تطبيقات عقود التحوط في المصارف
الإسلامية وأحكامها الشرعية
د. فضل عبدالكريم محمد البشير[*]
2/2 التحوط بضمان الطرف الثالث لرأس المال أو له وللربح معاً:
المراد بضمان الطرف الثالث إصدار تعهد من طرف أجنبي عن مدير الاستثمار، سواء كان مضارباً أو شريكاً مديراً أو وكيلا، بتحمله الخسارة التي تقع في رأس المال المستثمر، وتعويض المستثمر عن تلك الخسارة، دون أن يكون له حق الرجوع للمستثمر، أو مدير الاستثمار([39]).
وتسمية هذا التحمل ضماناً ليست دقيقة؛ لأنه ليس كفالة عن ديون، وهو في الواقع تعهد ملزم بتقديم هبة تعادل قيمة الأصول الأسمية حال تعرضها للهلاك([40]).
وضمان المال لغة أي التزامه. يقال ضمنت المال وبالمال ضماناً، فأنا ضامن وضمين، أي التزمته([41]), وقد ذكر الفقهاء عدة تعريفات للضمان؛ منها ما يفهم من كلام الغزالي أن الضمان هو واجب رد الشيء أو بدله بالمثل أو بالقيمة[42].
ولا خلاف بين الفقهاء في أن يد المضارب على رأس المضاربة يد أمانة، وأن الأصل عدم ضمانه لخسارته أو نقصانه أو تَوَاه إذا وقع ذلك من غير تعديه أو تفريط[43]. غير أنهم اختلفوا في صحة تضمينه هلاك رأس مال المضاربة، أو خسارته إذا اشترط رب المال عليه، وذلك على قولين: أحدهما لجمهور الفقهاء: من الحنفية والمالكية والشافعية في المعتمد المشهور من مذاهبهم، وهو أن هذا الاشتراط باطل لمنافاته لمقتضى العقد([44])، وقد أخذ بهذا القول مجمع الفقه الإسلامي الدولي في قراره رقم 30/5/4 على عدم جواز اشتراط ضمان رأس المال على عامل المضاربة.
وبالنسبة لضمان الطرف الثالث في المضاربة, وتطبيق ذلك في المصارف الإسلامية، فتعددت أراء العلماء والباحثين حوله منذ زمن بعيد، وما يزال الخلاف حوله قائماً حتى الوقت الحاضر, فقد ذهب محمد باقر الصدر وسامي حمود إلى القول بضمان المصرف للأموال المودعة في حسابات الاستثمار، بيد أنهما إختلافا في الضمان. فالصدر بناه على أساس التبرع من المصرف باعتباره وسيطاً بين أرباب المال والعاملين فيه([45])، وسامي حمود اعتمد في رأيه على أمرين: الأول قياسه المضارب على الأجير المشترك، والثاني على ما نقله عن ابن رشد من اتفاق جمهور العلماء على تضمين المضارب الذي يدفع مال المضاربة إلى غيره، وإلى فكرة استحقاق الربح بالضمان التي صرح بها الكاساني([46]).
كما أن حسن الأمين اقترح اقتطاع جزء من أرباح المضاربة، وأن تكون شركة تأمين تعاونية تحوطاً من احتمالات الخسارة، مستنداً في اقتراحه على قول بعض فقهاء المالكية بجواز اشتراط جزء من ربح المضاربة لغير رب المال، والمضارب فيه، لأنه من باب التبرع([47]).
كذلك تعرض منذر قحف في بحثٍ له عن سندات القراض وضمان الفريق الثالث وتطبيقاتهما في تمويل التنمية لهذا الموضوع، مجيزًا لضمان الطرف الثالث([48])، مستشهدًا بقانون سندات المقارضة الأردني الصادر برقم 10 لسنة 1981م وفق المادة الثانية عشرة التي نصها". تكفل الحكومة تسديد قيمة سندات المقارضة الاسمية الواجب إطفاؤها بالكامل في المواعيد المقررة، وتصبح المبالغ المدفوعة لهذا السبب قرضاً ممنوحاً للمشروع بدون فائدة مستحق الوفاء فور الإطفاء الكامل للسندات." وكان صدور النص المذكور بناءً على فتوى صادرة من لجنة الفتوى الأردنية بخصوص سندات مقارضة اعتزمت وزارة الأوقاف الأردنية إصدارها وقد تضمن نص الفتوى ما يلي: ([49])
جواز كفالة الحكومة لسندات المقارضة المخصصة لإعمار أراضي الأوقاف باعتبار الحكومات طرفًا ثالثًا، وذلك على أساس الوعد الملزم.
