أثر حروف المعاني في تعدد المعنى*
ـــ د.عرابي أحمد 1
إذا دل الحرف على معنى في غيره يسمى حرف المعنى، وهو ما أطلقه النحويون على هذه الحروف، ولها صلة وطيدة بفهم المعاني واستنباط الأحكام من نصوص القرآن الكريم، بطريق الاجتهاد أو التأويل، لأن كثيراً من القضايا الدلالية والمسائل الفقهية يتوقف فهمها على فهم الدلالة التي يؤديها الحرف في النص، وسميت حروف معان لهذا الغرض، لأنها تصل معاني الأفعال إلى الأسماء، أو لدلالتها على معنى، وقد اختلف النحاة وعلماء الأصول وعلماء الكلام في وظائف هذه الحروف كقواعد نحوية ودلالات لغوية على الأحكام الفقهية والعقائدية، "وهي تعامل معاملة اللفظ في الجملة من حيث الدلالة فمنها ما يكون مستعملاً في الحقيقة ومنها ما يكون مستعملاً في المجاز وغيره" (2).
والأصل في معرفة دلالة هذه الحروف، هو التأمل في الكلام والأصل من الكتاب والسنة والرجوع إلى الأصول، وذكر السيوطي هذه الحروف تحت عنوان: "الأدوات التي يحتاج إليها المفسر" فقال: "وأعني أن معرفة ذلك من المهمات المطلوبة لاختلاف مواقعها ولهذا يختلف الكلام والاستنباط بحسبها" (3).
قد تؤدي دلالة الحرف في النص إلى الاختلاف في الحكم، من ذلك قوله تعالى:
(وَلْتَكُن مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُون( (4)، فقوله تعالى: "منكم" فيه حرف جر "من" وقد احتملت دلالتين: إما التبيين أو التبعيض، وكلاهما تحتاج إلى أدلة للترجيح، فقال الزمخشري: "من للتبعيض لأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من فروض الكفايات، ولأنه لا يصلح له إلا من علم المعروف والمنكر، وعرف كيف يرتب الأمر وإقامته وكيف يباشر، فإن الجاهل ربما نهى عن معروف وأمر بمنكر.." (5).
وقال الرازي (6) : "إنها للتبيين، واستشهد بنص آخر كقرينة صارفة وهي قوله تعالى:
(كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ، تَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ( (7) ، وهو ما من مكلف إلا ويجب عليه أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، حيث يجب عليه أن يدفع الضرر عن النفس، ومن هذا قوله تعالى: (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ( (8) .
وكقولهم: إن لفلان من أولاده جنداً وللأمير عسكراً، يريد بذلك جميع أولاده وغلمانه لا بعضهم، وهناك من يرى دلالتها على المعنيين، فإن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإن كان واجباً على الكل، إلا أنه متى قام به قوم سقط التكليف على الباقين" (9) .
وقال الزمخشري بدلالتها على التبعيض واعتمد على الحجج التالية: "إن في الأمة من لا يقدر على الدعوة ولا على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مثل النساء والمرضى والعاجزين" (10).
"إن هذا التكليف خاص بالعلماء بدلالة القرائن التي اشتمل عليها النص وهي:
الأمر بثلاثة: الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ومعلوم أن هذه الأشياء مشروطة بالعلم والحكمة والسياسة، ولا شك أن هؤلاء العلماء هم بعض الأمة وهناك من أضاف التقوى والقدوة الحسنة، وأن هذه مهمة الأنبياء قبل العلماء، لقوله تعالى: ( اُدْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالحِكْمَةِ وَالمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ) (11).
وذكر ابن هشام (12) معانيها ومنها التبعيض نحو قوله تعالى: (مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ الله( (13)، وعلامتها إمكان سد "بعض" مسدها كقراءة عبد الله بن مسعود (حَتَّى تُنْفِقُوا بَعْضَ مَا تُحِبُّونَ( (14)، "وهذا يعني أنه اختلف في دلالتها وهي تعامل معاملة اللفظ ودلالتها متأثرة بالسياق الذي ترد فيه، إلا أن التحكم في السياق ليس بالأمر الهين، وهذا هو السر فيما وقع من خلافات بين العلماء في دلالة هذه الحروف. "حتى إن بعض الزنادقة تمسك بقوله تعالى: (وَعَدَ الله الذِيْنَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَات مِنْهُمْ مَغْفِرَةً( (15)، في الطعن على بعض الصحابة باعتبار أن "من" هنا للتبعيض، وهي في الحق للتبيين أي الذين آمنوا هم هؤلاء. ومثل هذا قوله تعالى: (الذِيْنَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ القَرْحُ، لِلذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوا أَجْرٌ عَظِيْم( (16)، وكلهم متق ومحسن، ومنه قوله تعالى: (وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ ليَمَسنَّ الذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ( (17) فالمقول عنهم ذلك كلهم كفار" (18).
