عذاب المصلحين
أحمد أمين
قرأتُ قوله -تعالى-: (أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنفُسُكُمْ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ) [البقرة: 87].
وقرأت حديث ورقة بن نوفل مع رسول الله –صلى الله عليه وسلم- إذ حدثه الرسول –صلى الله عليه وسلم- بما نزل عليه من وحي فقال له ورقة: "ليتني حياً إذ يخرجك قومك"، قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: ((أو مخرجي هم؟)). قال: "نعم؛ لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي".
وقرأت كثيراً من سير المصلحين المجددين، فرأيت أكثرهم في اضطهاد الناس لهم سواء، ورأيت تاريخهم يكاد يتشابه؛ دعوة حارة إلى الإصلاح يتبعها تألب العامة عليهم، واضطهادُ الرأي العام لهم، والتنكيل بالمصلح، ثم انتصار الأفكار الجديدة التي أتى بها هذا المصلح، بعد أن يكون قد انهدت قواه، أو انتقل إلى رحمة الله.
لماذا كل هذا؟ ولماذا يتشابه التاريخ حتى كأنه قانون طبيعي؟ ولماذا يتكرر هذا المنظر في الشرق والغرب وكل مكان حل به الإنسان؟
السبب في هذا الفكرة الجديدة تأتي وقد التأمت أفكار الناس على نمط خاص، وتجمعت وشد بعضها بعضاً، وتماسكت حلقاتها.
وتأتي الفكرة الجديدة غريبة عن هذه الأفكار المألوفة فلا تجد مكاناً بينها، ولا تجد نفسها منسجمة مع الأفكار الموجودة، ويشعر الناس أَنَّ هذه الفكرة نابية عن أفكارهم، غير منسجمة مع النظام العام الذي استقر في أذهانهم، فيكرهونها، ويقفون في سبيلها، وكل ما كانت الفكرة الجديدة أبعد عن المألوف كانوا لها أكثرهم كراهية ومقتاً، وأشد تحمساً لمناهضتها وطردها أو القضاء عليها.
إنَّ أفكار كل إنسان تُبنى بنياناً مما رآه وسمعه وقرأه وصادفه في حياته، وهي مع تكونها في أزمان مختلفة تكون وحدة منسجمة، ولا تقبل أن يزيد عليها إلا ما لاءمها وانسجم معها، فإذا رأت فكرة جديدة لا تلتئم مع هذا النظام المحبوك، ولا تستطيع أن تكون حلقة في شبكة العقلية المنسوجة طوردت وأقصيت.
ثم إن هذا النسيج من الأفكار يشعر أنه أتت الفكرة الجديدة الغريبة عنه، ودخلت فيه، وأفسدت نظامه، وأقلقت راحته، فهو يَصُدُّها ويقف في سبيلها، ولا يسمح بالدخول، كطائفة من الدجاج مؤتلفة منسجمة نشأت في بيت واحد ثم دخلت عليها دجاجة جديدة لم تنشأ في بيئتها، ولم تعتد عاداتها؛ فهي تطَارَدُ وتُبْعَدَ عن الحَبِّ، وتُنْقَّر، وتُعَذَّب.
ثم إنَّ المخ يشعر أنه إن قَبِل هذه الفكرة اقتضته تعديلاً في نظامه، وتجديداً في أوضاعه، وتغييراً في نسيجه، ومجهوداً كبيراً في إعادة ترتيب القديم والمألوف. وهذه عملية شاقة لا يرتضيها العقل في سهولة ويسر، ولا سيما أنه يشعر أن الفكرة الجديدة ستكلفه إعادة تقويم الأشياء، ووزنها وزناً جديداً، وهو قد استنام إلى ما حدث، وألف ما كان.
ومخ الإنسان وهو مركز عقله أحدث الأعراض وجوداً في الإنسان، ومادته التي يتكون منها رخوة هينة لينة، لم تتصلب تصلب الأعضاء القديمة في أسلافنا من الحيوان كاليد والرجل ونحوهما.
ومن أجل هذا كان المخ أشد الأعضاء حساسية بالتعب وكراهية لمداومة العمل؛ وليس من الناس إلا القليل القادر على إعمال العقل، وتحريك المخ زمناً طويلاً.
والفكرة الجديدة تُكَلِّف المخ عناءً شديداً في قبولها، لما يترتب عليها من أعمال كثيرة؛ ولذلك هو يرفض كل هذا العناء؛ فيرفض الفكرة؛ ويستريح؛ ولذلك كان أكثر الناس يخافون التفكير؛ لأنه مؤلم لهم، فما يبدأ فيه حتى يشعر بانقباض في صدره، وصداع في رأسه، وما أقل من يجد في التفكير لَذَّتَهُ.
ومن أَجْلِ هذا كان دعاة التجديد والإصلاح في كل أمة وفي كل عصر نادرين جداً، وندرتُهم لم تأتِ من ندرة الذكاء، وإنما أتت في الأغلب من ندرة احتمال العقل الصبر على البحث وراء الحق، وندرةِ الشجاعة في اعتقاد الحق والجهر به؛ فالناس -إلا في القليل النادر- يألفون الحياة كما هي لا كما ينبغي أن تكون، وهم بين من لا يجد زمناً إلا لتحصيل قُوْتِه، ومن يجد الفراغ، ولكن لا يستطع عقله الصبر على البحث الحر، أو يجد كل ذلك ويستطيعه، ولكن لا يستطيع الجهر به؛ لما يتوقع من متاعب وآلام: مساسٍ بسمعته، وقدحٍ في ذمته، وتهكمٍ على عقله، وتجريحٍ لِخُلقه، ونيلٍ من دينه.
