الاختلاط . . (هَمٌّ) و (وَهْمٌ)
فهد بن صالح العجلان
من الأقوال المألوفة التي قد اعتدنا على تداولها وتناقلها حتى غدت من الأشياء (الملقاة) على قارعة الطريق- كما يقول أديب العربية الرافعي- وبلغ التكثيف بها لحدّ أن يتوّهم بعض الناس أنها من المسلّمات الفقهية.. القول بأن: المحرّم في الشريعة هو (الخلوة) لا (الاختلاط)، وأن المجتمع المسلم في نشأته الأولى كان مجتمعاً مختلطاً يجتمع فيه الرجال والنساء، ويسوقون في سبيل ذلك النصوص والأدلة الشرعية المؤيّدة له.
وتلقائياً.. يأتيك من يحكي الخلاف في المسألة بأن منع (الاختلاط) هو مذهب الحنابلة، وأما مذهب الفقهاء الآخرين فهو الجواز.. كما يفعلون في كلّ المسائل التي يرونها شهيرة في المجتمع السعودي؛ إذ ينسبونها قولاً فقهيّاً من مفردات الحنابلة في مقابل الجمهور، من غير بيّنة على ذلك سوى أنه يشاهد كثيراً من المجتمعات الإسلامية لا تلتزم بهذا القول مما يدلّ على أن هذا مذهب الجماهير، فهو يتصوّر أن مذهب الفقهاء هو ما يفعله الناس في هذه الأيام.
دعونا من مذهب (الحنابلة).. وتخيّروا ما شئتم من مذاهب السادة الفقهاء.. ولكم حرية الاختيار في القرن الفقهي الذي تريدون.. واحضروا أي كتابٍ تهوون.. فإنكم ولا بدّ ستجدون أن من العبارات الفقهية المألوفة لدى جميع أصحاب المذاهب على توالي القرون (والمرأة ليست أهلاً لمجامع الرجال) و (المجامع التي يختصّ بها الرجال) ونحو هذه العبارات التي تساق كمسلّمات، بل وتذكر كأدلة فقهية لإلزام الرأي الآخر.
فمثلاً: حين يردّ جمهور الفقهاء على الحنفية في قولهم بصحة (قضاء المرأة) في بعض الأحكام: يوردون عليهم أن (المرأة ليست أهلاً لمجالس الرجال)، فيجعلون هذا الكلام كدليلٍ على إبطال قول الحنفية، وهو أمر يسلّم به الحنفية، وإلا لما كان لمثل هذا الكلام في الردّ عليهم أي معنى، وستجد النقولات الكثيرة في ذمّ الاختلاط ووجوب الستر، وحثّ المحتسبين على متابعة هذا الأمر وتأديب المخالفين.. إلى ما شاء الله من النصوص التي لا طاقة بأحد على استقصائها...
إذا كان الأمر كذلك.. فمن أين دخل علينا مفهوم أن المحرّم هو (الخلوة) لا (الاختلاط)، وأن المجتمعات الإسلامية في عصر الإسلام كانت مجتمعات مختلطة؟ ثمّة عدة أوهام سبّبت هذا الأمر، ولعلّي أخصّ بعضاً منها:
(الوهم الأول): تصوّر أن التحريم في الشريعة إنما جاء في خصوص الخلوة دون الاختلاط، وللأسف.. أن يقول بهذا الكلام من يدعو للعمل بالمقاصد الشرعية، فعجباً: كيف تحرم الخلوة ويباح الاختلاط؟
إذا كان اجتماع الرجل مع المرأة في مجلس خالٍ، وهي محتشمة، وهو منشغل عنها بأي شغل يعتبر محرّماً بالنصّ والإجماع، مع أن ثمّة موانع تحول دون حصول المكروه من الحياء، وخشية الفضيحة، والجهل بالطرف المقابل ونحوها.. فهل يكون هذا محرّماً.. واللقاء المتكرر المختلط في (قاعات الدراسة) و (أروقة العمل) أمراً مباحاً مع ما تقتضيه طبيعة اللقاء المتكرر والعمل المشترك من (مودّة) و (ابتسامة) و (لطافة) و(مصافحة) و (مقاربة) و (إزالة كلفة) وأمور لا تخفى على أحد، فأي جمود فقهي وظاهرية يابسة تلك التي تحرّم الخلوة وتبيح الاختلاط، وواقع الأمر أن دوافع الفساد والانحراف في الاختلاط أضعاف ما هي في الخلوة؟
ثمّ إن (الاختلاط المتكرر) يمهّد لحصول الخلوة بأبشع وأشنع صورها، فتهيئة الأجواء المختلطة، وتطبيع الناس عليها، وتنشئة أجيال المسلمين على إذابة الحساسية والكلفة بين الطرفين يعين ويمهّد لحصول الخلوة التي (نقطع) بحصول المكروه فيها لا بالخلوة التي هي (ذريعة) للمكروه.