ونحن كلما حاولنا أن نفهم معنى في نص محتمل الدلالة وجدنا أنفسنا مضطرين إلى ما يسمى: انضمام القرينة التي تجعلنا نفهم معنىً قصدَه المتكلم أو صاحب الشرع وهذه القرينة قد تكون مصاحبة للنص أو خارجة عنه.
ونحن نتعامل مع هذه الحروف كمورفيمات حسب مصطلح المحدثين وما تتركه من أثر على معنى الكلام، ففي قوله تعالى: (ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ( (19)، فهل تدخل الغاية في الحكم أم لا؟.
إن دخولها وعدَمه في الغاية لا بد أن يحدده ما يصحبها من قرينة، فإن الصيام في الآية لا يتناول الليل، وإنما يمتد حكم الصيام إلى الليل، إذ لو دخل لكان وصالاً منْهياً عنه بنصوص أخرى وهي قرائن موجهة لدلالتها على عدم دخولها في الغاية وقد تدل على الدخول في الغاية مثل قوله تعالى: (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ( (20)، وجاءت لفظة المرافق مقيدة لكلمة اليد، وهي هنا من رؤوس الأصابع إلى المرفقين، لأن مفهوم اليد قد يكون من رؤوس الأصابع إلى الإبط، وهذا مما كانت تفهمه العرب من اليد.
فتكون فائدة ذكر الغاية علي إسقاط ما وراء المرفق من حكم الغسل، فإلى المرافق غاية للترك لا للغسل، وإذا احتملت الحروف إحدى الدلالتين، بما يأتي به من أدلة، فقد تحتاج هي الأخرى إلى أدلة وبراهين، وهكذا إلى ما لا غاية له، ويضاف إلى ذلك أيضاً ظاهرة الإبدال في هذه المورفيمات، وكمثال على قوله تعالى: (وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ( (21)، زعم بعضهم أن الباء هنا للتبعيض، تقول العرب مسحت رأسي ومسحت برأسي، فلم يبق فرق إلا التبعيض، ليس كذلك بل يقول: (مسح) له مفعولان يتعدى لأحدهما بنفسه والآخر بالباء، ولم تخير العرب بين المفعولين في هذه الباء، بل عينتها لما هو آلة للمسح، فإذا قلت: مسحت يدي بالحائط فالرطوبة الممسوحة على يدك، وإذا قلت مسحت الحائط بيدي فالشيء المزال هو على الحائط ويدك هي الآلة المزيلة" (22).
والقاعدة الصارفة لما ذهب إليه الإمام القرافي آنفاً، هي أن الشارع الحكيم أمرنا أن ننقل رطوبة الأيدي للرأس وأعضاء الوضوء ولم يوجب علينا إزالة شيء عن رؤوسنا وأعضائنا، وعلى ذلك يكون الرأس آلة تزيل الرطوبة عن اليد لا العكس وعليه تكون للتعدية، لأنها لا تكون للتبعيض إلا حيث يتعدى الفعل بنفسه، وقدر بعضهم دلالة المورفيم (ب) على التبعيض ومنهم ابن العربي القاضي حيث قال: "إذا قلت حلقت رأسي، اقتضى في الإطلاق العرفي الجميع، وإذا قلت مسحت الجدار أو رأس اليتيم اقتضى البعض، لأن الجدار لا يمكن تعميمه بالمسح حساً، ولا غرض في استيعابه قصداً، ورأس اليتيم لأجله الرأفة، فيجزي منه أقله بحصول الغرض به، ونقول: مسحت الدابة فلا يجزي إلا جميعها لأجل مقصد النظافة فيها، وكذلك الرأس كله فتؤكده، ولو كان يقتضي البعض لما تأكد بالكل، فإن التأكد لرفع الاحتمال المتطرق إلى الظاهر في إطلاق اللفظ" (23).
