هل تحتسب المرأة؟
عبده قايد الذريبي
إن الدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ ليس حكرا على الرجال فحسب، بل للمرأة المسلمة أن تحتسب على المنكرات، وأن تبذل وسعها في تغيرها، مع مراعاتها للآداب والضوابط المنوطة بها.
ذلك أن فريضة الحسبة "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" واجبة على الرجال والنساء جميعا، كل بحسب علمه وقدرته واستطاعته؛ كما تدل على ذلك نصوص الكتاب والسنة الصحيحة، ومن ذلك: قوله - تعالى -: (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ)[آل عمران: 110]، وقوله: (وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)[آل عمران: 104]، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان))[1].
فهذه النصوص -وما في معناها- تدل بعمومها على أن الحسبة واجبة على الرجال والنساء على حد سواء، ولم تفرق بينهما؛ فـ (من رأى منكم منكرا) وجب عليه أن يحتسب عليه، وأن يبذل قصارى جهده في تغيره، سواء كان المنكر في البيت، أو في الوظيفة، أو في السوق، أو ما أشبه ذلك، وسواء كان الرائي للمنكر رجلا أو امرأة، فيجب عليه أن يحتسب عليه إذا كان قادرا.
وقد جاءت نصوص صريحة بحث الرجال والنساء على الحسبة جميعا؛ فمن ذلك قوله - تعالى -: (وَالْمُؤْمِنُو َ وَالْمُؤْمِنَات ُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيرحمهم الله إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) [التوبة: 71].
فهذه الآية الكريمة تدل على أنّ الحسبة واجبة على الرجال والنساء، كل حسب قدرته وعلمه، وتدل أيضا على أن الحسبة من أهم صفات المؤمنين والمؤمنات، وتدل على أن من اتصف بهذه الصفات كلها؛ فإنه أهل لنيل رحمة الله؛ سواء كان ذلك رجلا أو امرأة.
وقد حث المولى - تبارك وتعالى- نساء النبي- صلى الله عليه وسلم - أمهات المؤمنين- على الحسبة؛ وأرشدهن إلى آداب ذلك، فقال - تعالى -: (يَا نِسَاء النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاء إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَّعْرُوفًا) [الأحزاب(32)]، قال ابن عباس -رضي الله عنهما- في قوله: (وَقُلْنَ قَوْلًا مَّعْرُوفًا) "أمرهن بالأمر بالمعروف، ونهيهن عن المنكر"[2].
وقال ابن زيد - رحمه الله -: "قولاً حسناً جميلاً معروفاً في الخير"[3].
وقال البغوي - رحمه الله -: "لوجه الدين والإسلام بتصريح وبيان من غير خضوع"[4].
وقد بين العلماء - رحمهم الله - أن الحسبة واجبة على النساء كوجوبها على الرجال مع مراعاة الآداب الشرعية المنوطة بها؛ قال الإمام ابن النحاس الدمشقي - رحمه الله -: "إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب على النساء كوجوبه على الرجال حيث وجدت الاستطاعة"[5].
وقال العلامة ابن باز - رحمه الله - في رده على سؤال: "عن المرأة والدعوة إلى الله ماذا تقولون؟ ".
فأجاب - رحمه الله - بقوله: "هي كالرجل عليها الدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأن النصوص من القرآن الكريم، والسنة المطهرة تدل على ذلك، وكلام أهل العلم صريح في ذلك، فعليها أن تدعو إلى الله، وتأمر بالمعروف وتنهي عن المنكر؛ بالآداب الشرعية، التي تطلب من الرجل، وعليها مع ذلك أن لا يثنيها عن الدعوة إلى الله الجزع، وقلة الصبر، لاحتقار بعض الناس لها، أو سبهم لها، أو سخريتهم بها، بل عليها أن تتحمل وتصبر، ولو رأت من الناس ما يعتبر نوعا من السخرية والاستهزاء، ثم عليها أن ترعى أمرا آخر، وهو أن تكون مثالا للعفة والحجاب عن الرجال الأجانب، وتبتعد عن الاختلاط، بل تكون دعوتها مع العناية بالتحفظ من كل ما ينكر عليها، فإن دعت الرجال دعتهم، وهي محتجبة بدون خلوة بأحد منهم، وإن دعت النساء دعتهن بحكمة، وأن تكون نزيهة في أخلاقها وسيرتها، حتى لا يعترضن عليها، ويقلن لماذا ما بدأت بنفسها؟.
وعليها أن تبتعد عن اللباس الذي قد تفتن الناس به، وأن تكون بعيدة عن كل أسباب الفتنة، من إظهار المحاسن، وخضوع في الكلام، مما ينكر عليها، بل تكون عندها العناية بالدعوة إلى الله على وجه لا يضر دينها، ولا يضر سمعتها"[6].
ولتعلم المرأة أنها نصف المجتمع، فإذا قامت بدورها اكتمل المجتمع، وإذا لم تقم بدورها تعطل نصف المجتمع، وعليها مسؤولية كما على أخيها الرجل؛ فعن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((كلكم راع ومسئول عن رعيته)) إلى أن قال: ((والمرأة في بيت زوجها راعية وهي مسئولة عن رعيتها))[7].