أريد أن أفهم: الشريعة تأمر بالمرأة(بالقرار) في البيت، وإذا خرجت فهي (عورة) يستشرفها الشيطان، فلا بدّ من (الحجاب) و (ترك) التعطّر والتزيّن و(مأمورة) بأن لا تخضع بالقول ولا تخلو بالرجال، والرجل يجب عليه أن (يغضّ) بصره عنها هذه الأحكام.. فكيف يحصل لقاء مختلط متكرّر مع هذا؟
وإذا كانت الشريعة قد (أسقطت) عن المرأة الجمع والجماعات، مع ما فيها من فضيلة؛ لأجل حثّها على القرار في البيت، بل وصلاتها في بيتها خير لها من صلاتها في المسجد، مع ما في صلاة الجماعة من أجر الجماعة، وسماع القرآن؛ ترغيباً للمرأة في القرار، وإذا أبت إلا الحضور في المساجد، فإنها ممنوعة من الاختلاط بالرجال في وقت العبادة، والذكر، والاجتماع المفتوح الآمن، بل صفوف الناس الأخيرة خير لهنّ لما فيها من مزيد بعد وصيانة، أفيكون هذا خاصّاً بالمسجد والأماكن الآمنة؟ وأما مقاعد الدراسة والعمل فشيء آخر أطهر وأبرّ!
إن القول بتحريم الخلوة يتضمّن في ذاته القول بمنع الاختلاط؛ لأن تحريم الخلوة مبنيٌّ على ما في علاقة الرجل بالمرأة من حساسية تقتضي سدّ الذرائع المؤدّية إلى أي تلويث يمسّ هذه العلاقة، وبالتالي: فمن يحرّم الخلوة لا يمكن أن يقول بقول الصحفيين التائهين: (إن العلاقة بين الرجل والمرأة علاقة تسودها الثقة والاحترام لا الجنس والشهوة)؛ لأن من يقول بهذا يلزمه أن لا يحرّم الخلوة، فالاحترام إن كان هو صفة علاقة الطرفين، فهو موجود في الخلوة والجماعة، وإن كان ثمّة حساسية وكلفة فهي موجودة فيهما، وأما من يمنع الخلوة ويجيز الاختلاط فهو في شتات.
(الوهم الثاني): - أن الاختلاط ليس محرّم بإطلاق، بل منه الممنوع والمباح، فإذا وجدت الضوابط الشرعية كان اختلاطاً مباحاً، -ولتبديد هذا الوهم يجب أن نراعي أن كلمة (الاختلاط) من الكلمات العائمة الموهمة، وقد كان الواجب على الطرفين أن يحددوا مفهوم الاختلاط المتنازع فيها حتى يكون النزاع على أرضٍ واحدة.