وقال القرطبي (ت 671ه*): "ومما يرد التبعيضية على الباء أن قوله "امسحوا" يقتضي ممسوحاً به، والممسوح الأول هو المكان، والممسوح الثاني هو الآلة بين المسح والممسوح كاليد، فجاءت الباء لتفيد ممسوحاً به، وهو الماء فكأنه قال: فامسحوا برؤوسكم الماء، من باب المقلوب، والعرب تستعمله (24)، فكل هذه السياقات عامة ومختلفة تنضم إلى النص لهدم دلالة ما وإقامة أخرى مقامها، وهذا يقتضي من الواقف أمام النص أن يكون ملماً بما لا يحصى من النصوص وكلام العرب لكي يفهم دلالة لفظة واحدة؟ لعل هذا هو الذي جعل عمر بن الخطاب –رضي الله عنه –يقول: لا يقرأ القرآن إلا عالم باللغة العربية.
ونفهم مما سبق أن هذه المورفيمات لا تدل إلا مع القرينة، فليس لها جهة من جهات المعنى لا مجازاً ولا حقيقة، وينطبق هذا مع اللفظ أيضاً فضلاً عنها.
ففي قوله تعالى: (ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ( (25)، إن الله تعالى لا يوصف بالذهاب مع النور، فأولت بأنه يجوز أن الله تعالى وصف نفسه بالمجيء في قوله: (وَجَاءَ رَبُّكَ( (26) وهذا ظاهر البعد، ويؤيدهُ أن باء التعدية بمعنى الهمزة قراءة "أذهب الله نورهم" وهذه المصطلحات الدلالية لحروف المعاني، كثيراً ما تستبدل بمصطلحات أخرى، لأن الأولى لا تناسب السياقات القرآنية، فقد قالوا: إن من معاني الباء: الاستعانة، وهي داخلة على الفعل، بسم الله الرحمن الرحيم (27).
وقالوا: "إن الباء هنا للسببية، وهي عندهم الداخلة على صالح للاستفادة به عن فاعل معداها مجازاً (28) نحو قوله تعالى: (فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ( (29) فلو قصد إسناد الإخراج إلى الهاء لحسن، ولكنه مجاز، قال: ومنه: كتبت بالقلم وقطعت بالسكين. ومن هنا دل المورفيم على المجاز، والنحويون يعبرون عن هذه الباء بالاستعانة ولكنهم آثروا على ذلك التعبير بالسببية من أجل الأفعال المنسوبة إلى الله تعالى، لأن استعمال مصطلح السببية يجوز، أما استعمال مصطلح الاستعانة فلا يجوز على الله، وتعدد المصطلحات للمورفيم الواحد هو إتيانه في القرآن الكريم بهذه الدلالات التي يحددها السياق الذي يقلب الحرف بحرف آخر حسب اختلاف دلالة السياق إذا تعددت المعاني للحرف الواحد، فمن أخذ دلالة هذه الحروف على ظاهرها، قال: نصف الله بما وصف به نفسه، وهو عندي هروب من التأويل، ومن أول أعطاها دلالة أخرى حسب الاستعمال وهو الأقرب والأصوب.
وقال الزمخشري في تفسيره لهذه الآية: "قلت: المعنى أنه جعل الماء سبباً في خروج الثمرات ومادة لها كماء الفحل في خلق الولد، وهو قادر على أن ينشئ الأجناس كلها بلا أسباب ولا مواد... ولكن لـه في ذلك حِكَم ودواع... وعبر وأفكار صالحة... وسُكون إلى عظيم قدرته وغرائب حكمته"(30).