عدم الحاجة حينئذ للنص في سندات المقارضة الصادرة لهذه الغاية على أن يتحمل المكتتبون ما يصيبهم من خسارة.
ويمضي منذر قحف في تعضيد رأيه فيقول: "فنحن هنا إذن أمام شكلين من أشكال الضمان لرأس المال المستثمر في سندات القراض: ضمان يقدمه صندوق مستقل، وضمان تقدمه الدولة، وما دام القرض صحيحاً غير ربوي، والضمان يقدمه طرف ثالث، فيعد هذا الضمان جائز ومقبول. وقد لخص منذر قوله في ثلاثة أراء وفق التالي:
أولا: تمويل عملية الضمان، حيث يمكن تمويل ضمان عمليات القراض التي يقوم بها القطاع العام عن طريق طريق تخصيص جزء من أرباح جميع هيئات القطاع العام الاقتصادي لصندوق ضمان حكومي مثلاً بالنص على تخصيص نسبة معينة من أرباح القراض لصندوق هذا الضمان على رأي من أباح اشتراط جزء من الربح لطرف ثالث باعتباره من باب التبرع([50]).
ثانيا: قضية التوسع في ضمان الطرف الثالث حتى يشمل نسبة معينة من الأرباح، فشأنه شأن رأس المال من حيث الإباحة طالما أن الطرف الثالث متبرع ومستقل عن طرفي العقد، ولو كان له مصلحة في إجراء العقد.
ثالثا: هناك حاجة للضمان ومبررات اقتصادية له، سواء على المستوى العام المتعلق بالدولة، أو المستوى الخاص المتعلق بالأفراد.
وممن تعرض لهذا الموضوع بالمناقشة كذلك؛ يوسف الشبيلي، حيث بيَّنَ أن التزام طرف ثالث بالضمان على حالين:الحال الأولى: أن يكون التزام الطرف الثالث بالضمان تبرعاً فهذا جائز؛ سواء كان بنية الرجوع على العامل أم لا، بشرط أن يكون للضمان ذمة مالية مستقلة عن العامل، والأغلب أن يكون الضامن جهة حكومية. الحال الثانية: أن يكون هذا الالتزام بأجر، فإن لم يكن بنية الرجوع على العامل فهذا هو التأمين التجاري المحرم([51])، وقد رجح الباحث أن إطلاق القول بجواز أخذ الأجر على الضمان أو بمنعه فيه نظر، فيمنع أخذ الأجر على الضمان إذ آل إلى قرض؛ لما يترتب عليه من القرض بفائدة، وأما إذا كان لا يؤول إلى قرض فليس في الأدلة الشرعية ما يمنع منه ولا يترتب عليه محظور شرعي استنادا إلى ما ذكره بعض فقهاء المالكية والشافعية والحنابلة من جواز أخذ ثمن الجاه([52]).
وقد انتهى مجمع الفقه الإسلامي الدولي في دورته الرابعة في جده المنعقدة خلال الفترة من 18-23 جمادى الآخرة 1408 الموافق 6– 11 شباط (فبراير) 1988م، إلى القرار رقم: 30/3/4/1 بشأن سندات المقارضة وسندات الاستثمار ونصه:" ليس هناك ما يمنع شرعاً من النص في نشرة الإصدار أو صكوك المقارضة على وعد طرف ثالث منفصل في شخصيته وذمته المالية عن طرفي العقد بالتبرع بدون مقابل بمبلغ مخصص لجبر الخسران في مشروع معين، على أن يكون التزاماً مستقلاً عن عقد المضاربة، بمعنى أن قيامه بالوفاء بالتزامه ليس شرطاً في نفاذ العقد وترتب أحكامه عليه بين أطرافه، ومن ثم فليس لحملة الصكوك أو عامل المضاربة الدفع ببطلان المضاربة أو الامتناع عن الوفاء بالتزاماتهم بها بسبب عدم قيام المتبرع بالوفاء بما تبرع به، بحجة أن هذا الالتزام كان محل اعتبار في العقد([53]).
