التربية على الولاء و البراء
حميد بن خبيش
يجهد البعض في سبيل وضع مفهوم الولاء و البراء ضمن خانة المفاهيم التي لا يجدر بالمجتمع الإسلامي المعاصر أن يستوعبها فكرا وممارسة لاعتبارين مزعومين هما , دعواهم أن الإنسانية بلغت حالة من النضج التي تتيح لها أن تتعالى على كل اختلاف عقيدي أو مذهبي , لتتبنى قيم التعايش و التسامح و نبذ الخلاف و الانغلاق , والثاني دعواهم أن عقيدة الولاء و البراء تمثل إطارا مرجعيا لكل مظاهر الغلو و التعصب و الكراهية , مما ينافي ما تعاقدت عليه الأمم من احترام حقوق الإنسان , وتقديس الحريات !!
وهما سببان متهافتان , ومصطنعان ولاشك , و الحقيقة أن هذا الجهد لم يكن غير خطوة متقدمة لهدم الإسلام من الداخل , وتذويب شخصية المسلم , خصوصا و أن معتقد الولاء و ابراء يمثل أوثق عرى الإيمان , و اللحمة التي تضمن تماسك المجتمع ,وتضبط حركته الوجدانية و السلوكية .
يُقصد بالولاء في الشريعة الإسلامية : محبة الله تعالى ورسوله , ونصرة دينه و أتباعه المؤمنين.
أما البراء فيُراد به : التبرؤ صراحة من كل ما يُعبد من دون الله تعالى , وبغض الكفر وأهله .
ولمكانة هذين الركنين فقد خصهما القرآن بعناية جليلة يؤكدها الحض عليهما في أزيد من ثلاثين سورة من القرآن الكريم .وهما ركنان أساسيان لتحقيق الإيمان و استكماله , وبدونهما تصبح العقيدة جوفاء , ويفقد الدين بعده الوظيفي في تشكيل سلوك الفرد و الجماعة على السواء !
وقبل المضي في تجلية الفوائد التربوية لهذا المعتقد , لابد من الإشارة إلى أن ما ينطوي عليه الولاء من محبة , والبراء من عداوة هو نزوع فطري ,وسنة كونية لازمة لأتباع كل دين ومذهب وليس وقفا على الإسلام وحده ! فما من عقيدة أومذهب أو حتى تيار فكري إلا وتجد له أتباعا يُوالونه , و يُعادون ما يُخالفه .غير أن للإسلام ميزة خاصة تكمن في عدم تعارض هذا المعتقد مع مبدأي الوسطية و التسامح , وحرصه على التمييز بين البراء وما يقتضيه التعايش مع غير المسلم .
إن التربية على الولاء و البراء تروم في الحقيقة تحصين الطفل من مخاطر الذوبان في هوية الآخر وقيمه , كما تؤهله للثبات على مبادئه , و الاعتزاز بالانتساب لدينه و النهوض بواجباته دون أن يُهمل في الآن نفسه ما يفرضه التصور الاسلامي للعلاقة الإنسانية من تعارف وتعاون على البر و التقوى .
من هذا المنطلق , كان أول ما يطرقه المربي لتشكيل البناء النفسي للطفل هو درس العقيدة الذي يُرسخ في نفسه محبة الله ورسوله , ويُجلي له الحقيقة الإلهية بأسلوب تتشربه القلوب الناشئة قبل أن ينحسر في نظم التعليم الحديثة إلى درس لاهوتي مجرد , يستعرض واجب العبودية في صورة منفرة !
ويُجلي الباحث زياد مسعود (1) الأثر التربوي للولاء و البراء من خلال ما يُحققه من مكاسب للفرد و المجتمع على خمسة أصعدة :
* على الصعيد الروحي : تمكن تربية الطفل على الولاء و البراء من حمله على إخلاص العبودية لله , وصدق التوكل عليه , وبلوغ كمال الإيمان بخلع الولاءات القبلية و العنصرية , ونبذ الأحقاد التاريخية عملا بالتوجيه النبوي الشريف " من أحب في الله , وأبغض في الله , وأعطى في الله , ومنع في الله فقد استكمل الإيمان " (2) .كما تؤهله للاستقامة و الثبات على الحق ,و استحضار مراقبة الله في السر و العلن
* على الصعيد الفكري : للتربية على الولاء و البراء دورها الآكد في بناء العقلية الإسلامية المبدعة , وتفتيح المدارك الإنسانية من خلال حفز التفكير الموضوعي الذي ينأى بالفرد عن اتباع الهوى و التقليد الأعمى , كما يُوجه ملكات العقل لما فيه سعادة المؤمن في الدارين , كالتفكر و الاعتبار , وتأسيس اليقين على أساس النظر و الاستدلال السليم .