وقد تعرض الزمخشري لدلالة "مِنْ" في قوله تعالى:"... من الثمرات" واعتبر دلالتها على التبعيض، ومن القرائن المنفصلة عن النص، والتي تصرف دلالتها إلى التبعيض قوله تعالى: (لَهُ فِيْهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ( (31) وقوله تعالى: (فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ( (32)، ولذا قيل إن اللفظ قد يحدث له مع التركيب حكم لم يكن قبل ذلك، وهذا الحكم الدلالي، تتحكم فيه القرائن الشرعية والعقلية، والدليل على ذلك أن اعتبار اللفظ أو الحرف على ما وضع له أَوَّلاً، لا يسعفنا في كثير من النصوص، فلا بد والحال هذه أن نلجأ إلى ما يسمى عند المحدثين بالاستبدال الدلالي، وأطلق النحاة القدامى عليه المجاوزة، ولعلهم يعنون بها المجاز، فتكو ن "مِنْ" بمعنى "عن" كقوله تعالى: (أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ( (33) أي عن جوع والجوع لا يطعم منه، وقوله تعالى: (فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللهِ( (34)، أي عن ذكر الله، ولذا قرئ: عن ذكر الله، وهذا دليل على أن القراءات في غالبها، وهذا في الدلالة طبعاً، لم تخرج عن الدلالة النحوية، قال الزمخشري: "ما الفرق بين "مِنْ" وَ"عَنْ" في هذا؟ قلت: إذا قلت: قسا قلبه من ذكر الله فالمعنى ما ذكرت من أن القسوة من أجل الذكر وبسببه، وإذا قلت عن ذكر الله، فالمعنى غلظ عن قبول الذكر وجفا عنه، ونظيره: سقاه من العيمة أي من أجل عطشه، وسقاه عن العيمة، إذا أرواه حتى أبعده عن العطش" (35).
ولو لم نلجأ إلى قاعدة الإبدال لما استقام المعنى مع المورفيم "مِنْ" التي تعني أن ذكر الله سبب إلى قساوة القلوب، مع أننا نعلم أن ذكر الله سبب لحصول النور والهداية والاطمئنان، ألا بذكر الله تطمئن القلوب؟! فمنهم من أجاب عن الإشكال الدلالي باللجوء إلى ظاهرة التبدل الدلالي، ومنهم من ترك النص على ظاهره، وأوَّلَ تأويلاً يتناسب مع الحرف المستعمل "من" فقد قال الرازي: "إن النفس إذا كانت خبيثة الجوهر بعيدة عن مناسبة الروحانيات شديدة الميل إلى الطبائع البهيمية والأخلاق الدميمة، فإن سماعها لذكر الله يزيدها قسوة... والدليل على ذلك، أن الفاعل الواحد قد تختلف أفعاله بحسب اختلاف القوابل، فحرارة الشمس تلين الشمع وتعقد الملح، وقد نرى إنساناً واحداً يذكر كلاماً واحداً في مجلس واحد فيستطيبه واحد ويستكرهه غيره، وما ذاك إلا لاختلاف جواهر النفوس...."
"... فإذا عرفت هذا لم يبعد أن يكون ذكر الله يوجب النور والهداية والاطمئنان في النفوس الطاهرة، ويوجب القوة والبعد عن الحق في النفوس الخبيثة الشيطانية" (36)، وهناك من لجأ إلى قياس الآية على كلام العرب من قولهم، حدثته من فلان، أي عن فلان، ومثَّل له ابن مالك بنحو: "عدت منه وأتيت منه، وبرئت منه، وشبعت منه، ورويت منه" (37).
ولكن الرازي حاول تفسير دلالة الحرف بحيث وجد لها تخريجاً ناسب ظاهر النص على ما هو عليه، أي بدون استبدال "مِنْ" بِ "عَنْ"، وهذا في اعتقادي حسن، وبذلك جنب نفسه التحريف، وهو يحافظ بذلك على ظاهر النص ولا يتصرف فيه، ولكن حتى الذين تصرفوا قالوا بأن "من" بمعنى "عن" إن خرجوا في الظاهر عن ظاهر النص، إلا أنهم لم يخرجوا عن شائع عبارات العرب، إذ لا سبيل إلى فهم كتاب الله فهما صحيحاً ومعرفة مقاصده معرفة سليمة، إلا بالعودة إلى سننهم في كلامهم، وهي التي استقى منها القرآن ألفاظه، لأن هناك من الكلام ما لا ينجلي إلا بالسماع، وعليه فإن استبدال بعض الحروف ببعض أيضاً من كلامهم، والتأويل على هذا الأساس صحيح هو الآخر.