2/3 التحوط بالتبرع بالضمان من أحد العاقدين:
الالتزام الطوعي بالضمان المنفصل عن عقد الاستثمار هو عدم اشتراطه في العقد([54])، وذهب المالكية إلى أن صاحب يد الأمانة إذا تبرع بالتزام ضمانها بعد تمام العقد المقتضي لها فإنها تصير في يده، لأن ذلك من باب التبرع بالمعروف، وهو واجب على من التزمه في مذهب الإمام مالك([55]). وقد نقل نزيه حماد في كتاب له بعنوان "مدى صحة تضمين يد الأمانة بالشرط في الفقه الإسلامي" المنشور من المعهد الإسلامي للبحوث والتدريب نصوصاً كثيرة عن فقهاء المالكية بجواز تطوع الأمين بالتزام الضمان بعد العقد، لأن ذلك من باب التبرع بالمعروف, وهو واجب على من التزمه في مذهب الإمام مالك.
كما أشار عبد الستار أبوغدة في سلسلة كتبه بحوث في المعاملات والأساليب المصرفية الإسلامية إلى هذه الأقوال([56])، ذاكراً لنقول ثلاثة من الفقهاء هم: ابن زرب، وابن بشير، وتلميذه ابن عتاب، "قيل لابن زرب: أيجب الضمان في مال القراض إذا تطوع قابضه بالتزام الضمان ؟ فقال: إذا التزم الضمان طائعاً بعد الشروع في العمل فما يبعد أن يلزمه، ونقلوا عن ابن بشير أنه أمضى عقدا بدفع الوصي مال السفيه قراضاً إلى أجل على جزء معلوم وأن العامل تطوع بالتزام ضمان المال وغرمه. كما صحح ابن عتاب مذهب شيخه ابن بشير، ونصره بحجج كثيرة.
وقد جاء في المعيار الشرعي لهيئة المحاسبة والمراجعة للمؤسسات المالية رقم 5 بند 2/2/2 بشأن الضمانات، أنه لايجوز الجمع بين الوكالة والكفالة في عقد واحد لتنافي مقتضاهما، ولأن اشراط الضمان على الوكيل بالاستثمار يحول العملية إلى قرض بفائدة ربوية بسبب ضمان الأصل مع الحصول على عائد الاستثمار. أما إذا كانت الوكالة غير مشروطة فيها الكفالة، ثم كفل الوكيل والمضارب والشريك كل منهما، كما نص الفقهاء (المغني 5/30) وبناء عليه فإنه يجوز أن يضمن الوكيل المتعاملين معه([57]), ويرى كثير من أهل العلم أنه من الصعب قبول تجاوز الاجماع على منع ضمان المضارب أو الشريك بمجرد عقد جانب حتى ولو كان مستقلاً ورقياً إذ أن العقود تجعل مثل هذه التتفاهمات الجانبية والعقودالمستقلة أمراً معروفاً فيتم التعامل معها على أنها شروط جعلية اتفاقية وكذلك يتم تفسيرها عند التنازع ([58]).
ويمكن تلخيص اختلاف العلماء المعاصرين بشأن التزم طرف ثالث بالضمان تبرعاً، على قولين:([59] (
الأول: عدم الجواز، حيث حرم بعض الفقهاء المعاصرين ضمان رأس مال المستثمرين، سواء كان الضامن هو العامل أو طرفاً ثالثاً. مستشهدين باتفاق الفقهاء على أن الضامن إنما يصح ضمانه لما هو مضمون على الأصيل، كالقرض وثمن المبيع. وأما ما لم يكن مضموناً على الأصيل، فلا يصح ضمانه؛ مثل الوديعة، ورأس مال المضاربة. وأن ضمان الطرف الثالث ذريعة إلى الوقوع في الربا، فيحرم عملاً بقاعدة سد الذرائع. وأن الطرف الثالث إذا جاز له ضمان الأصل فيجوز له ضمان نسبة من الربح وبذلك يفتح باب الربا.
