لما هاجر فريقٌ مِن المؤمنين إلى الحبشة، -ليتخلَّصوا مِن الإيذاء والتعذيب الذي كانوا يَلقونه في مكة ولكى يستطيعوا أن يُؤدُّوا ما افترض الله عليهم، رأتْ قريشٌ أن هذا الفريق مِن الصحابة أمِنوا واطمأنُّوا بأرض الحبشة، وأنهم قد أصابوا بها دارًا وقرارًا، ساءهم ذلك، فبعثوا إلى النجاشي رجُلَيْن مِن قريشٍ؛ ليُعيدُوهم ويُخرِجوهم مِن دارهم التي اطمأنوا بها وأمِنوا.
وهذان الرجلان هما: عبد الله بن أبي ربيعة، وعمرو بن العاص،
قالت أم سلمة رضي الله عنها - : "فخرجا حتى قدما على النجاشي، ونحن عنده بخير دارٍ، عند خير جارٍ، فلم يبقَ بطريقٌ مِن بطارقتهم إلا دَفعا إليه هديةً قبْل أن يُكلِّما النجاشي، وقالا لكل بطريق: إنه قد لجأ إلى بلد الملكِ غِلمانٌ سُفهاءُ، فارقوا دينَ قومهم، ولم يدخلوا في دينكم، وجاؤوا بدينٍ مُبتدع لا نعرفه نحن ولا أنتم، وقد بعَثَنا أشرافُ قومنا إلى الملك ليردَّهم إليهم، فإذا كلَّمْنا الملكَ فيهم، فأشيروا عليه بأن يُسلمهم إلينا، ولا يُكلِّمهم. ثم إنهما قدَّما هداياهما إلى النجاشي، فقبِلَها منهما، ثم كلَّماه فقالا له:
أيها الملك، إنه قد لجأ إلى بلدكَ منا غِلمانٌ سُفهاء، فارقوا دينَ قومهم، ولم يدخلوا في دينك، وجاؤوا بدينٍ ابتدعوه، لا نعرفه نحن ولا أنت، وقد بعَثَنا إليك فيهم أشرافُ قومهم؛ لتردَّهم إليهم؛ فهم أعلى بهم عينًا، وأعلم بما عابوا عليهم.
قالت أم سلمة - رضي الله عنها -: ولم يكن شيءٌ أبغضَ إلى عبد الله بن أبي ربيعة وعمرو بن العاص، مِن أن يسمع كلامَهم النجاشيُّ، قالت: فقالت بطارقتُه حوله: صدَقا أيها الملك، قومُهم أعلى بهم عينًا، وأعلم بما عابوا عليهم، فأسلِمهم إليهما. قالت: فغضب النجاشي، وقال: لاها اللهِ إذًا، لا أُسلِمُهم إليهما، ولا يكاد قومٌ جاوروني، ونزلوا بلادي، واختاروني على مَن سواي، حتى أدعوهم فأسألهم عما يقول هذان في أمرهم، فإن كانوا كما يقولان، أسلمتُهم إليهما، ورددتُهم إلى قومهم، وإن كانوا على غير ذلك، منعتُهم منهما، وأحسنتُ جوارهم ما جاوروني.