وإذا سألنا لماذا استعمل القرآن الكريم الحرف بدل الآخر، كان الجواب، هكذا تكلمت العرب أو هكذا أراد الله أو هما معاً، إذ القرآن كلام الله على عادة العرب وعرفهم، وعليه فإن السؤال بالصيغة العقلية لماذا قال كذا ولم يقل هكذا؟ لم يعد ذا معنى، ولا يعني هذا أن التأويل يتميز بالعبثية وعدم الانضباط، بل إن التأويل له قوانين تحكمه، وقد سماها أبو حامد الغزالي: "شروط التأويل" وعلى رأسها معرفة اللغة العربية والنحو على وجه ما تعارف العرب عليه، وطرقهم في التمييز بين صريح الكلام وظاهره، ومجمله وحقيقته ومجازه وعامه وخاصه وَمحكمه ومتشابهه ومطلقه ومقيده ويكتفى من ذلك كله بالقدر الذي يتسنى معه الإحاطة بعناصر النص الديني..." (38).
وهذه التأويلات احتمالات، وهي تخضع كلها إلى قواعد كلام العرب، ففي قوله تعالى: (يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ ويُجِرْكُم مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ( (39).
وقال ابن هشام الأنصاري "إن من" ههنا زائدة والتقدير: "يغفر لكم ذنوبكم وقيل بل الفائدة فيه أن كلمة "من" ههنا لابتداء الغاية، فكأن المعنى أنه يقع ابتداء الغفران بالذنوب" (40)، وقال الزمخشري: "إنما بعض المغفرة لأن من الذنوب ما لا يغفره الإيمان كذنوب المظالم ونحوها" (41).
وما أطلقه ليس بصحيح، وهو قوله: إن الإيمان لا يغفر المظالم. لأن الكافر إذا أسلم وحسن إسلامه يجبُّ الإسلام عنه إثم ما تقدم بلا إشكال.
وتعتبر ظاهرة الإبدال التي رأيناها في القرآن الكريم ظاهرة مخالفة لمعيارية اللغة، لأن هذه المعايير حددت على أساس نصوص مختارة من الشعر والنثر، وهذا يعني من الوجهة النظرية أنه لا بد من وجود فروق بين النظام اللغوي "المعيار" وظواهر الاستعمال اللغوي، فإذا كان المجاز هو كسر العلاقة العرفية بين اللفظ والمعنى الذي وضع له في الأصل، "فإن ظاهرة إبدال الحروف كسر هو الآخر للعلاقة التي بين الحرف والمعنى الذي وضع له في أصل كلامهم، إلا أن النحاة القدامى أطلقوا على هذه الظاهرة مصطلح "الاتساع" وهو من سنن كلامهم، وبالتالي لا يخرج عن معيارية اللغة، والاتساع ينتج عن تبادل الوظائف النحوية، ويعد ذلك عندهم من الرخص الكلامية، مقابلة للرخصة عند الفقهاء، وقد أعطاه النحاة مصطلح التضمين وهو ما يقابل مصطلح "الاتساع" عند البلاغيين" (42).
فحروف الجر التي يحل بعضها محل بعض قد تغير دلالة التركيب، وقد يبقى المعنى على ما هو عليه في الأصل، والحكم تحدده مقتضيات السياق وقد أطلق المحدثون عليها: "تبادل الوظائف الدلالية" وهذه ظاهرة عامة في الاستخدام العربي وهو نوع من أنواع إبداع اللغة وواحدة من صورها، وهي أيضاً من الوظائف النحوية الناشئة عن اتساع في استخدام الوحدات اللغوية لتؤدي المعاني المختلفة سواء في البلاغة أو في النحو أو في اللغة" (43).
إن لعلماء الكلام وأهل التأويل، موقفاً خاصاً وهم يتعاملون مع هذه الظاهرة اللغوية، وخاصة في القرآن الكريم، لأن الاقتصار عليها عندهم قد يؤدي إلى الغلط فالتأويل لا بد منه، وهو مطلب ضروري في النظر إلى معاني القرآن الكريم، وهذا بعد تحكيم العقل والسماع، لأن العملية التأويلية تتطلب هذه الشروط بالإضافة إلى تحكيم الرأي والعقل الذي لا يتعارض مع السماع، وذلك بهدف البحث عن النواحي الداخلية أو الباطنية للنص ذاته، لتصل في النهاية إلى تحقيق الارتباط بين المنقول والمعقول والمشروع معاً، لأن النص إذا أدى آخذه على الظاهر إلى المحال أو الاستحالة العقلية أو الشرعية، يجب حينئذ إزالة هذا المحال ومعالجته بالتأويل بحثاً عن دلالة داخلية سعياً إلى الوصول ما أمكن إلى حقائق المعاني المتوخاه من النص، وهذا ما حاول علماء الكلام أن يحققوه خلال ما بذلوه من جهود في تأويل نصوص القرآن على خلاف بينهم طبعاً، وهذا الخلاف ناتج عن الاختلاف في اعتماد القرائن الموجهة.