الثاني: الجواز، حيث جوز بعض الفقهاء المعاصرين التزام طرف ثالث في عقد المضاربة منفصل في شخصيته وذمته المالية عن طرفي العقد بالتبرع - دون مقابل- بمبلغ مخصص لجبر الخسران الذي قد يطرأ على أموال المستثمرين. وإلى هذا ذهب مجمع الفقه الإسلامي الدولي بجدة في دورته الرابعة، وعدد من الهيئات الشرعية في البنوك الإسلامية. استنادًا إلى عدد من الأدلة منها: حديث صفوان بن أمية t أن النبي e حين استعار منه درعاً يوم حنين، فقال: أغصب؟, فقال e لا، بل عارية مضمونة. ويقاس على العارية المال المضارب به بجامع أن كلاً منهما أمانة في الأصل. وأن التبرع في عقد المضاربة بالضمان من طرف ثالث هو بذل مثل سائر التبرعات، وإذا كان التبرع بالمال جائزاً فإن التبرع بالضمان هو أحرى بالجواز.
فإذا تبرع المضارب بتحمل الخسارة بدون أن يكون هذا شرطاً مكتوباً فلا مانع من جوازه.([60]), فإذا تم العقد مع خلوه من شرط ضمان رأس المال واشتغل المضارب بالمال وعند تصفية الشركة تبين حصول خسارة فتبرع المضارب بتحملها، فالقول بجواز ذلك له وجه، لأن هذا التبرع تم بدون إلزام أو شرط مسبق. والمفسد لعقد المضاربة عند الفقهاء أن يشترط على المضارب ضمان رأس المال عند العقد، وهنا لم يشرط ذلك عند العقد، وإنما تبرع هو بالضمان بعد أن تحققت الخسارة([61])، وقال بجواز ذلك بعض فقهاء المالكية. كما بين ذلك يوسف الشبيلي في ورقة له, منشورة عن تطبيقات الحماية البديلة عن عقود التحوط والضمان, حيث قال: جاء في حاشية الدسوقي "وأما لو تطوع العامل بالضمان ففي صحة ذلك القراض وعدمها خلاف([62])، وقاسوا جواز ذلك على ما إذا تطوع الوديع والمكتري بضمان ما بيده إذا كان هذا التطوع بعد تمام العقد([63]). وجمهور المالكية على التحريم حتى لو تطوع بالضمان بعد العقد، لأنه يكون متهما برغبته في استدراج رب المال وإبقاء رأس المال بيده([64]). وأخذت بهذا القول بعض المؤسسات المالية الإسلامية، فقد جاء في فتاوى المستشار الشرعي لمجموعة البركة الجزء 1 الفتوى رقم 44’...على أنه لا مانع من أن تكون هناك مبادرة من العميل بتحمل ما قد يقع من خسارة في حينها -لا عند التعاقد لأن ذلك من قبيل الهبة والتصرف من صاحب الحق في حقه , دون تغيير لمقتضى العقد شرعاً. فحين وقوع الخسارة دون تعدٍ أو تقصيرٍ يطبق المبدأ الشرعي بتحميلها لرب المال (البنك هنا) إلا أن يبادر العميل لتحملها ودون مقاضاته أو إلزامه , لأنه قد يقدم على هذه المبادرة انسجاماً مع اعتبار نفسه مقصراً في الواقع ولو لم تستكمل صورة التقصير في الظاهر بما يحيل الضمان عليه. فمجمع الفقه الإسلامي أجاز ضمان رأس مال المضاربة من طرف ثالث على سبيل التبرع كما ورد في القرار رقم 5 من الدورة الرابعة كما تقدم.
والرأي الذي يميل إليه الباحث هو الرأي الثاني الذي يرى جواز التزام طرف ثالث في عقد المضاربة منفصل في شخصيته وذمته المالية عن طرفي العقد بالتبرع -دون مقابل- بمبلغ مخصص لجبر الخسران الذي قد يطرأ على أموال المستثمرين لقوة حجته، ولتحقيقه عدداً من المصالح المعتبرة في تطبيقات عقود التحوط في المصارف الإسلامية.