قالتْ أم سلمة - رضي الله عنها -: ثم أرسل إلى أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فدعاهم، فلما جاءهم رسولُه، اجتَمعوا، ثم قال بعضُهم لبعضٍ: ما تقولون للرجُل إذا جئتموه؟ قالوا: نقول والله ما عَلِمنا، وما أمرَنا به نبيُّنا - صلى الله عليه وسلم - كائنًا في ذلك ما هو كائن. فكان الذي كلَّمه جعفر بن أبي طالب - رضي الله عنه - فقال له: أيها الملك، كنَّا قومًا أهل جاهلية؛ نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونُسيء الجوار، ويأكل القويُّ منا الضعيفَ، فكنا على ذلك، حتى بَعث اللهُ إلينا رسولًا منا، نَعرِف نَسَبَه وصدقه، وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله لنُوحِّدَه ونعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا مِن دونه مِن الحجارة والأوثان، وأمَرَنا بصدقِ الحديث، وأداءِ الأمانة، وصلة الرحم، وحُسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش، وقولِ الزور، وأكلِ مال اليتيم، وقذف المُحصنات، وأمَرَنا أن نعبد الله وحده لا نُشرك به شيئًا، وأَمَرَنا بالصلاة والزكاة والصيام - قالت أم سلمة: فعدَّد عليه أمورَ الإسلام - فصدَّقناه وآمنَّا به، واتَّبعناه على ما جاء به مِن الله، فعبدْنا اللهَ وحده، فلم نشرك به شيئًا، وحرَّمنا ما حرَّم علينا، وأحلَلْنا ما أحلَّ لنا، فعدا علينا قومُنا، فعذَّبونا وفتنونا عن ديننا؛ ليرُدُّونا إلى عبادة الأوثان مِن عبادة الله - تعالى - وأن نستحلَّ ما كنا نستحلُّ مِن الخبائث. فلما قهرونا وظلمونا، وضيَّقوا علينا، وحالُوا بيننا وبين ديننا - خرجنا إلى بلادك، واخترناك على مَن سِواك، ورغبنا في جوارك، ورجونا ألَّا نُظلَمَ عندك أيها الملك. قالت أم سلمة - رضي الله عنها -: فقال له النجاشي: هل معك مما جاء به عن الله مِن شيء؟ فقال له جعفر: نعم. فقال له النجاشي: فاقرأْه عليَّ. قالت: فقرأ عليه صدرًا مِن ﴿ كهيعص ﴾، قالت: فبكى - واللهِ - النجاشيُّ حتى اخضلَّتْ لحيتُه، وبكَت أساقفتُه، ثم قال النجاشي: إن هذا والذي جاء به عيسى لَيخرُجُ مِن مشكاة واحدة، انطلِقا، فلا والله لا أُسلِمُهم إليكما، ولا يكادون. قالت أم سلمة - رضي الله عنها -: فلما خرجا مِن عنده، قال عمرو بن العاص: والله لآتينَّه غدًا عنهم بما أستأصِلُ به خضراءهم، والله لأُخبِرنَّهُ أنهم يزعُمون أن عيسى ابن مريم عبدٌ. فلما كان مِن الغدِ، قال له: أيها الملك، إنهم يقولون في عيسى ابن مريم قولًا عظيمًا، فأرسِلْ إليهم فسَلْهُم عما يقولون فيه. قالت: ولم ينزل بنا مثلُها قط. فاجتمع القوم، ثم قال بعضهم لبعضٍ: ماذا تقولون في عيسى ابن مريم إذا سألكم عنه؟ قالوا: نقول والله ما قال الله، وما جاء به نبيُّنا كائنًا في ذلك ما هو كائنٌ. فلما دخلوا عليه، قال لهم: ماذا تقولون في عيسى ابن مريم؟ فقال جعفر بن أبي طالب: نقول فيه الذي جاءنا به نبيُّنا - صلى الله عليه وسلم -: هو عبدُ الله ورسوله، ورُوحه وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول. قالت: فضرب النجاشي بيده إلى الأرض، فأخذ منها عودًا، ثم قال: والله ما عدا عيسى ابنُ مريم ما قلتَ هذا العودَ. ثم قال للمسلمين: اذهبوا فأنتم الآمِنون، مَن سبَّكم غرِم، مَن سبَّكم غرِم"
.............................. .............................. .............................. .....................إن هذا النهجَ هو النهجُ السليم الذي يُوصل إلى النصر، ويُحقِّق لأصحابه الأجر، فما أجدرَ الدعاةَ بالحرص عليه كائنًا ما يكون الأمر! إن المخالفين لنا لن يستجيبوا لدعوتنا مهما جامَلْنا وتنازلْنا،
ألَا فلنمضِ في تقرير دعوتنا بكل وضوح دون مداهنه ولا اتباع للاهواء ولا استرضاءٍ لأحدٍ؛ ﴿ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 256]، وقال جل وعلا ﴿ وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ ﴾ [البقرة: 220] [منقول]