وقد يذهب المتأمل في النص القرآني وفي ذهنه عقيدة يريد أن يثبتها ولا يريد أن يتجافى عنها، وإذا عارضه ظاهر النص اضطر إلى التأويل، فالزمخشري وهو يفسر قوله تعالى: (أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ( (44).قال: "من السماء" فيه وجهان أحدهما: من ملكوته
في السماء لأنها مسكن ملائكته ثم عرشه وكرسيه واللوح المحفوظ، ومنها تنزل قضاياه وكتبه وأوامره" (45).
الثاني: أنهم كانوا يعتقدون التشبيه وأنه في السماء وأن الرحمة والعذاب ينزلان منه، وكانوا يدعونه من جهتها فقيل لهم على حسب اعتقادهم، "أأمنتم" من تزعمون أنه في السماء وهو متعال عن المكان أن يعذبكم بخسف أو حاصب" (46).
فخالف الزمخشري في تأويل ظاهر الآية لكي ينزه الله عن الجهة والمكان وفي الحقيقة أن هذا التأويل يتفق فيه بعض المفسرين فقد قال الرازي: "... كانت العرب مقرين بوجود الإله لكنهم كانوا يعتقدون أنه في السماء على وفق قول المشبهة، فكأنه تعالى قال لهم: "أتعلمون من قد أقررتم بأنه في السماء واعترفتم له بالقدرة ما يشاء أن يخسف بكم الأرض، أو تقدير الآية من في السماء سلطانه وملكه والغرض من ذكر السماء تفخيم سلطان الله وتعظيم قدرته، كما قال: "وهو الله في السماوات وفي الأرض"، أي نفاذ أمره وقدرته وجريان مشيئته في السماوات وفي الأرض أو يكون المراد "من السماء" هو الملك الموكل بالعذاب وهو جبريل عليه السلام، والمعنى أن يخسف بهم الأرض بأمر الله وإذنه" (47).
ومن الأدلة التي يعتمد عليها لرد هذا التأويل الذي ذهب إليه الرازي، أنه قال: "من في السماء" وهي للعاقل، وحملها على الملك أو العذاب هو إخراج للفظ عن ظاهره بلا قرينة تستدعي ذلك، بل إن هناك مجموعة من القرائن تدل على إثبات العلو لله تعالى منها قوله تعالى: (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الكَلِمُ الطَّيِّبُ...( (48) فهو صريح أيضاً في صعود أقوال العباد وأعمالهم إليه يصعد بها الملائكة.
وأخبر موسى فرعون الطاغية بأن إلهه في السماء، فأراد فرعون أن يلتمس الأسباب للوصول إليه تمويهاً بها على قومه، فأمر وزيره هامان أن يبني له الصرح ثم عقب على ذلك بقوله: "وإني لأظنه كاذبا" (49) أي موسى كاذباً فيما أخبر به من كون إلهه في السماء، "وعليه فيكون من أنكر أن يكون الله في السماء كينونة هو أعلم بها، شبه فرعون في تكذيبه لموسى في كون إلهه في السماء، وعليه تكون الدلالة في الآية المركزية أن "في" بمعنى "على" حتى لا يجوز أن يفهم أن السماء ظرف له سبحانه وتعالى، فيكون سبحانه في أعلى علو، وهذا أيضاً تأويل للذين يعارضون التأويل" (50) قوله تعالى لعيسى عليه السلام: "يَا عِيسَى إنّي مُتَوَفِيّكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ" (51) وقوله تعالى: (بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ((52).