2/4 التحوط باستخدام الوعود الملزمة المتبادلة:
إصدار الوعود المتبادلة بين البنوك والمستثمرين من الوسائل التي تتخذها بعض البنوك لتحقيق الحماية لعملائها المستثمرين بحيث يصدر وعداً ملزماً من البنك بشراء الأصول المستثمرة المملوكة للعميل في تاريخ محدد، وثمن محدد، ولكنه شراء معلق على شرط، بأن يكون ثمنها الجاري في السوق أقل من ذلك الثمن الذي التزم البنك بالشراء به، وفي المقابل يقدم العميل وعداً ملزماً بالبيع للبنك عند حلول الأجل بنفس الثمن المتفق عليه، ولكن بشرط أن يكون ثمنها في السوق أعلى من ذلك الثمن المحدد([65]).
وتظهر أهمية استخدام الوعود الملزمة المتبادلة في التطبيقات المعاصرة في المصارف الإسلامية بشكل واضح في تبادل الصرف في العملات، وفي صيغة المرابحة للآمر بالشراء، وقد تبايت أراء الفقهاء المعاصرين حول لزوم الوعد أو عدم لزومه، انطلاقا من نكول الآمر بالشراء عن تنفيذ وعده، مما يسبب إشكالية للمصرف جراء امتلاكه للسلعة التي وعد العميل بشرائها منه، لذلك فإن مصلحة المصرف تدور حول إلزامية الوعد. كذلك تتبين أهمية الوعود المتبادلة في الأسواق المالية الإسلامية، حيث يتواعد تاجر مع آخر في بيع أو شراء أو تأجير، أو تصنيع، ثم يقوم الموعود بالأخذ في إجراءات إنفاذ الوعد، فقد يفي بوعده، وقد ينكل عن ذلك، فيحصل للموعود ضرر من نكول الواعد([66]).
وفي الوعد عند الفقهاء القدامى ثلاثة آراء:الوفاء به مستحب، وهو رأي الجمهور؛ الوفاء به واجب إلا لعذر، وهو رأي ابن شبرمة وآخرين؛ الوفاء به واجب، إذا دخل الموعود في كلفة، أن يقول له: تزو ج ولك 10 آلاف ريـال، فإذا تزوج وجب عليه الوفاء بوعده. وهو رأي المالكية[67]. وقد زاد ابن منيع في كتابه بحوث في الاقتصاد الإسلامي قولين على الثلاثة التي أشار إليها رفيق المصري، هما: أن الوفاء بالوعد لازم ديانة وقضاء، إذا كان له سبب ودخل الموعود في مشكلة بسبب الوعد. وأن الوفاء بالوعد لا يلزم ديانة ولا قضاء إذا لم يكن للوعد سبب بحيث لم يتضرر الموعود من إخلاف الوعد([68]). وهذا الخلاف في الوعد المجرد خلاف منطقي ومقبول، ويدخل في باب ما يجوز فيه الخلاف ". لكن بعض الفقهاء المعاصرين قد نقلوا هذا الوعد من باب التبرعات إلى باب المعاوضات، ليحل محل العقد([69]). وعليه فإن الاتفاق الذي يتم بين المصرف والآمر بالشراء لو اعتبرناه عقدًا -عند من يرى أن المعاوضات محلها العقد دون الوعد- لتضمن ذلك محظورين، الأول: اشتمال المرابحة على عقدين، عقد بين المصرف وبائع السلعة، وعقد بين المصرف والآمر بالشراء، والشارع ينهي عن بيعتين في بيعة، والمحظور الثاني: أن المصرف الإسلامي يكون قد باع السلعة للآمر بالشراء قبل قبضها أو قبل تملكها فيكون بائعاً لما ليس عنده. أما لو اعتبرنا الاتفاق بين المصرف والآمر بالشراء وعداً ملزماً؛ فإن عملية الأمر بالشراء ستشتمل على عقد ووعد, بحيث يمتلك المصرف السلعة بالعقد، ثم بيعها بالوعد الملزم في المستقبل حسب الاتفاق، لتخلو من عقدين في عقد، كما لا يكون المصرف في بيع السلعة للآمر قد باع ما ليس عنده([70]).