ولتوقن المحتسبة بعظيم الأجر والثواب عند الله، قال - تعالى -: (مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ) [غافر: 40)]، وقال: (وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتَ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيرًا) [النساء: 124)]، وقال: (إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَات ِ وَالْمُؤْمِنِين َ وَالْمُؤْمِنَات ِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّق ِينَ وَالْمُتَصَدِّق َاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا) [الأحزاب: 35)].
فالمرأة والرجل متساوون في الثواب والعقاب، فإذا عملت المرأة عملا صالحا أثيبت عليه كما يثاب الرجل، ومن أجل الأعمال وأفضلها، وأكثرها ثوابا وأجرا: الحسبة؛ كما دلت على ذلك نصوص الكتاب والسنة الصحيحة؛ كقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا))[8]، وكقوله - عليه الصلاة والسلام -: ((من دل على خير فله مثل أجر فاعله))[9]. فإذا دعت المرأة إلى هدى، أو دلت عليه، فإن لها مثل أجر من تبعها؛ لا ينقص من أجرها شيئا.
وإذا احتسبت المرأة المسلمة فقد نالتها رحمة الله، وحازت على فضله وكرمه، كما قال صلى الله عليه وسلم: ((رحم الله رجلاً قام من الليل فصلى وأيقظ امرأته فإن أبت نضح في وجهها الماء، رحم الله امرأة قامت من الليل فصلت وأيقظت زوجها فإن أبى نضحت في وجهه الماء)9[10].
ففي هذا الحديث أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن المرأة المحتسبة التي تحث زوجها على قيام الليل، وتعينه عليه؛ بأن الله قد رحمها، أو أنه - صلى الله عليه وسلم - دعا لها بذلك، ولا شك أن دعائه - صلى الله عليه وسلم - مستجاب.
وقد سجلت لنا كتب التاريخ عدة مواقف احتسابية للمرأة المسلمة، ومن تلك المواقف: موقف فتاة في عهد الخليفة عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: فقد احتسبت على أمها طلبها منها خلط اللبن بالماء[11]: فعن عبد الله بن زيد بن أسلم عن أبيه عن جده أسلم قال: بينا أنا مع عمر بن الخطاب وهو يعس المدينة إذ أعيا واتكأ على جانب جدار في جوف الليل، وإذا امرأة تقول لابنتها: يا ابنتاه قومي إلى ذلك اللبن فامذقيه -اخلطيه- بالماء، فقالت لها: يا أمتاه وما علمت ما كان من عزمة أمير المؤمنين اليوم؟! قالت: وما كان من عزمته يا بنية؟ قالت: إنه أمر مناديا فنادى ألا يشاب اللبن بالماء، فقالت لها يا بنية: قومي إلى اللبن فامذقيه بالماء، فإنك بموضع لا يراك عمر ولا منادى عمر، فقالت الصبية لأمها: يا أمتاه ما كنت لأطيعه في الملأ، وأعصيه في الخلاء" وعمر يسمع كل ذلك، فقال: يا أسلم علم الباب، واعرف الموضع، ثم مضى في عسسه حتى أصبح، فلما أصبح، قال: يا أسلم امض إلى الموضع فانظر من القائلة ومن المقول لها وهل لهم من بعل؟ فأتيت الموضع فنظرت فإذا الجارية أيم لا بعل لها، وإذا تيك أمها، وإذ ليس لهم رجل، فأتيت عمر بن الخطاب فأخبرته، فدعا عمر ولده فجمعهم، فقال: هل فيكم من يحتاج إلى امرأة أزوجه ولو كان بأبيكم حركة إلى النساء ما سبقه منكم أحد إلى هذه المرأة، فقال عبد الله: لي زوجة، وقال عبد الرحمن: لي زوجة، وقال عاصم: يا أبتاه لا زوجة لي، فزوجني، فبعث إلى الجارية فزوجها من عاصم، فولدت لعاصم بنتا، وولدت الابنة عمر بن عبد العزيز"[12].
فعلى على المرأة المسلمة أن تقوم بواجبها المنوط بها، وأن تحتسب على أولادها، وعلى من هم تحت مسؤوليتها، وعلى بنات جنسها عامة، وعلى أقاربها الرجال، بل لها أن تحتسب على الرجال عامة مع مراعاتها للآداب المنوطة بها كامرأة.
وفق الله نساءنا وفتياتنا إلى القيام بهذه الشعيرة العظيمة، ومنحن الصبر على ذلك، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
____________________
[1] رواه مسلم(49) من حديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه-.
[2] تفسير القرطبي (14/178).
[3] تفسير القرآن العظيم(3/483) لابن كثير.
[4] معالم التنزيل(3/528).
[5] تنبيه الغافلين، ص(196).
[6] مجموع فتاوى العلامة عبد العزيز بن باز - رحمه الله -(4/240) أشرف على جمعه وطبعه: محمد بن سعد الشويعر.
[7] رواه البخاري(2409).
[8] رواه مسلم (2674) من حديث عن أبي هريرة -رضي الله عنه-.
[9] رواه مسلم (1893).
[10] رواه أبو داود (1/ 418) رقم (1308)، وحسنه الألباني في صحيح أبي داود (1304) وفي المشكاة (1230).
[11] خلط اللبن بالماء لمن يبيعه لا يجوز شرعا، وأما خلطه لمن يشربه فجائز، فقد خلط للنبي - صلى الله عليه وسلم - لبنا بماء، فشرب - عليه الصلاة والسلام -، ولم ينه عن ذلك.
[12] انظر: صفة الصفوة (2/203- 204)