فظاهر هذه الآيات يدل على علوه تعالى، وارتفاعه فوق العرش، وهي ترد على المعطلين، ففي "إلي" الضمير يعود على الرب سبحانه وتعالى، إلا أن هذه القرينة قد أولت هي الأخرى والمراد بها: رافعك إلى رحمتي أو إلى حيث ملائكتي، وهناك من قال: "إذا قال" إن الله تعالى في السماء، يريد بذلك أنه فوقها من طريق الصفة لا من طريق الجهة (53) ومن ذلك ما روي في الخبر، أن جارية عرضت على رسول الله –صلى الله عليه وسلم –ممن أريد عتقها في الكفارة، فقال لها عليه الصلاة والسلام: "أين الله؟ فأشارت إلى السماء، فقال عليه السلام: اعتقها فإنها مؤمنة" (54) .
ويفهم من هذا، تجوز الإشارة إلى العلو والرد على من نفاها وتأول، وفيه أيضاً جواز الاستفهام عن الله "بأين" التي تقتضي دلالتها تحديد الجهة في اللغة، إلا أن دلالة بعض الألفاظ في القرآن الكريم تنقل من المواضعة اللغوية إلى الاصطلاح الشرعي أو العقدي عن طريق التأويل، ويعتمد في النقل الدلالي للفظ على آليات تحويلية في النصوص ذاتها، وهي قائمة على علم البحث اللغوي ونظام الدلالة اللفظية من مجالها العرفي إلى مجالها الاستدلالي العقلي، أي أنها تحولت إلى نظام من العلامات غير اللغوية، فتحولت إلى علامات ودلالات معقولة، فكلمة "أين الله" مع استحالة كونه في مكان، فاستحالة المكان بالنسبة للفظ "أين" في حق الله يعتبر نقلاً من المواضعة إلى الاستدلال العقلي العقائدي وفي كلام العرب مما يقابلها أيضاً أنهم استعملوها عن مكان مسؤول عنه في غير هذا المعنى الأصلي توسعاً وتشبيهاً لها بما وضع لها، فيقولون: أين فلان من فلان؟ وليس يريدون الرتبة والمنزلة، وكذلك يقولون: لفلان عند فلان مكانة ومنزلة، ويريدون من ذلك المرتبة في التقريب والإكرام، ويقولون: فلان في السماء أي هو عظيم الشأن رفيع المقدار.
وتكون دلالة "أين" بهذا الاعتبار على المجاز، وقال الإمام أبو يحيى زكريا الأنصاري، في هذه الآية: "من في السماء": "إن قلت كيف" من في السماء" مع أنه تعالى ليس فيها ولا في غيرها بل هو تعالى وتنزه عن كل مكان؟! قلت: المعنى بملكوته في السماء، التي هي مسكن ملائكته، ومحل عرشه وكرسيه واللوح المحفوظ ومنه تنزل أقضيته وكتبه" (55)
وقال الصابوني معلقاً: "لله تعالى جهة العلو المطلق، فهو تعالى فوق عرشه وعرشه قد أحاط بالسماوات والأرض، وإذا كان الكرسي وهو أصغر من العرش، قد أحاط بالكون وبالسماء والأرض "وسع كرسيه السماوات والأرض" فكيف بالعرش؟! فنجنح في مثل هذا إلى التفويض والتسليم، كما هو مذهب السلف "لأن تحديد الجهة من صفات الأجسام وهي مستحيلة عليه تعالى، لأنه لو كان في مكان للزم أن يكون المكان أقوى منه، لأنه حامل له واللازم باطل، وعليه فإن دلالة "في" إما على المجاز وهو تأويل وإما اللجوء إلى التسليم والتفويض، إلا أن المجاز تعطيل لدلالة اللغة وخاصة إذا كان بدون قرينة تدل على ذلك، وعليه، فإننا نثبت له ما أثبته لنفسه تعالى دون تمثيل أو تكييف، وعليه لا ننكر قول من قال: إن الله في السماء لأن اللفظ جاء به الكتاب" (56).
فقد وصف نفسه سبحانه وتعالى، بأنه فوق كل شيء لا على معنى المسافة والمساحة، وذلك أن كل ما كان فوق شيء على معنى المساحة والتمكن فيه والعلو عليه، كان دونه شيء وهو ما عليه من المكان، فقد قال –صلى الله عليه وسلم -: "أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء"، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء..." (57) وهذا الخبر يثبت تنزيهه تعالى عن المكان والزمان، ويفهم منه عدم إحاطة العقول بذاته الشريفة، لأنه يستحيل في حقه، وعليه يكون مذهب التفويض والتسليم اسلم والله أعلم.
يتبع