وقد فرق الفقهاء بين العدة والمواعدة، حيث بَيَّنَ الحطاب هذه المسالة؛ حين تناول المواعدة في النكاح بقوله أن يعد كل واحد منهما صاحبه بالتزويج، فهي مفاعلة لا تكون إلا من أثنين، فإن وعد أحدهما دون الآخر فهي العدة([71])، ورغم أن الفقهاء قد تناولوا المواعدة في كثير من المسائل، كالمواعدة على النكاح في العدة، والمواعدة في الصرف، والمواعدة على بيع الطعام قبل قبضه، وفي غير ذلك، متفقين على عدم مشروعية بعضها، كالمواعدة على النكاح في العدة، ومختلفين في جواز بعضها الآخر، (نزيه حماد الدورة الخامسة مجمع الفقه الإسلامي ج2 ص831) كالمواعدة على الصرف إلا أن معنى الوعدالذي اعتمده الفقهاء من حيث الحكم الشرعي، يتضمن تصرفات التبرعات دون المعاوضات([72]).
يقول يوسف الشبيلي أن الحكم الشرعي يختلف بحسب نوع العلاقة بين البنك والعميل. ولا يخلو الأمر من إحدى حالتين:([73])
الحالة الأولى: أن يكون البنك وكيلاً عن العميل في الشراء، بحيث يقتصر دور البنك على كونه سمساراً عن العميل، ثم إذا تملك العميل تلك الأصول أجريا تلك الوعود المتبادلة، فلا يظهر في ذلك محظور شرعي، سواء أكان انتقال ملكية تلك الأصول إلى البنك في وقت التنفيذ بهذه الوعود أو بالبيع الآجل؛ لأن العميل يملك هذه الأصول وله بيعها نقداً أو بالأجل. ويستثنى من ذلك ما إذا كانت تلك الأصول نقوداً أو ذهباً أو فضة، فإن صرف العملات وشراء الذهب والفضة يحرم فيه النسأ.
الحالة الثانية: أن يكون البنك مديراً لاستثمارات العميل، إما بالمضاربة أو الوكالة أو المشاركة، فقد يقول: إن هذه الوعود المتبادلة جائزة؛ لأنها وعود مستقلة لا تتفق في محل واحد في زمن واحد؛ لأن أحد الوعدين معلق على شرط أن يكون سعرها في السوق أقل من مائة، والثاني معلق على شرط أن يكون سعرها في السوق أعلى من مئة، فمورد الوعدين مختلف، وبهذا فليست هذه الوعود المتبادلة من المواعدة الملزمة للطرفين التي هي بمنزلة العقد وصدر فيها قرار مجمع الفقه الإسلامي الدولي رقم (40-41).
2/5 التحوط بعقد السَّلَم بسعر السوق وقت التسليم:
عقد السَّلَم بسعر السوق وقت التسليم هو أحد الأدوات المقترحة للتحوط من المخاطر في تطبيقات المصارف الإسلامية، وتعريفه أنه سَّلَم في سلع موصوفة من غير أن تحدد كميتها، وإنما تتحدد بناء على سعرها في السوق وقت التسليم، فيعطى المشتري من السلع ما يعادل رأس ماله وربح معلوم ([74])، كأن يدفع مائة ليتسَّلَم بعد سنتين كمية من الحديد مثلاً بربح ١٠ % أي ما قيمته مائة وعشرة. فإذا كان سعر طن الحديد وقت التسليم عشرة, فتكون الكمية المستحقة أحد عشر طناً. ومن التطبيقات المعاصرة لهذه الصيغة: (بطاقات الاتصال مسبوقة الدفع) حيث يقوم العميل بشراء بطاقة مسبقة الدفع بـ 90 ريالاً يتمكن من خلالها من إجراء مكالمات بقيمة 100 ريـال مثلاً، فهي سَّلَم في المنافع وهو صحيح عند جمهور أهل العلم خلافا للأحناف([75])، والْمُسَّلَم فِيهِ هي دقائق الاتصال وهي مقدرة بالقيمة لا بالكمية، وقد تكون حالة أو مؤجلة، كما أن السَّلَم يصح حالا إذا كان البائع مالكا للسلعة، ويصبح مؤجلا([76]). فيلاحظ في هذا العقد أنه على منفعة موصوفة هي إجراء المكالمات، وعلى هذا يجري الخلاف بين الفقهاء في حكم السَّلَم بالمنافع. كذلك يلاحظ أنه لم تحدد كمية المنافع المستوفاة، وإنما يتم التحديد حسب سعر السوق، فمن المحتمل أن ترتفع أسعار المكالمات الداخلية أو الخارجية، وبالتالي تقل الدقائق (الْمُسَّلَم فِيهِ) المنتفع بها. فالمشكلة الحقيقية تظهر في مخاطر رأس المال، فالسلعة الْمُسَّلَم فِيها قد يختلف سعرها وقت التسليم عن السعر المتوقع مما قد يسبب ضررا لأحد الطرفين، وقد ظهرت هذه المشكلة بشكل واضح عند تطبيق صيغة السَّلَم في السودان([77]) مما أدى إلى استحداث ما سمي ببند الإحسان الذي يهدف إلى تخفيف الضرر عن المزارعين عند تفاوت الأسعار وقت التسليم.
