نفقة الزوجة العاملة
نوال الطيار
من المعلوم أن نفقة الزوجة على زوجها مقابل قرارها في منزل الزوجية وتفرغها لصالح الزوج. والإسلام لم يحرم المرأة أن تعمل، بل إذا ارتضت الخروج بالضوابط السابقة، وقذفت نفسها في معارك الحياة تحصيلاً للمال، في عصمة للفضيلة والشرف، فلا مانع من ذلك، لكن الأحب رعاية الأسرة وتعهد الطفل وتبعل الزوج.
وعلى هذا يعتبر عمل المرأة في الإسلام خلاف الأصل أي استثناء من القاعدة، لكن له مع ذلك أحكامه الشرعية الخاصة به، مع استثنائيته فحيث إن العاملة تتقاضى راتباً شهرياً فلا يخلو حالها من حيث وجوب النفقة لها عليه مع العمل منه.
وذلك بأن تشترط المرأة في عقد زواجها أن يأذن لها بالعمل أو تستمر فيه إذا كانت عاملة. وقد اختلف العلماء في حكم اشتراط هذا الشرط وأثره في بقاء النفقة؟
1- قال الله - تعالى -: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ) (2).
وهذا نص في لزوم الوفاء بالعقد وما تضمنه.
2- قول - صلى الله عليه وسلم -: ((إن أحق الشروط أن توفوا بها ما استحللتم به الفروج) (3).
فهذا الحديث أوجب الوفاء بكل شرط يذكر في العقد، ولو لم يكن له نص خاص أو دليل خاص؛ لأن ما لا دليل له من الشروط، يكون هذا الحديث دليلاً بمقتضى عمومه.
3- قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((المسلمون على شروطهم)).
4- ما ورد أن رجلاً تزوج امرأة وشرط لها دارها، أي لا تسكن إلا في دارها، ثم بدا له بعد ذلك أن ينقلها إلى داره، فتخاصما إلى عمر، فقال عمر - رضي الله عنه -: "لها شرطها، مقاطع الحقوق عند الشروط".
5- بأن الشروط فيها منفعة مقصودة لمشترطها، وكان رضاه بالعقد على أساسها، وهي لا تمنع تحقق مقاصد النكاح التي قام الدليل الشرعي على طلبها، فكان لا بد من الوفاء بها إجابة للأمر العام الذي تضافرت النصوص عليه، وهو وجوب الوفاء بالعقود، وإن حصل خلل في الوفاء فقد حصل خلل في الرضا الذي كان قوام العقد.
6- لأنه يمكن أن يبيح لها ذلك دون شرط، فالشرط يوجبه ويجعله نافذاً واجب الوفاء.
7- لأن رضاه بالشرط تنازل عن بعض حقه في التسليم.
فذهب علماء الحنفية إلى أن هذا الشرط فاسد والعقد صحيح، وذهب علماء المالكية على صحة هذا الشرط لكن مع الكراهة ولا يلزم الوفاء به، ولكن يستحب.
وذهب علماء الشافعية إلى عدم صحة هذا الشرط؛ لأن النفقة الزوجية تجب بالتمكين التام لا العقد، وأن الخروج من بيت الزوج بلا إذن منه نشوز منها.
1- قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل، وإن كان مئة شرط)) فكل شرط لا يقوم دليل على صحته فهو باطل ملغي؛ لأنه ليس في كتاب الله.
2- قوله - عليه الصلاة والسلام -: ((المسلمون عند شروطهم إلا شرطاً أحل حراماً أو حرم حلالاً)).
ولو قلنا بالإلزام بالشرط من غير دليل خاص يثبته لكان الشرط محرماً للحلال، إذ يمنع من حق كان للإنسان، وجعل ما لم يكن لازماً في مرتبة الوجوب.
3- أن آثار العقد من صنع الشارع صيانة لعقد الزواج عن الاضطراب، ومنعاً للناس من أن يخضعوا الحياة الزوجية لأهوائهم، فتخرج عن معناها (5).
بالنظر للقولين السابقين يترجح لي - والله أعلم - ما ذهب إليه علماء الحنابلة من صحة اشتراط هذا الشرط، وأن على الزوج الوفاء به، فلا يكون له منعها من العمل، ولو منعها فلا تكون ناشزة، وتستحق النفقة عليه.
