المنطقُ والخِطابُ والاستدلالُ الشرعيُّ في القرآن
بشار بكور

كثيرًا ما يستشهد المسلمون بآيات من القرآن الكريم لدعم رأي ما في الفقه أو العقيدة أو في مجالات أخرى شرعيةً كانت أم غير ذلك. لكن السؤال: هل فكر المسلمون في الطريقة التي يعرض فيها القرآن الكريم مبادئه وقضاياه بوصفها نتائجَ صادرة عن حجج محكمة ومنطقية؟ هل كان منهم اهتمامٌ بالوقوف على المنطق والجدل في القرآن الكريم؟ نعم، كان هناك اهتمام وعناية بهذا الموضوع، لكنه- مقارنة مع العديد من الموضوعات في الدراسات القرآنية- لم يحظَ بالقدر الذي كان يستحقه، ومن أشهر الكتب التي تناولت موضوع الجدل في القرآن، كتاب حجة الإسلام، الإمام الغزالي (توفي 505هـ) «القسطاس المستقيم: الموازين الخمسة للمعرفة» (1)، وكتاب «استخراج الجدال من القرآن الكريم» لعبدالرحمن بن نجم بن عبدالوهاب، المعروف بابن الحنبلي (توفي 634هـ) (2).
وقد أشار بدرالدين الزركشي إلى جدل القرآن في «البرهان في علوم القرآن» (3) وكذلك السيوطي في «الإتقان في علوم القرآن» (4).
ومن الكتب المتميزة التي عُنِيت بجدل القرآن كتابُ «المنطقُ والخطابُ والاستدلال الشرعيُّ في القرآن.
Logic ,Rhetoric, and Legal Reasoning in the Qur’an: God’s Arguments Rosalind Ward Gwynne, للباحثة روزاليند وارد غوين، نشر روتلج: لندن- نيويورك، عام 2004، 251 صحيفة.
والمؤلفة أستاذ مساعد في الدراسات الإسلامية في قسم الدراسات الدينية في جامعة تينيسي The University of Tennessee وقد اتخذت من كتاب الغزالي المذكور آنفًا قاعدةَ انطلاق ثم بنت عليها تفصيلات وفروعًا ينظمها ناظم المنطق والجدل القرآني.
وجدت أن القرآن قد استعمل أكثر من ثلاثين نوعًا من البراهين والحجج الصريحة والضمنية، بعناصرها وطرائقها: حجج ذات مقدمات ونتائج، الأوامر التي تدعمها التسويغات، السوابق واللواحق، النتائج المأخوذة من الاستدلال المبني على الحكم، المقارنات والاختلافات، وغيرها.
تقول المؤلفة عند حديثها عن آيات الله (أي: علاماته) إن الآية ليست في حد ذاتها جدلًا، إنما هي نوع من الأدلة التي تدعم أنواعًا مختلفة من الجدل، صريحًا كان أم ضمنيًّا. فـ«آيات الله» في القرآن هي أجزاء من الأقيسة، والسنن التاريخية، والقصص، وأصناف أخرى من البراهين.
وقسمت المؤلفة الكتاب إلى أحد عشر فصلًا: يحلل الفصل الأول عناصرَ العهد بين الله والبشرية، والعلاقة التي تعد المفتاح المنطقي للبرهان المستعمل في النصوص المقدسة في الشرائع الإبراهيمية.
ويشرح الفصل الثاني طريقتين يستعملهما القرآن لإثبات صحة مقدمات العهد: الأولى هي تقديم الكثير من الآيات الإلهية بوصفها دليلًا على القدرة المطلقة لله تعالى. والثانية عرض أحداث من الماضي، مثل إرسال الكتب السماوية والأنبياء، بوصفها سننًا إلهية، ولذا هي ملزِمةٌ للبشرية.
ويتناول الفصل الثالث مبدأ السنة الإلهية أو سنة الله.
وفي الفصل الرابع، يرى القارئ كيف يستعمل القرآن العهدَ وآيات الله والسنة الإلهية بوصفها حقائق معروفة لبناء حجج مركبة، ضمنية وصريحة.
ويميز الفصل الخامس بين القواعد والقوانين، ويظهر كيف أن القرآن يترجم القواعد والأوامر الإلهية إلى قوانين تنطبق على البشر.
أما الفصل السادس فيحلل حججًا تعتمد قوةُ دليلها على المقارنة، بمظهريها الإيجابي والسلبي. ويتناول السابع موضوعَ الاختلاف، مثل الاختلاف بين الله ومخلوقاته.
أما الفصلان الثامن والتاسع فيلجان حقلَ المنطق الكلاسيكي؛ إذ يتناولان تحليلات للحجج التي قام بها الغزالي ونجم الدين الطوفي، وتطبيقاتها على مجموعة من الآيات القرآنية، مع عرض أمثلة من القياس الشرطي والمنفصل.
ويشير الفصل العاشر إلى أمثلة متنوعة من النقاشات والحوارات التي دارت بين الأنبياء وقومهم ليثبت أن القرآن يجمع بين أشكال متنوعة من الحجج لدعم تعاليمه، وتوضيح وسيلة النقاش وأدبه، ولدحض حجج الخصم.
أما الفصل الحادي عشر فيقدم نتائج دراسة الكتاب.
أمثلة