* على الصعيد النفسي والوجداني : للولاءو البراء أثر واضح في صفاء الوجدان ,وتحرير الفرد من الأزمات النفسية ,و الانحرافات العاطفية .كما يحقق له الشعور بالعزة والأمن و السكينة , فلا تجتاله الوساوس المدمرة , ولاتنال المحن من سعادته الروحية .
أما ولاؤه لأخيه المؤمن فيحمله على تطهير قلبه من نوازع الشر و الرذائل التي عادة ما توغر الصدر وتبذر الشقاء, كالحسد و البخل و البغضاء .
* على الصعيد الأخلاقي : يؤدي غرس الولاء و البراء في قلب وعقل الطفل إلى تحليه بالفضائل و الأخلاق الحميدة , فيصبح رضى الله ورسوله معيارا موجها لسلوكه ومعاملاته .كما ترتبط منظومة القيم لديه بمدى استجابتها لأمر الله و رسوله .
* على الصعيد الاجتماعي : تحقق التربية على الولاء و البراء أعلى درجات التماسك بين أفراد المجتمع الإسلامي , فتشيع بينهم قيم التكافل و التناصر , وطرح العصبيات الجاهلية و النعرات القومية .
و لاتعارض هنا بين معتقد الولاء وروابط النسب و اللغة و الدم .لأن هذا المعتقد يؤسس لرابطة ربانية إيمانية تتوازن معها سائر الراوبط و تتناسق حتى تكون مصدر خير و صلاح بدل أن تكون باعثا للفتنة و الفساد .
مما سبق يتضح أن التربية على الولاء و البراء هي صمام الأمان إزاء حملات التغريب و التشكيك التي لا تكف عن زعزعة العقيدة , وإضعاف الروح المعنوية للأجيال الناشئة .بل إن استقراء الواقع التربوي في العالم الإسلامي يدفعنا للجزم بأن تجاهل الأبعاد التربوية لهذا المعتقد اثناء وضع الاستراتيجيات , وتخطيط المناهج أسهم بشكل كبير في تعميق حالة التبعية و الارتباك و الحيرة , بل وهيأ مبررا قويا للأطراف الخارجية كي تُلزم القائمين على الشأن التعليمي بتبني رؤى تربوية شوهاء ,وإصلاحات قادت إلى المزيد من الهيمنة , و التحكم في مستقبل الأمة !
إن استعادة الشخصية الإسلامية بكل مقوماتها النفسية و الروحية و العقلية لا يُمكن أن يتحقق فقط بإدراج هذا المعتقد ضمن مقرر التربية الدينية بالمدارس , وإن كان هذا المطلب مُلحا وآنيا , بل يتطلب الأمر إعادة بناء النظرية التربوية على أسس مستقاة من الكتاب و السنة , مع الأخذ بما استجد من التطبيقات و الخبرات البشرية النافعة , هنا ..أوهناك !
كما يستدعي اعتماد التربية بالقدوة كوسيلة من أهم الوسائل التربوية لتكوين الفضائل و العادات الطيبة لدى الطفل .إذا يُلاحظ خلو المقررات الدراسية من نماذج للقدوة الصالحة وفي مقدمتها السيرة النبوية التي لا تحضر , مع كامل الأسف , إلا كمعطى تاريخي يفتقر لتلك الدفقة الشعورية , و الصياغة المحركة لأوتار الوجدان !
و لايفوتنا في الختام التأكيد على أن الأسرة المسلمة تتحمل القسط الأوفر من المسؤولية فيما يتعلق بغرس الولاء و البراء في سن مبكرة , وتوجيه اهتمام الطفل للمجالات التي تعزز صلته بدينه , وتُجنبه الانسياق خلف صور التيه الفكري و العقدي .
إن ماتطرحه العولمة اليوم من شعارات كالتعايش و الحوار و وغيره , لا يُمكن أن تتحقق على حساب التفريط في أصول الدين وثوابته. لذا فإن تربية الأجيال الناشئة على الولاء و البراء مدخل حيوي للتخلص من تأثير الهزيمة النفسية , والوثوق بالتأييد الإلهي. وصدق الله تعالى إذ يقول " ومن يتولَ اللهَ ورسولَه و الذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون "( المائدة : 56 ) !
ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــ ــ
(1) : زياد محمد حسن مسعود : رسالة لنيل الماجستير بعنوان " الأبعاد التربوية لمفهوم الولاء و البراء في الإسلام" .كلية التربية بالجامعة الإسلامية .غزة 1423هـ
(2) : سنن أبي داوود .كتاب السنة .باب الدليل على زيادة الإيمان ونقصانه .حديث رقم 4681