وأرى أن أساس الخلاف بين الفقهاء في هذه المسألة هو حكم اشتراط مثل هذه الشروط التي ترى فيها المرأة منفعة لها بحيث تشترطها في العقد.
ولقد تصدى شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - إلى تحليل الشروط الواردة على العقود، فقرر أنه إذا كان الشرط منافياً للمقصود الأصلي من العقد كان مخالفاً لله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، وكان مبطلاً للعقد، أما إذا لم يتضمن ذلك فلا وجه لتحريمه أو عدم إجازته؛ لأنه عمل مقصود للناس يحتاجون إليه، إذ لولا حاجتهم إليه ما فعلوه، ولم يثبت أنه محرم، فيباح.
فإذا كان المشروط مما لم يحرمه الله فهو غير مخالف لكتاب الله وشرعه حتى يقال فيه: ((أيما شرط ليس في كتاب الله فهو باطل، وإن كان مئة شرط، كتاب الله أحق وشرط الله أوثق)) كأنه لابد أن يكون المشروط مما يباح فعله بدون الشرط حتى يصح اشتراطه ويجب بالشرط، فمعنى (ليس في كتاب الله) أي: ليس في كتاب الله نفيه وإنكاره ورده (6).
وتطبيقاً لذلك يرى الحنابلة أنه لم يرد في النصوص الشرعية النهي عن مثل هذا الاشتراط، وإذن الزوج لها بالعمل مما يباح له فعله بدون الشرط؛ لأنه لو لم يكن مباحاً لما صح حتى بالشرط، فلما كان الأمر كذلك صح أن يشترطه في العقد ليكون لازماً وواجباً (7).
إذا لم تشترط الزوجة العمل في عقد النكاح لكن قام عرف مقام الشرط يقتضي عملها، وصار عملها حاجة ماسة دل عليها العرف فهو هنا كالشرط، كما لو درست في كلية الطب وتأهلت وكان البلد في حاجة ماسة لعملها، فقد ينظر والله أعلم أن ذلك بمثابة الشرط، ويلحق بالحالة الأولى ولها النفقة، حتى إن علماء الأزهر يرونه ملزماً. لكن هناك من رأى أن نفقة الزوجة على زوجها مقابل قرارها في منزل الزوجية وتفرغها لصالح الزوج، وأنها إذا عملت بعمل خارج منزل الزوجية دون إذنه ورضاه - ولو كان ذلك من الأعمال الضرورية للمجتمع كعمل الطبيبة - كانت مفوتة حقه فيفوت حقها وتسقط نفقتها؛ لأن الحقوق المترتبة على العقد متقابلة.
لكن يظهر لي رجحان الرأي الأول، وهو أن العرف قائم مقام الشرط، وينبغي أن ينظر لمصلحة نساء الأمة، كما إذا عملت المرأة مغسِّلة للأموات ولا يوجد غيرها، فهنا يلزمها الخروج؛ لأن عملها من دواعي الضرورة للمجتمع، وهو خروج بمسوغ شرعي. والله – تعالى- أعلم.
إذا عملت الزوجة نهاراً أو ليلاً خارج المنزل كالطبيبة والمعلمة وغيرهما، فالمقرر أنه إذا رضي الزوج وأذن لها بالخروج ولم يمنعها من العمل، وجبت لها النفقة اتفاقاً (9).
1- لأن خروج المرأة للعمل خارج البيت يمثل احتباساً ناقصاً، لكنه لما كان الاحتباس حقاً للزوج فإذا رضي به ناقصاً وأذن في ذلك صراحة وضمناً لم يكن نقص الاحتباس حينئذ من قبل الزوجة، فلا يعتبر سبباً لسقوط نفقتها.
2- لأن احتباس الزوجة حق للزوج، فله أن يتنازل عنه.
إن رضي الزوج بعمل الزوجة أولاً ثم منعها من الخروج للعمل لسبب أو لغير سبب، ومن السبب كثرة العيال والحاجة إلى رعاية المنزل، والحفاظ على العفاف.
1- لأن ذلك يعتبر نشوزاً وإعراضاً عن الزوج وهما يسقطان حقها عليه في النفقة.