اختلف الفقهاء المعاصرون حول حكم السَّلَم بسعر السوق مع تحديد مقدار الْمُسَّلَم فِيهِ يوم التسليم على قولين: الأول: عدم جواز صورة السَّلَم مع تحديد مقدار الْمُسَّلَم فِيهِ يوم التسليم،([78]).* واستدل أصحاب هذا القول بعدد من الأدلة منها: أن هذا الصيغة ذريعة يُتوصَّل بها إلى القرض بفائدة، وإلى الربا المحرم شرعاً، لأن الربح يصبح في حكم المضمون، ولا توجد مخاطرة في سعر الْمُسَّلَم فِيهِ, كما أن صيغة السَّلَم مع تحديد مقدار الْمُسَّلَم فِيهِ يوم التسليم مخالفةٌ لنص حديث ابن عباس في السَّلَم، كما أنها مخالفة لما أجمع عليه أهل العلم من اشتراط العلم ب الْمُسَّلَم فِيهِ ([79])، إضافة إلى عدم صحة نسبة القول بجواز السَّلَم بسعر السوق يوم التسليم إلى شيخ الإسلام ابن تيمية، إذ المقصود بما جاء في نص كلامه وما نقله عنه تلاميذه، إنما هو السَّلَم بسعر السوق يوم التعاقد لا السَّلَم بسعر السوق يوم التسليم. وبذلك يكون رأس مال السَّلَم –وليس الْمُسَّلَم فِيهِ- مجهولاً عند التعاقد، ولكنه يتحدد بناء على سعر السوق يوم التعاقد لا يوم التسليم([80]).
ومن الذين يرون عدم جواز السَّلَم بسعر السوق وقت التسليم فضيلة الشيخ الغرياني في ورقة له بعنوان "البيع والتأجير بالسعر المتغير" لخص فيها البيع بالسعر في كلام الشيخ ابن تيمية وربطه بالهامش المتغير، حيث قال: "الذي أشكل من عبارات الفقهاء في هذا السياق هو ما فهمه بعض المعاصرين من البيع بالسعر الذي جاء في عدة مواضع من كلام الشيخ ابن تيمية، وبنوا عليه جواز التعاقد على البيع بسعر يتحدد في المستقبل في عدد من العقود المستحدثة، كالسَّلَم بسعر السوق يوم التسليم، بل توسع البعض فأخذ منه حكماً عاماً، يُجوز ربط الأسعار بالمؤشر والهامش المتغير في ديون البيوع كالتورق والمرابحة والسَّلَم...الخ([81])، وقد ذكر فضيلته نصًا ورد في مجموع الفتاوى لابن تيمية يبين فيه أن مراد ابن تيمية ليس كما فهمه المجيزون لبيع السَّلَم بسعر السوق وقت التسليم إذ جاء فيه: "ولو اشترى سلعة لم يقطع فيها وقلنا هو بيع فاسد فإذا تعذر رد العين ومثلها ردت القيمة بالسعر وقت القبض فكما أوجبنا هنا قيمة المقبوض من العوض نوجب هناك قيمة المقبوض من الدراهم ونظيرها من كل وجه أن يكون المبيع مكيلا أو موزونا لم يقطع ثمنه لكنه مؤجل إلى حول فحين يحل الأجل إن رد حنطة مثلا لم يكن مثلا لتلك المقبوضة لاختلاف القيمة فإعطاء قيمة المقبوض وقت قبض السلعة مؤجلا إلى حين فبض الثمن أشبه بالعدل فهذا في الثمن والمثمن سواء".
