأسرار السبعة للتربية المثالية، شيلي هيرولد.
3. بناء شخصية الأطفال، لندا ورتشارد ير.
4. اللمسة الإنسانية، محمد محمد بدري.
5. طريق البناء التربوي الإسلامي، د. عجيل جاسم النشمي.
6. بناء مستقبل الأمة، شريف عبد العزيز الزهيري
منقول