2- لأن الاحتباس معنى يتجدد في الحياة الزوجية يوماً بعد يوم وشهراً بعد شهر، كما تتجدد النفقة في مقابلة المثل، فإذا رأى الزوج أن يكتفى بالاحتباس الناقص لفترة من الزمن لمبررات ظهرت له فإن ذلك لا يسقط حقه المتجدد في أن يرفض هذا الاحتباس الناقص بعد ذلك مطالباً بحقه الأصلي في الاحتباس الكامل.
3- أن الاحتباس الكامل هو الأصل والقاعدة في الحياة الزوجية؛ لأنه هو الذي يحقق ما شرع الزواج من أجله وهو السكن الذي يتحقق بقرار الزوجة في بيت الزوجية، والاحتباس الناقص - وإن رضي به الزوج وأذن فيه استثناء من القاعدة، والاستثناء لا يلغي القاعدة الأصلية، فإذن الزوج يوجد الاستثناء في فترة الإذن، وإلغاؤه هذا الإذن يقطع حالة الاستثناء ويرجع الأمور إلى الحكم الأصلي.
لكن جرى القضاء المصري (11) على استحقاقها للنفقة؛ لأن إقدام الزوج على الزواج بها وهو يعلم أن لها عملاً خارجياً ولم يشترط عليها ترك العمل يعد رضاً منه بسقوط حقه في الاحتباس الكامل في منزل الزوجية.
بأن التكييف الفقهي لإذن الزوج (في ظل واجب الزوجة العام بطاعتها إياه في المعروف وحقه الأصلي والأساسي في احتباسها الكامل) هو أن العمل به استثناء ينصب على فترة الإذن وحدها، فإذا ألغي الأذن رجع الأمر بالضرورة إلى القاعدة الأصلية القاضية بحقه الكامل في دعوتها إلى الاحتباس الكامل، وواجبها في طاعة ذلك على الفور، أما جعل الاستثناء ملغياً للقاعدة الأصلية فأمر لم يعرفه الفكر الفقهي الإسلامي ولا يتفق مع قواعده العامة ولا الأقيسـة الصحيحة فيه.
بالنظر للقولين السابقين يترجح لي ـ والله أعلم ـ أن ترك الإذن المطلق للزوج أو عدمه لا يخلو من الضرر له أو عليه. لذا فإني أرى التفصيل في ذلك على ما يلي:
أولاً: أنه إذا طرأ على الحياة الزوجية تغيير يستوجب ترك الوظيفة، وعودة الزوجة إلى المنزل للقيام بشؤونه ومراعاته، ليتحقق بقرارها معنى السكن والزوجية الكاملة وتربية الصغار والإشراف على كل أمور الأسرة؛ وجب عليها تركه عملاً بالنصوص القرآنية والأحاديث النبوية.
ثانياً: إذا لم يطرأ على الحياة الزوجية تغيير يستوجب ترك الوظيفة، فمن وجهة نظري أن العمل بما تقضي به المحاكم المصرية هو الأولى، وهو استمرار الزوجة في وظيفتها؛ لأن تزوج الموظفة إقرار لها على وظيفتها، لا سيما وأن إطلاق الإذن للزوج قد يكون فيه ضرر لها؛ لأن بعض الأزواج يأمرها بترك الوظيفة لمجرد أنها لم تعطه من مرتبها، وقد تذعن له وتترك وظيفتها ثم بعد فترة من الزمن يعلن طلاقها أمام الملأ، وهي هنا قد خسرت الأمرين، والواقع خير شاهد على ذلك.
لذا ينبغي العمل بقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا ضرر ولا ضرار))(12) والنظر في جانب الزوجة كما هو في جانب الزوج، والنظر في مصلحة الأسرة المسلمة.
إذا لم يرض الزوج بعملها ونهاها عن الخروج للعمل من أول الحياة الزوجية أو شرط عليها عند العقد ترك الوظيفة، فلم تمتثل، واستمرت في وظيفتها، فعندئذ يسقط حقها عليه في النفقة.
وذلك لأن وجوب النفقة على الزوج منوط بالاحتباس الكامل تلبثاً في بيت الزوجية، لمصالح الزوج وتعهد الأطفال، والخروج للعمل مخل بهذه المصالح، فيسقط بذلك حقها في النفقة.