والتاريخ يجري على نمط واحد منذ تكونت الجمعية البشرية إلى اليوم، يلمع فيها أفراد قلائل في كل عصر، يخرجون على إلف الناس، وما اعتادوه في أفكارهم وعقائدهم وعواطفهم؛ فيتألب عليهم الناس؛ لكسلهم العقلي، ولأن الدعوة الجديدة تقلق راحتهم وتدعوهم إلى قلب نظامهم العقلي والعاطفي، كالذي يدعو كسلاناً أن يغير نظام بيته أو نظام معيشته، وبدلاً من أن يوجه غضبه إلى نفسه؛ لكسلها أو جمودها، يحول غضبه على من سبب له هذا القلق؛ ثم لا يقتصر على محاربته بالأساليب الشريفة، بل يحاربه بكل سلاح، ولا يتورع عن أن يختلق عليه، ويتهمه بما يستطيع من تهم، ويرى أن كل وسيلة تقضي إلى قتل هذه الفكرة الجديدة جائزة ومشروعة؛ فإذا وصل إلى هذا الغرض بإعدام الفكرة أو إعدام قائلها، اطمأن واستراح؛ لأنها تتفق مع طبيعته في الكسل، واستنامته إلى ما ألف.
وقد اعتدنا أن نجد مسألتين تتصلان بهذه الظاهرة التاريخية:
الأولى: أن أكثر من يناصر الفكرة الجديدة يكونون عادة من الشباب، أو من ينتفع بها من الطبقات والأفراد؛ وتعليل ذلك واضح؛ فالشباب لم تتجمد بعد شبكة أفكارهم، ولا يزال فيها مرونة تصلح لأن تتقبل شيئاً جديداً كما تصلح للتشكيل الجديد، ولأن عواطفهم الحارة ترحب بالشيء الجديد الذي يتطلب منهم عملاً وقوة ونزالاً.
وأما من ينتفعون بالفكرة فأمرهم واضح، فقد ارتبطت الفكرة بمصالحهم، فهم يؤيدونها لما وراءها من مغنم.
والثانية: أننا نرى في الغالب تأييد السلطات للفكرة القديمة ومناهضتهم للفكرة الجديدة، سواء كانت الفكرة الجديدة تمسهم مباشرة أو لا تمسهم؛ وسبب ذلك أن السلطات في الغالب تتطلب السلامة أكثر مما تتطلب التقدم، والرأي العام والسواد الأعظم من الناس يناصر الأفكار القديمة لما أسلفنا؛ فالسلطات يهمها محافظة على السلامة والطمأنينة والهدوء أن تغضب على من يغضب الرأي العام، ويقلق راحته، لأن في راحة الجمهور راحة السلطات، ولأن السلطات كالأفراد أحب شيء إليها راحتها من التفكير، ومن وجع الدماغ، والفكرة تحمل في ثناياها حرباً، وحركة، واضطراباً، وانقساماً إلى معسكرات، وذلك يتطلب مجهوداً من السلطات كانت في غنى عنه؛ فهي أيضاً تغضب على من سبب لها هذا القلق والاضطراب، ودعاها إلى التفكير، ورسم الخطط.
لهذا كانت عظمة المصلحين في تحملهم هذه الصعاب كلها أكثر من عظمتهم في العثور على الحق؛ لأن عثورهم على الحق في هدوء بينهم وبين أنفسهم، أما تحقيق هذا الحق فلا يتم إلا بكل هذه المصاعب التي ألممنا بها.
ومع هذا فإنا نرى أن الأفكار الجديدة الصالحة تبقى على الرغم مما لاقت من صعاب، وعلى الرغم من موت دعاتها، بل إن موت دعاتها يخفف من غضب المعاندين للفكرة؛ لأن السواد الأعظم من الناس لا يستطيع الغضب على المعاني ما لم تُجَسَّم في شخص؛ فإذا مات هذا الشخص الحسي فترت قوة المعارضة للمعاني، ويأتي جيل الشباب الذي اعتنق الفكرة الجديدة، فيكتسح الجيل القديم المعارض، ويتبوأ مراكزه في الحكم وفي العمل، فتسود أفكاره، حتى تبلى أفكاره وهو أيضاً، ويمثل الدور من جديد.
هذا هو قانون الطبيعة منذ خُلِقَ الإنسان، يجري الناس شوطاً، فيلهم القادة فكرة أو أفكاراً يستلزمها الرقي، فيعارضها أعداء الرقي، ثم يموت الدعاة والمدعوون، ويموت النزاع، وتسود الفكرة، ثم يتجدد تمثيل الرواية.
ولو وقف الأمر عند هذا الحد لكان طبيعياً، ولكنَّ الناس بجهلهم يخلقون معسكرات غير طبيعية تدعو إلى النزاع غير الطبيعي، فيفتحون مدارس تعلم على أنماط مختلفة، فتخلق عقليات مختلفة، ويعددون النظم التي تخلق مطامع مختلفة، ويشرعون نظماً اقتصادية تكون طبقات متعادية، إلى أمثال ذلك، فيكثر العداء بين الأفكار، ويضيع جهد المصلحين في التقريب بين العقليات، مع أن عوامل التبعيد الأساسية لا تزال تعمل عملها.
والأمة العاقلة التي يدرك قادتها هذه الحقائق تقضي على عوامل هذه الاختلافات، ولا يبقى لديها حرب في الآراء إلا ما تقضي به الطبيعة مما يتفق وتقدم الزمان.
ـــــــــــــــ
(*) فيض الخاطر (3/141-144)