وقد أورد رفيق المصري في ورقة له منشورة عن السَّلَم بسعر السوق كلاما منسوبا لشيخ الإسلام بن تيمية ورد في الاختيارات الفقهية ص131 إذ يقول: (لو أسَّلَم مقدارًا معلوماً إلى أجلٍ معلوم في شي بحكم أنه إذا حل يوم التسليم بأخذه بأنقص مما يساوي (في السوق) بقدر(مبلغ) معلوم، صح كالبيع (أي بسعر السوق, الاختيارات الفقهية وهذا في السلع المثلية أي القابلة للوصف وصفا يمنع الجهالة المؤدية للنزاع، خلافا للسلع القيمية. واستدلوا بأن البيع إذا فسد عند الفقهاء ردوه إلى سعر المثل، دون رضا المتبايعين، فإذا تراضيا عليه كان هذا أولى بالجواز. وربما يضاف إلى هذا أن سعر السوق(سواء في يوم التسليم أو في يوم العقد) ليس هو السعر الذي يتفق عليه المتبايعان، فهذا غير جائز لأنه يؤدي إلى النزاع، فالبائع يزيد والمشتري ينقص، ولكنه السعر الذي يتحدد في السوق بمعزل عن إرادتهما ورغبتهما, وعليه فإن سعر السوق في السَّلَم إذا كان المقصود به سعر يوم العقد، فإني أرى جوازه مع ابن تيمية، لكن إذا كان المقصود به سعر السوق المستقبلي يوم التسليم فهو غير جائز([82]).
والثاني: جواز صورة السَّلَم بسعر السوق يوم التسليم، وقد أجازه بعض العلماء خلافاً للجمهور واستدلوا بأدلة منها: أن صيغة(السَّلَم مع تحديد مقدار الْمُسَّلَم فِيهِ يوم التسليم) تعامل يؤول إلى العلم، فلا تعارض بين هذا الصيغة، وبين ما يجب تَوفُّرهُ في عقد السَّلَم من العلم ب الْمُسَّلَم فِيهِ, إضافة إلى القياس على البيع بالسعر، وحجتهم في ذلك أن هذا الاستدلال هو الذي ذكره ابن تيمية في عبارته على التسليم بأن مقصوده في ذلك هذه الصيغة([83]). وقد أخذت بهذا الرأي أمانة الهيئة الشرعية بشركة الراجحي.
وقد تجلت هذه الخلافات بشكل واضح في الملتقى الذي نظمه بنك البلاد حول هذا الموضوع وفق التالي:
القول بأن شيخ الإسلام يعتبر أن السَّلَم بسعر السوق هو ثمن المثل عند التعاقد؛ هو محل نظر، وإنما سعره وقت التسليم. ومن ذهب إلى هذا الرأي كل من الأطرم، العمار، اللحيدان.
كلام ابن تيمية الذي يحتج به في المسألة فيه قدر من الغموض والاضطراب، ومن العجب أن يحتج به في مخالفة النص ومن قال بهذا الرأي محمد القري.
لا يصح التنظير بمسالة السَّلَم المستشهد بها، فهي متعلقة بالمبيع من حيث مقداره، ومن تأملها وجد أنها تشير إلى جمع صفقتي سَّلَم في عقد واحد بعبارة واحدة ومن قال هذا الرأي عبد الستار أبو غدة.
هناك بعض النظر في إلحاق المسألة بالسَّلَم بسعر السوق، حيث تتعلق فيها الجهالة بالثمن وفيه بالمثمن، والفقهاء قد يخففون في جهالة الثمن ما لا يخففون في جهالة المثمن ومن قال بهذا الرأي اللحيدان.
والرأي الذي يميل إليه الباحث هو عدم جواز السَّلَم بسعر السوق يوم التسليم لقوة حجته. ولعدم صحة القول المنسوب إلى شيخ الإسلام ابن تيمية، وفقًا للنصوص المشار إليها.
يتبع