فالبحث مع المخالفين ليس في مجرّد (لقاء عابر) بين رجل وامرأة (لحاجة) أو (عارض) أو (بكيفية) آمنة فهذه صور ليست هي محلّ النزاع، وفي المجتمع السعودي الذي يصفونه بالانغلاق من أشكال الاختلاط في الأسواق والدوائر الحكومية الشيء الكثير وما زالوا يطالبونه بالاختلاط مما يعني أن الاختلاط المقصود ليس هو هذا الاختلاط بل هو نوعية معينة من الاختلاط. -المقصود طبعاً.. هو الاختلاط المفتوح الذي تزول معه الحساسية بين لقاء الرجل والمرأة، مما يكون مع اللقاء طبيعيا كلقاء الرجال، يلتقون سوياً في (مقاعد الدراسة) و (أماكن العمل) و( المناسبات العامة) ونحوها، فهل يمكن في مثل هذه اللقاءات أن تكون جائزة وعلى وفق الضوابط الشرعيّة؟ إنّها صورة حالمة غارقة في المثالية، تعمي بصرها عن الواقع المخزي للمجتمعات المختلطة وآثار الفساد الناخر في بنائها، وتذهل عن الميل الفطري الذي يسكن في نفس كلّ ذكرٍ وأنثى، وتتخيّل عالماً افتراضيّاً تنزل عليه الحكم الشرعي، فتلقي بالشاب والفتاة في النهر وتقول: إياك إياك أن تبتلّ بالماء!
إنّ الاختلاط المحتشم الذي يذكرون هو اختلاط قائم على ضوابط ذاتية تعتمد على ضمير الفرد، من شاء أخذ بها ومن شاء تركها، فهي طريقة تذلّل الفساد للفتيان والفتيات، وتطالبهم بأن يكونوا ملتزمين ومنضبطين، ولن تستطيع أن تستقيم فتضع ضابطاً فاصلاً بين الاختلاط المحتشم وغير المحتشم؛ لأنك لا تعلم ما في قلوب الناس ولا ما بنظراتهم، وما فعلوا سوى أن ستروا الاختلاط المبتذل ليكون مقبولاً أو قريباً من المقبول، وأزيدك بياناً.. بأن ذوي الفكر المنحرف وأتباع الشهوة ليس لديهم أي مشكلة مع مفهوم الاختلاط المحتشم، بل هم من أحرص الناس على إشاعته والترويج له بين الناس؛ لأنهم يعلمون أن القبول بالاختلاط المحتشم هو قبول بكل الاختلاط، وأن ما هم عليه من تفسّخ وخلاعة وانحلال هو من الاختلاط الذي لن يكون بعيداً عن الاختلاط المحتشم.
(الوهم الثالث): - أن المجتمع في عهد النبيّ - صلى الله عليه وسلم - كان مجتمعاً مختلطاً، ويسوقون في سبيل ذلك النصوص الدالة على حضور النساء في بعض مجامع الرجال في ذلك العهد الطاهر، وهذه الطريقة في الاستدلال فيها خلط واشتباك سبّب هذا التشويش في النظر:
أولاً: من جهة عدم التفريق بين النصوص الواردة قبل الأمر بالحجاب وما جاء بعده، فالقائلون بالاختلاط يسوقون النصوص من غير تمييز، مع أن الأمر بالحجاب جاء متأخّراً وكان النساء قبل ذلك على ما كنّا عليه قبل الإسلام، فمن الضروري أن يميز النصّ فيما كان قبل آية الحجاب وفيما كان بعده، غير أن الكثيرين يسوقون النصوص ليتشبثوا بها على جواز الاختلاط بغضّ النظر عمّا يلزمهم في هذه الطريقة من لوازم شنيعة.
خذ مثلاً: يستدلّ بعضهم على الاختلاط بدخول النبيّ - صلى الله عليه وسلم - على أم سليم، ومنامه في بيتها، وتفليتها لشعر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما في القصة الشهيرة، وقد تكلّم العلماء عليها وحملوها على محامل كثيرة تجتمع فيها الدلائل الشرعيّة.. لكنّ بعض الناس يسوقها ليدلل بها على الاختلاط.. ولو تأمل لعلم أن الحكم في الحديث ليس اختلاط فقط، بل خلوة ونوم في بيت أجنبية وقيام المرأة بمسّ الرجل.. فهل هذه كلّها جائزة أيضاً.. ؟
هنا يظهر دور العالم الفاحص الذي يجمع النصوص ليتوصّل بها للحكم الشرعي لا من ينتزع الدلائل المحققة لغايات البحث المقصود.