من الأساليب المنطقية التي يستعملها القرآن، الجدل بطريق الأولى أو الأحرى، كقوله تعالى: {لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} (غافر: 57) وقوله: {أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاء بَنَاهَا} (النازعات: 27) الله تعالى قادر على خلق السموات والأرض، وخلق السموات والأرض أكبر من خلق البشر، إذن الله تعالى قادر على خلق الناس، وإذا كان الله قادرًا على خلق الناس فلأن يكون قادرًا على إحيائهم بعد موتهم أولى. قال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السموات وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (الأحقاف: 33). {وقَالُواْ أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا. قُل كُونُواْ حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا. أَوْ خَلْقًا مِّمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَن يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَن يَكُونَ قَرِيبًا}. (الإسراء: 49-51).
قوله تعالى {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاء اللّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم بَلْ أَنتُم بَشَرٌ مِّمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ وَلِلّهِ مُلْكُ السموات وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} (المائدة: 18) لو كانت اليهود والنصارى أبناء الله كما يزعمون فلم يعذبهم الله إذن؟ فالبنون لا يعذّبون، وأنتم معذبون؛ إذن أنتم لستم أبناء الله كما تدّعون.
- قال تعالى: {قُلْ يَأَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِن زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاء لِلَّهِ مِن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ. وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ } (الجمعة: 6-7) ادّعى اليهود أنهم أولياء الله. ومعلوم أن الولي إنما يتمنى لقاء وليّه، واليهود لا يتمنون الموت الذي سوف يتيح لهم لقاء الله، إذن هم ليسوا أولياء الله.
- قال تعالى: {وَمَا قَدَرُواْ اللّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُواْ مَا أَنزَلَ اللّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاء بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِّلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُم مَّا لَمْ تَعْلَمُواْ أَنتُمْ وَلاَ آبَاؤُكُمْ قُلِ اللّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ} (الأنعام: 91) إن قولهم بنفي إنزال الوحي على البشر باطل.. (1)لأن موسى إنما هو بشر، وهذا أمر متفق عليه. (2) وقد أُنْزِل عليه كتابٌ باعترافهم، لأنهم كانوا يخفون بعضه ويظهرون بعضه. فيلزم من هذين الأصلين أن بعض البشر قد أنزل عليه الكتاب، فبطلت دعواهم.
- قال تعالى: {وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّامًا مَّعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ اللّهِ عَهْدًا فَلَن يُخْلِفَ اللّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} (البقرة: 80) يا مَن تدّعون بأن مَسَّ النار لكم إنْ هو إلا أيام معدودة، إمّا أن لديكم عهدًا من الله بهذا أو أنكم تقولون على الله ما لا تعلمون. أما وإنّه ليس لديكم عهدٌ من الله بهذا فأنتم تقولون على الله تعالى ما لا تعلمون.
- قال تعالى: {قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُم مَّن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّيَ إِلاَّ أَن يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} (يونس: 35) إما أن الله يهدي إلى الحق أو آلهتكم تهدي إلى الحق. والله هو الذي يهدي إلى الحق، إذن آلهتكم لا تهدي إلى الحق.
ثلاثون نوعًا من البراهين والحجج الصريحة والغنيمة في القرآن
باحث شرعي


الحواشي

(1) قرأه و علق عليه محمود بيجو- المطبعة العلمية: دمشق 1993.
(2) حقق الكتاب زاهر بن عواص الألمعي، مؤسسة الرسالة: بيروت 1980.
(3) النوع الثالث والثلاثون 2/ 24- تحقيق محمد أبوالفضل إبراهيم- دار المعرفة: بيروت ط2-1972.
(4) النوع الثامن والستون 2/ 1054- تحقيق مصطفى البغا. دار ابن كثير: دمشق- بيروت- 1987.