جاء في المبسوط (13): "لأنها محبوسة لحق الزوج ومفرغة نفسها له، فتستوجب الكفاية عليه في ماله، كالعامل على الصدقات لما فرغ نفسه لعمل المساكين استوجب كفايته في مالهم، والقاضي لما فرّغ نفسه لعمله للمسلمين استوجب الكفاية في مالهم" ثم قال في موضع آخر (14): "وإذا تغيبت أو أبت أن تتحول معه إلى منزله أو إلى حيث يريد من البلدان وقد أوفاها مهرها فلا نفقة لها لأنها ناشزة، ولا نفقة للناشزة".
وجاء في الدر المختار للحصكفي (15): "ولا نفقة لخارجة من بيته بغير حق، وهي الناشزة، حتى تعود ولو بعد سفره".
وجاء في مذاهب الجليل لشرح مختصر خليل(16) "من موانع النفقة: النشوز، ومنع الوطء والاستمتاع: نشوز، والخروج بدون إذنه نشوز".
وجاء في حاشية البجيرمي على شرح المنهاج (17): "تجب المؤن على صغير لا لصغيرة، بالتمكين لا بالعقد (قوله: بالتمكين) أي التام، وخرج به ما لو مكنته ليلاً فقط أو في دار مخصوصة؛ فلا نفقة لها".
وجاء في المغني والشرح الكبير(18)، ما نصه: "مسألة: قال: وإذا سافرت زوجته بغير إذنه فلا نفقة لها ولا قسم، أي سافرت في حاجتها؛ لأن القسم للأنس والنفقة للتمكين من الاستمتاع، وقد تعذر ذلك بسبب من جهتها فتسقط، وفي هذا تنبيه على سقوطهما إذا سافرت بغير إذنه، فإنه إذا سقط حقها من ذلك لعدم التمكين بأمر ليس فيه نشوز ولا معصية فلأن يسقط بالنشوز والمعصية أولى".
ويظهر مما سبق: أن نفقة الزوجة على زوجها مقابل قرارها في منزل الزوجية وتفرغها لصالح الزوج. وأنها إذا اشتغلت بعمل خارج منزل الزوجية دون إذنه ورضاه ولو(19) كان ذلك من الأعمال الضرورية للمجتمع كعمل القابلة والطبيبة كانت مفوتة حقه فيفوت حقها وتسقط نفقتها؛ لأن الحقوق المترتبة على العقد متقابلة.
____________
(1) مختصر الإنصاف والشرح الكبير 661، 664 في أنواع شروط النكاح عند الحنابلة.
(2) سورة المائدة: آية (1).
(3) متفق عليه، رواه البخاري برقم (2721) و (5151) ورواه مسلم برقه (1418).
(4) ينظر: فتح القدير /337، المقدمات الممهدات لابن رشد ص59، ص60 مغني المحتاج 3/270.
(5) الأحوال الشخصية لمحمد أبو زهرة ص185، ص186.
(6) القواعد النورانية ص204، ص207.
(7) دراسات في الأحوال الشخصية للدكتور/ محمد بلتاجي ص253.
(8) ينظر: دراسات في الأحوال الشخصية للبلتاجي 236 237.
مجلة المجتمع العدد 630، فقه الأسرة عند الإمام شيخ الإسلام ابن تيمية ص681.
(9) فتح القدير 3/424، حاشية ابن عابدين 2/647، الشرح الصغير 2/740، مغني المحتاج 3/260، المغني والشرح الكبير 8/186.
(10) ينظر: الشرح الكبير 3/343، بلغة السالك وهامشه 1/484، الشرح الصغير 2/740، المهذب 2/70.
(11) ينظر: دراسات في الأحوال الشخصية للبلتاجي ص241.
الفقه الإسلامي وأدلته للزحيلي ص610.
(12) تقدم تخريجه.
(13) للسرخي 5/181.
(14) المصدر السابق 5/186.
(15) 2/999
(16) ص188.
(17) ص112، ص113.
(18) لابن قدامة 8/154.
(19) إشارة للخلاق السابق في مسألة قيام العرف الموجب لعملها