والأمر الثاني من الخلط في هذه النصوص: أن جميع النصوص تدلّ على اختلاط جاء لحاجة، أو لعارض، أو لطارئ تؤمن فيه الفتنة، ولا يتصوّر فيه إثارة، وهذا الأمر لا ينازع فيه أحد ولا يقول أحد فيه شيئاً، فالمرأة تسلّم على قريبها، أو تسأل المفتي، أو تدخل سوقاً لحاجتها، أو تدخل مسجداً لتؤدي الصلاة، وكلّ هذه حالات خلطة لا إشكال فيها، وهي قريبة من النصوص التي يسوقونها في مجتمع النبوّة.
الخلاف بيننا: هو في مجتمع مختلط، ترتفع فيه الكلفة و الحشمة بين الرجال والنساء؛ ليحصل اللقاء دوماً في المدارس، والعمل، والأعراس، والمطاعم، فهل كان الناس في عهد النبيّ - صلى الله عليه وسلم - كذلك؟ وكيف يكون حالهم كذلك.. والمرأة تحثّ على ترك الصلاة في المسجد، وإن أبت فتلزم بترك التزين والتطيب وتتوعّد عليه، وتحثّ على ترك الاقتراب من الرجال، وهي وهم في صلاة في المسجد جماعة، ويضع النبيّ - صلى الله عليه وسلم - للنساء باباً خاصّاً وينهى الرجال عن الدخول منه، ويأمر الرجال أن يمكثوا قليلاً بعد الصلاة لينصرف النساء.. وهذه الاحتياطات في العبادات الجماعيّة التي تقام في بيوت الله، وليس في مقاعد السينما ونوادي الرياضة؟
إن النصوص التي يسوقونها - لو تأملوا- دليل عليهم؛ لأنها تدلّ على أن الاختلاط كان عارضاً وطارئاً؛ لأجل ذلك احتاجوا لجمع الأدلة عليه، ولو أن الاختلاط هو الأصل والسائد لأصبح معلوماً بالضرورة من غير حاجة لمثل هذا الحشد، فلستَ بحاجة لأن تعلم أن الرجال في عصر النبي - صلى الله عليه وسلم - كانوا يصلون في المسجد، ويسلمون على بعض، وينامون في بيوتهم، ويتزوجون، ويأكلون؛ لأن هذا من الأمور الظاهرة المشتهرة، فلو كان ثمة اجتماع دائم بين الرجال والنساء لكان من المعلوم الذي يتناهى علمه إلى الجميع لا أن يتوصّل إليه من خلال حشد النصوص من قبيل: (دخلت امرأة فسلمت) و (قالت امرأة للنبي - صلى الله عليه وسلم -) ونحو هذه الدلائل.
خاتمة القول: إن الاختلاط (وهمٌ) وقع فيه بعض الفضلاء؛ لتأويل واجتهاد يعذرون فيه، ويقبل منهم أكثر حين نعلم أنهم درجوا في بيئات مختلطة، فلم يكن قولهم بجواز الاختلاط أثراً في نشر الفساد والانحراف، بل كان سيكون لقولهم بمراعاة الضوابط الشرعيّة دوراً إيجابيّاً في تخفيف الشرّ الحاصل من غلواء هذا الاختلاط.
وأما إشاعة القول في مجتمعات محافظة سليمة من الاختلاط وآثاره، قد رفضه المجتمع ديانة ونخوة وحمية وعادة، فهو (همّ) يقلق بعض الناس، يصبح معهم، وينام ويستميتون في الترويج له، وهي لوثة فكرية تستر نفسها بعباءة فقهية، فالفقيه غيور على حرمات الناس ثائر في وجه المنكرات وألوان الفساد، وليس عجلة في قطار الزجّ بمجتمعات المسلمين في متاهات الكهوف المظلمة بالفساد والريبة.
لا زلت غير قادر على فهم من يدّعي (المسلك) و (الخلاف الفقهي) في هذه المسألة، حين يسطّر عشرات المقالات بجهادٍ متواصل لاستحثاث الخطى لفكّ قيود الاختلاط بينما لا يجود قلمه بنقطة حبر عن الاختلاط (الآثم) الموجود في كثير من المجامع مما يسلّم بحرمته إبليس، بل إنّ الإنكار على صور الاختلاط فيها يجعل ذلك الشخص يتذّكر مسألة الاختلاط المباح المحتشم..فهل هذا كلّه مجرّد خلافٍ فرعيّ وتَقَفٍّ لجوادّ الفقهاء